انخرطت في حديث ودِّي مع سائق التاكسي، أحاول تهدئته بجمل رغدة ومخملية تنهل من تركة مخزوننا الشعبي؛ ربما استعاد هدوءه ورباطة جأشه، نتيجة انفعاله الشديد فأخذ غاضبا يلعن التاريخ والجغرافية وما بينهما، جراء مفعول سلوك سائق آخر انتشل منه رُكّابا، بطريقة غير مهنية تخلّ بالقوانين التي تنظم حسب الأعراف؛ نظام عملهم اليومية.
والحالة تلك، أصبح مضطرا لطَيِّ مسافة تمتد من الضاحية غاية المدينة، بسيارة تحتاج أساسا إلى حمولتها المفترضة عَدَديا حتى لا يخسر في رحلته تلك، هامشا ربحيا؛ مهما عوضته أنا الراكب الوحيد، فلن يكون حسب تخميني كافيا لسد الفجوة؛ مادامت المسافة لا تقل عن ثلاثين كيلومترا، وأثمنة المحروقات أضحت في زمننا العجيب والغريب تقارع نفائس الأساطير الآشورية، بالتالي تحتاج خطوطها البيانية، إلى مختصين استثنائيين في الكتابة المسمارية لتفكيك طلاسمها.
-''لا تحزن يا أخي، حتما ستصادف زبائن عندما ننعرج نحو الطريق الأساسية، فالمناسبة عطلة كما تعلم، وبالتأكيد سينتعش سعي حشود الناس وجهة المدينة''.
هكذا خاطبته، فأبدىت أساريره حقا شيئا من انبساطها، دون التفات إلي، وقد انكب بمجمله على تقليب إشارات التقاط أمواج أثير الراديو.
على بعد خطوات قليلة، بزغت بغتة أطياف ثلاث فتيات يهرولن من وسط خلاء نحو واجهة الطريق، ملوِّحات بكل جوارحهن نحونا. شكَّل حضورهن بالنسبة للسائق لفتة سماوية لا تقدر سقطت في الوقت المناسب جدا.
شابات في حدود العشرينات، غادرن مآويهن بأقمصة رياضية ذات ألوان فاقعة ومزركشة، تكشف دون مواربة عن تضاريس أجسادهن الممتلئة باستفاضة، وخصلات شعورهن منسابة دون تصفيف يذكر، لا زالت ملامحهن متعبة كما يتبدى من أول وهلة؛ تجتر بكيفية لا غبار عنها، تفاصيل إرهاق ليلي. أجساد منتفخة جزافا، دون تناسق أو وجهة موحَّدة، بل أرست معالمها تبعا لتكتَّلات هوياتية متنافرة ومتباعدة مكتفية بحيزها، دون اكتراث لبعضها البعض.
ارتمين دفعة واحدة داخل السيارة، تحت وطأة سرعة وضجيج مفرطين أثار وقعهما اضطرابا على محيا السائق، مما اغتال قبل الأوان بواكير فرحته باستيفائه عدد المقاعد الضروري، لتلافي الخسارة، وخيَّب في المهد أمله بهذه الإشراقة الصباحية المفترضة، حتى يمضي باقي ساعات العمل على تفاؤل مدخلها، لأن السائقين غالبا مايرسمون حدوس طبيعة نهاية يومهم تبعا لحيثيات البداية.
هكذا تلاشى الهدوء السابق غبارا، وأضحى في المقابل جَلَبة وفوضى عارمتين، قهقهات هستيرية بين الثلاث، تنابز بألقاب مسيئة دون حسيب ولا رقيب، واندفاع للكلام على عواهنه.
فجأة دَوَّى إيقاع موسيقي شعبي من الدرجة العاشرة. إنه رنين محمول أكبرهِنّ سنّا؛ كما تنمُّ عن ذلك ملامحها وبنيتها الفيزيقية مقارنة مع الأخريين:
-''أهلا عبد القادر ''اعْشيري'' العزيز. ما الأخبار عندك… "
بعد ثوان من الصمت، تحت وقع خبر مهم تضمنته المكالمة. صرخت بكل عفويتها:
-''ماذا! أدخلوه البارحة إلى 'الكاشو'، ويقبع الآن وحيدا وسط ظلمة زنزانة انفرادية. ممتاز يا إلهي كم أشكرك! أريد له مصيرا أسوأ من هذا، لأنه وحش يستحق الأفظع…عموما، 'ميرسي' على أخبارك الصباحية التي أطفأت حرقتي… (بيزو) حارة على امتداد شفتيك العذبتين. سأبعث لك غدا باكرا بالنقود التي طلبتها…تشاو عزيزي".
أقفلت الهاتف، ثم التفتت إلى صاحبتيها:
-''لقد وضعوا زوج النحس في زنزانة انفرادية، فليعاشر الآن جرذا من الفصيلة المكتنزة مثلما أحب دائما، وكان هذا الدافع سبب هيامه بي. أخيرا، نال جزاءه ولا زال الأسوأ ينتظره. كل ذلك بسبب شر أعماله. لقد مارس في حقي هذا الرجل كل شرور الدنيا، وعذبني أيَّما عذاب خلال فترة الحمل بل وغاية أيام قليلة قبل الإنجاب الأول. كان يعربد يوميا، وحين عودته إلى البيت ينهال على ''قبيلة أمي'' ضربا ويشبعني رفسا، قاذفا في وجهي مختلف شتائم الدنيا والآخرة، ولكمات مستقاة من جل مرجعيات الفنون القتالية وأفلام الحركة، بحيث لا يتوقف عن همجيته إلا عندما توشك أنفاسي عن التوقف. بالتالي، فليذهب إلى الجحيم. وأنا حاليا على وشك الوضع، وحينما يسألني هذا المولود الجديد عن أبيه. سأخبره بغير تردد، بأنه قد مات منذ زمان''.
