الحدث – ريتا أبو غوش
"عندما تمتلك المال، تمتلك القوة والقرار"، وهذا حال العالم اليوم، فليس بالغريب أن تكون الدول النامية اليوم هي مستعمرات سابقة للدول الاستعمارية الغربية، ولكن من المثير للاهتمام أن تتمكن دولة كسنغافورة من النهوض لتصبح إحدى أكثر الدول تطوراً بعد أن كانت مستعمَرة من قبل اليابان والامبراطورية البريطانية لتخط نموذجاً جديداً في التاريخ الحديث.
لكن عند النظر إلى السياق الفلسطيني الاستعماري وفي ظل وجود الاحتلال، تكاد تكون فرص خلق نموذج تنموي اقتصادي كسنغافورة معدومة، واجتمعت آراء المحللين والمراقبين حول صعوبة الخروج مما خلقه الاحتلال في المجتمع والاقتصاد الفلسطيني.. فكيف تمكنت سنغافورة من التحرر من قيود الاستعمار الشتى؟ وهل من المستحيل خلق نموذج مشابه في السياق الفلسطيني؟
كانت سنغافورة جزيرة صغيرة جعل منها الاستعمار البريطاني محطة تجارية ومحورية في الامبراطورية البريطانية، ورغم ذلك تمكن "لي كوان يو" الذي أصبح أول رئيس وزراء سنغافوري، ومؤسس حزب العمال الوطني، من قلب المعادلة لصالح شعبه، فتمكن من إدراك أهمية سنغافورة الجيو-سياسية وامتدادها على طول مضيق "ملقا" الذي يمتد من خلاله أهم طريق للتجارة بين الشرق والغرب، فأعلنت استقلالها عن الاستعمار البريطاني وانضمت للاتحاد الفيدرالي الماليزي (لتنفصل عنه لاحقاً لأسباب أيدولوجية).
وعمل مؤسس سنغافورة "لي كوان يو" على اعتماد الطرق غير التفليدية لرفع مستوى التنمية، إذ أدرك أهمية التعليم وعمل على فرض تدريس العلوم والرياضيات والحواسيب في المدارس، واعتماد البعثات العلمية، وتوحيد اللغة والهوية الوطنية في جزيرة تضم قوميات متعددة، فجمع بين الانضباط والانسجام في آن واحد، وخلق نموذجاً نادراً يجمع بين البراغماتية في الحرية المدنية والسلطة المركزية الضيقة والحزب الواحد، واتبع سياسة المحاسبة للمسؤولين وملاحقة الفاسدين، فكان أول من خلق نموذج "من أين لك هذا؟"، وتمكن من فعل ذلك كله على الرغم من كون سنغافورة جزيرة صغيرة نائية لا تزيد مساحتها عن 650 كم، تفتقر للموارد الطبيعية والحيوية استنزفها الاستعمار وعمّق مشاكلها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
وحول تشابه الحيثيات بين فلسطين وسنغافورة، قال الخبير الاقتصادي هيثم ضراغمة إنّه وعلى عكس التجربة السنغافورية، فإن الفلسطينيين يعملون على التخطيط الاستراتيجي لما هو أصعب، بينما خططت القيادة السنغافورية للظروف المتاحة، وتخطي العقبات الاقتصادية والاجتماعية التي خلفها الاستعمار، فبدأت بتأهيل الإنسان الفكري قبل التأهيل والنهوض الاقتصادي، مضيفاً أنّه في السياق الفلسطيني من السهل أن يتم الاستثمار الفكري والانساني بالفلسطينيين لا سيما مع وجود ثقافة وطنية جامعة، لكن الصعوبة تكمن في بناء كينونة مستقلة تمكننا من اتخاذ القرارات والاستفادة من الموارد، وهو ما يحرص الاحتلال على تقويضه أكثر من أي وقت مضى.
الاعتماد على المساعدات لن يقربنا من التجربة السنغافورية قيد أنملة:
وأضاف ضراغمة في حديثه لـ"الحدث" أنّ الاتفاقيات الاقتصادية المبرمة والاعتماد الزائد على المساعدات لتحريك الاقتصاد لن يقربنا من التجربة السنغافورية، فما زال الفلسطيني يتخبط منذ عام 1993 حتى يومنا هذا لمحاولة خلق نواة اقتصادية، لكن ما زال المستوى السياسي يطغى على إمكانية خلق هذه النواة. وعلى الرغم من كافة المحاولات السياسية والدبلوماسية التي قد تثمر مكاسب سياسية، إلّا أنّه لا يمكن بناء اقتصاد متكامل بمعزل عن قطاع غزة والقدس على الإطلاق.
