اتّساع حركة التضامن الدولي مع فلسطين، وانتقالها خطوة ملموسة لربط السياسات الكولونيالية العنصرية للاحتلال الاسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني بالمعركة التقدمية الكونية للشعوب المناهضة للعنصرية والكراهية ومن أجل الحرية والعدالة وحق الشعوب في تقرير مصيرها، يُشكّل نقلة نوعية لصالح القضية الفلسطينية، ولكنه يستدعي جهدًا استثنائيًا وأدوات جديدة قادرة على تحويل مخزون وطاقة التضامن الهائلة للشعوب إلى سياسات رسمية لدولها في معركة مواجهة وتفكيك الطابع العنصري لدولة الاحتلال، تمهيدًا لتحرير العدالة في هذه البلاد وتمكين شعبنا الفلسطيني من تقرير مصيره، سواء في دولة واحدة دون تمييز من أي نوع بين جميع مواطنيها، أو من خلال تسوية تضمن ممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه الوطنية التي أقرّتها الشرعية الدولية بالعودة والاستقلال الوطني في دولة مستقلة على كامل حدود عام 1967، تُمهِّد الطريق نحو حل تاريخي ديموقراطي غير عنصري للصراع.
ورغم تصاعد الأزمة الاقتصادية الكونية، وتداعيات انتشار وباء كوڤيد، بما في ذلك اتّساع نطاق ظاهرتي الفقر والغلاء التي تعاني منهما المجتمعات والشعوب الفقيرة والغنية، وإن بنسبٍ متفاوتة، إلا أن مؤشر استمرار حالة التعاطف والتضامن الدولي بقي ثابتًا ويتقدم، بل ويصاحبه تنامٍ ملموس في مناهضة سياسات الاحتلال الاسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني لدى أوساط الرأي العام في دول صناعة القرار الدولي، سيّما في الولايات المتحدة وبريطانيا وباقي دول أوروبا الغربية، التي تعتبر أن اسرائيل تشكل عنصرًا أساسيًا لعدم الاستقرار الإقليمي والدولي، بل وتتنامى المطالبات بفرض عقوبات عليها.
هذه الظاهرة المتنامية، والتي بلغت ذروتها خلال الحرب الأخيرة ضد شعبنا في قطاع غزة، وما كرّسته من صورة القتل والتدمير الوحشي الذي ارتكبه جيش الاحتلال ضد المدنيين والمرافق المدنية والسكنية، وانكشاف الطبيعة العنصرية للاحتلال، سيما في مواجهات القدس ومحاولات التطهير العرقي في الشيخ جراح؛ هذه المتغيرات باتت تقلق حكومة الاحتلال، وتهدد استراتيجياتها التي تعمل بصورة مكثفة لتقويض الحقوق الوطنية الفلسطينية، وتهميش مكانة قضيتنا الوطنية على الصعيدين الإقليمي والدولي. وقد استثمرت اسرائيل موازنات مليارية لمعالجة هذه التحولات، مستفيدة لأقصى حدٍ من تفكك الحالة العربية والانقسامات الفلسطينية.
المعضلة التي نعاني منها تتمثل في انشغال النظام السياسي الفلسطيني المنقسم على نفسه، في صراع محموم على التمثيل على حساب الحقوق الوطنية والجهد المطلوب لمحاصرة المخططات الاسرائيلية، التي تسعى لتدجين تلك القوى المهيمنة على الحالة الفلسطينية واحتوائها، ولتحقيق اختراقات استراتيجية على الصعيدين الإقليمي والدولي من خلال تكريس الانقسام وتوسيع نطاق اتفاقيات التطبيع مع الدول العربية، التي تجري على قدمٍ وساق.
إن الصراع الدولي على إعادة رسم خريطة المنطقة، في ظل هذا الانشغال الخطير لمكونات النظام السياسي الفلسطيني، ستكون له آثار وخيمة على مستقبل القضية الفلسطينية، والتي يجري محاولة التخلص من أثقالها في ضمير الشعوب العربية، وقيم الحرية والعدالة لدى شعوب العالم قاطبة.
إن استمرار مناشدة القوى المهيمنة على المشهد العام في فلسطين، والتي لا تكترث إطلاقًا لوجع الناس وتطلعاتها الوطنية، والمخاطر التي تهدد مستقبل القضية، لم تعد تجدي نفعًا. ويبدو أنها ليست سوى مضيعة لمزيد من الجهد والوقت. لقد آن أوان نفض غبار ثقافة الهزيمة والفئوية الزبائنية الإقصائية التي تعشعش في أوساط تلك القوى على ضفتيّ الانقسام، والعودة لجذور القضية الوطنية وبوصلة الصراع، وللقوى الاجتماعية التي لها مصلحة حقيقية في تغيير الواقع الراهن والخلاص التام من الاحتلال، والانطلاق بها نحو إعادة تأسيس الوطنية الجامعة.
قد تبدو هذه المهمة وكأنها مستحيلة، سيما في ظل فشل المحاولات السابقة التي ظلّت تدور في دائرة النخبوية الانتقائية والفرز المصطنع، متجاهلةً مدى اتساع التيار الوطني الديمقراطي العريض ومصلحة الأغلبية الساحقة التي تحتاج للتغيير، ومستعدة للانخراط المنظّم لتحقيقه. فالتحدي الحقيقي والتاريخي هو كيف يمكن بناء الأمل بالقدرة على إعادة بناء الحركة الوطنية كجبهة عريضة للإنقاذ الوطني القادرة على النهوض بالطاقات الشعبية ضد الاحتلال ومشاريعه التصفوية، واستثمار التحولات الجارية في الرأي العام الدولي لترسيخ فلسطين مجددًا في قلب الخارطة الجديدة التي يجري محاولة إعادة رسمها للمنطقة .