عقبت إحداهن على كلامها، بصيغة تساؤل استنكاري وهي تربت على كتفها بحنان زائد، بينما انشغلت الثالثة بتفحص رسائل هاتفها، وقد دفنت وجهها تماما وسط شاشة الجهاز.
-"لاتقولي ذلك، حبيبتي- تلفظتها بلكنة عامية- فعلا زوجك شخص وضيع، لكنه لا زال غِرَّا بسبب فتوة عمره؛ كما الحال معك أيضا. اصبري عليه! فقط حتى يكمل مدة عقوبته وسيغادر أسوار السجن، رجلا مكتمل النضج".
أجابتها:
-''لا أظن الأمر بهذا اليسر، فابن القَحْ.. الزانية، النتنة! لن يغير جلده ولو قامت القيامة. أعرف تماما كيمياء معدنه حق المعرفة بحكم المعاشرة".
التقطت أذني وشوشة للسائق متأففا بالجملة التالية:
-''ابن القَ..! أعوذ بالله من شر ما خلق، ما الذي يحدث هنا بحق السماء؛ إلى أين نسير؟''.
دون هذه الجملة، عجزتُ حقيقة عن تفكيك شفرة همسات أخرى توالت تباعا بكيفية خافتة جدا، تفضحها فقط التواءات شفتاه.
صدح ثانية بفظاظة مغني الهاتف، منتشيا بكلماته الرخيصة. لكن، بدا الصوت في الحقيقة مزعجا جدا، زاد من غثاثة وقعه على حاسة السمع، ارتفاع منسوب جهورية الرّنّة.
وجهة الخطاب، دائما الفتاة القابع زوجها في السجن، بيد أنه هذه المرة جاء كنه السياق مختلفا عن سابقه، مكتسيا تحديدا شيئا من البهجة، ضدا على تراجيدية المكالمة الأولى.
-''أهلا ياقرَة فؤادي وفحلي أيوب، أينكَ يا ابن الشمطاء، طال غيابك، وشوقي لحضورك يزداد التهابا. هل نلتقي الليلة في المنزل المعهود؟".
قاطع تغزلها تمطُّط وترنُّح صديقتيها؛ وقد أظهرا فرحا صبيانيا عارما:
-''نرغب في مرافقتكَ والذهاب بدورنا إلى هناك".
-"انتظرا سأخبره أولا"، متوخية إزاحتهن بعيدتين عنها:
- ''عذرا على هذا الإزعاج التقني الخارج عن إرادة الشبكة – أطلقت العنان لقهقهة باذخة- ستصحبني ضيفتان طريتان، أتمنى أن لايكون حضورهما مزعجا. صديقتان من الفصيلة البنيوية التي تروق لك. لكن أرجوك أيها العفريت – تضحك ملء شدقيها ثانية- لا تحمِّلهما ما لا طاقة لهما به، فلا تزال يارجل حواسهما مرهفة ولن يكون في مقدورهما مجاراة تلك الأشغال الشاقة المشهور بها، أيها الذئب العجوز المتلهف دائما للحم النيئ. أيضا، فقد أوشكا على الوضع، تقريبا في نفس الفترة. ترقب إذن، نسلا مختلفا (ضحكة مدوية)".
صاحت الفتاتان تقريبا دفعة واحدة، وعلى ذات المنوال :
''نحن على وشك الإنجاب، لذلك نحتاج إلى الراحة البيولوجية وكثير من التغنُّج والدَّلال، حتى يكون منتوج السلعة جيدا".
انتهى جدال الثلاثة على وتيرة، شدٍّ وجذب وأخذ وردٍّ، بخصوص ممكنات وحيثيات السهرة المحتملة، تحت وابل الغمز واللمز ثم منطق إياك أعني ياجارة، باستحضار إيحاءات شتى.
حينما ولجنا أولى شوارع المدينة، أشارت كُبراهنَّ على السائق، بنبرة تمزج بين الانشراح والتهكم: ''كفاك أيها الرجل الظريف، توقف أمام العمارة البادية هناك، سنغادر''.
رغم قصر مسافة رحلة صادفت وجود هؤلاء، فلم يكن سياقها هيِّنا على الإطلاق، لأنها أزاحت اللثام بقوة لا ترحم عبر ومضات بانورامية سريعة جدا، بتقنية المكاشفة الصوتية، عن منظومة قوامها اغتراب وضياع وأوجاع وعذابات وميتات سريرية، تستنزف دون توقف لتناسل متوالياتها، أجيالا يُقذف بها عبثا، على امتداد خراب بلا ضفاف ولا مرافئ، يلتهم مقومات إنسانيتنا، جملة وتفصيلا.
بلغت وجهتي، ودعت السائق بعد أن تداولنا لثوانٍ حول ما جرى ويجري. تمنيت له لقاءات أفضل.
بدأت الشمس توطِّد فعلا أوتادها، فقد أوشكت فترة الصباح على الانقضاء، رغم ذلك بدت المدينة فاترة، متعبة، منكمشة بكيفية غارقة في الإحباط وجلد الذات، بالكاد تدبّ الحركة بين شرايينها، مع أن المناسبة فترة عطلة، والجو صحو يشجع حتما على الخروج لمعانقة الحياة. تساءلت، ربما، يحتاج تصالحها مع الحياة بل تصالحنا إلى معجزة.