وحول ما يجب فعله للاقتراب من النموذج السنغافوري، يرى ضراغمة أنه يجب الاستثمار بالموارد البشرية وتطوير الأداء السياسي والاقتصادي للمؤسسة الفلسطينية الرسمية كتعزيز دور وزارة التخطيط، إضافة إلى السعي وراء استغلال المساعي الدبلوماسية للعمل على استغلال الموارد والثورات الطبيعية من خلال الاتفاقيات المعنية بذلك لا سيما مع اكتشاف بؤر الغاز الطبيعي والنفط في الأراضي الفلسطينية، وكلّ ذلك يعمل على خلق بؤرة ولو صغيرة للاقتصاد والتنمية.
ويرى أحد المحللين الاقتصاديين أن ذلك غائب عن المشهد الفلسطيني وقيادته، فعلى الرغم من توفر العقول الفذة والحيثيات الجغرافية المشابهة، إلّا أن منطق اتخاذ القرارات الرسمية في فلسطين لا يعمل على التحرر من التبعية الكاملة للاحتلال التي نتجت عن اتفاقية أوسلو وبروتوكولات باريس إلى يومنا هذا، بل أحيانا يعمل على تعميقها، وأنّ راسمي السياسيات اليوم لن يتمكنوا من خلق نموذج وظاهرة فريدة كسنغافورة.
وعلى الرغم من كون التحرر من السياق الاستعماري بشكل كامل أمر غير مستحيل، إلّا أن السياق الفلسطيني يختلف كليّاً، فيرى المحلل الاقتصادي ماهر الطباع أنّه لا يوجد اقتصاد حقيقي في فلسطين، فالاحتلال يسيطر على الحدود والمعابر والموارد الطبيعية عدا عن الاتفاقيات السياسية والاقتصادية المكبّلة، فالسياسيات الإسرائيلية تقوّض الاقتصاد، وتحاصر قطاع غزة، وتجهض أي محاولة للنمو والتوسع.
وأضاف الطباع في حديثه مع "الحدث" أنّه لا يمكن تطبيق نموذج سنغافورة الاقتصادي والتنموي في فلسطين دون الوصول لحل سياسي جذري وبالتالي اقتصادي، وهو ما تمكنت من عمله سنغافورة، حيث توصلت لحل مدَّها بالاستقرار وبالتالي الحجر الأول لتأسيس مجتمع متطور ومنتج.
وأردف الطباع أن الموضوع لا يقتصر على الاهتمام بالجوانب التعليمية فحسب، فنسبة التعليم في فلسطين وفق الاحصائية الأخيرة كانت 95%، وهي من أكبر النسب بالنسبة للعالم العربي، إلّا أن طبيعة السوق لا توفر فرص عمل للخريجيين، وهو ما تمكن "لي كوان يو" من خلقه على الرغم من تردي الأوضاع الاقتصادية والسياسية آنذاك، بل وحتى فاق الناتج المحلي الاجمالي للفرد الواحد في سينغافورة الفرد الأميريكي عام 2014، بينما ما زال الفلسطيني يتكبد أعلى نسب غلاء المعيشة في الدول النامية التي لا يتجاوز فيها الناتج المحلي الاجمالي الـ2000 دولار.
اعترف العالم بالنموذج التنموي الذي خلقته سنغافورة وتمكنها من جعل هذه الظاهرة عبرة لكافة الدول النامية المستعمَرة سابقاً، في المقابل وفي السياق الفلسطيني يعلم الاحتلال مليّاً أهمية الاقتصاد وتمكينه من اتخاذ القرارت السياسية الفاعلة والمؤثرة، لكن يبقى الاستقلال والحل السياسي الجذري الخطوة الأولى للنهوض بنواة الاقتصاد، فإن وجدت مظاهر رفاهية واقتصادية منعشة في فلسطين، فهي إن دلت على شيء إنما تدل على تبعيتها الكاملة لاقتصاد الاحتلال الأكبر والأوسع الذي يجهض أي محاولة لولادة اقتصاد فلسطيني مستقل.