السبت  23 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الكتابة البحثية في سياق التمويل والسلطة والاحتلال| بقلم: ناجح شاهين

2021-12-09 12:44:08 PM
الكتابة البحثية في سياق التمويل والسلطة والاحتلال| بقلم: ناجح شاهين
ناجح شاهين

ينسى الناس وسط أكوام الهموم الأبجديات: هل يمكن أن تكون هناك انتخابات ديمقراطية أو غير ديمقراطية تحت الاحتلال؟ هل يمكن أن يكون هناك "تنمية" أو عملية بناء اقتصادي أو علمي تحت الاحتلال؟ أو بكلمة: هل يمكن أن يكون هناك حياة طبيعية تحت الاحتلال؟

من الواضح أن الكثير من أبناء شعبنا يعتقدون أن ذلك ممكن. ومن هذا الممكن بالطبع كومة البحث "العلمي" التي تتحقق دون أن يعترض عليها المحتل، وتحظى فوق هذا بدعم الممول الأجنبي السخي على نحو منقطع النظير. تعالوا نتفحص البحث العلمي الذي يرعاه التمويل ويثلج صدر المحتلين.

أولاً لا بد من أن نسأل: كيف يتحقق الإنجاز العلمي بأنواعه؟ هنالك بالطبع شرطان لا غنى عنهما لذلك: وجود اقتصاد واقتصاد سياسي يدفع باتجاه نمو القوى المنتجة وما تحتاجه من أساس معرفي متين، وهناك شرط ذاتي يتأتى من وجود "خامات" مبدعة "تنتهز" فرصة الريح المواتية، وتبحر في محيط المجهول بحثاً عن صيد معرفي يرضيها نفسياً، ويتلقى في الوقت ذاته الرعاية من حوامل اجتماعية وطبقية مستفيدة.

في الجانب الأول يبدو أن بلادنا فقيرة إلى حد تام بأية شروط معقولة لاحتضان العلم وما يرافقه من تفاصيل معقدة. أما في الجانب الثاني فإن لدينا الرغبة في تقديم بعض البدهيات التفصيلية: ليس من مكان للتفكير في واحدة بوصفها باحثة إذا لم تكن تتقن القراءة الواعية الذكية لأصعب النصوص في الموضوع الذي تعده حقلاً لممارستها العلمية البحثية. وهذا يعني قدرة لغوية متفوقة تصل حد إتقان اللغة على نحو "عالم"، كما أنه يعني ذكاء تحليلياً نقدياً يسمح بتمثل المفاهيم والنظريات والأبنية المختلفة في تخصصها بما يؤسس لهضمها للإنجاز العلمي السابق، ومن ثم الانطلاق ناحية الإضافة المعرفية ذات القيمة المعترف بها في الأوساط "العالمة". ذلك يعني مثلاً أنه إذا أرادت واحدة منا أن تبحث في شروط الإنتاج التبعي في الحالة الفلسطينية، فإن عليها أولاً أن تكون قد هضمت على نحو عميق أعمال آدم سميث وريكاردو وماركس وكارل بولاني وألتوسير وبولنتزاس وإيمانويل والرشتين ومهدي عامل وسمير أمين من بين أعمال أخرى. ولكن ذلك لا يكفي بذاته، إذ لا بد أن يكون لديها قدرات استبصارية عالية تسمح لها باختراق حجب التعمية في الواقع بما يقود إلى كشف خصائص أو سمات ليست ملقاة على قارعة الطريق ليلتقطها أول المارة. ليست مسألة "إبداع" المعرفة في بساطة جمع المعلومات، وعرضها في كتاب، إنها تفسير لوقائع فيزيائية أو اجتماعية مراوغة ومستترة وعصية على الفهم أو الاكتشاف. ومن هنا فإن الباحث أو العالم أو المفكر ليس صاحب حرفة: إنه شخص يتمتع بقدرات استثنائية على سبر غور الموقف والإتيان بتفسير غير متوقع ينبع من اكتشاف علاقات دقيقة أو توقعها حيث يصعب التوقع. من هذه الناحية يعسر علينا أن نقول بأن التدريب في حد ذاته يمكن أن ينتج لنا باحثين أو مفكرين أو علماء. لا بد من وجود مقدار من "الموهبة" التي تنفلت من قواعد الروتين العلمي المعروفة. ومن نافلة القول إن الروتين هنا يلجم الفاعلية الإبداعية بشكل تام تقريباً.

دعونا نواجه أنفسنا بالحقائق: ليس هناك من باحثين فلسطينيين كثر بالمعنى المشار إليه أعلاه، ولم ينجح الفلسطيني بوصفه ابن المؤسسة الأكاديمية أو ابن المؤسسة الحزبية المناضلة في أن ينتج أية معرفة ذات بال. وبهذا المعنى فإن فشلنا نموذجي وقاس حتى بالمقارنة مع إخوتنا في الجنوب وإخوتنا العرب، إذ أننا لا نجد باحثين كثيرين من طراز الشهيد مهدي عامل أو حتى من مستوى هشام غصيب في الأردن.

بعد تدشين أوسلو انهالت علينا منح البحث الممولة من مراكز الاستعمار العالمي. ويعلم الجميع أن هذه المنح لم تتجه، وفي رأينا أنها لن تتجه أبداً، ناحية الفيزياء أو الكيمياء، أو الطب؛ إنها تقتصر على قضايا المجتمع، من قبيل السياسة، والاقتصاد، والمرأة. لكن هل يعني ذلك أن الممول يريد لنا أن ننتج المعرفة في هذه المواضيع؟ بالطبع لا. كان الشمال الاستعماري يرسل علماءه وباحثيه لكي يقوموا بجمع المعطيات المعرفية عن المستعمرات بغرض بناء استراتيجيته في السيطرة عليها. ولكن هذه العملية مكلفة وصعبة، وتتطلب وقتاً طويلاً لإعداد الباحثات والباحثين من ناحية تدريبهم اللغوي الذي يحتاج سنين طويلة، ثم تدريبهم على أساسيات المكونات الثقافية والاجتماعية للبلاد المستعمرة. وهكذا وجد المستعمرون أن بالإمكان تدريب أبناء المستعمرات على جمع المعلومات التي يأخذها المستعمرون ويقومون بتحويلها إلى معرفة علمية تسد احتياجاتهم الاستعمارية فيما يخص شؤوننا نحن الشعوب الخاضعة لهم.

في السياق أعلاه انتشرت "الأبحاث" الإحصائية التي تقدم معطيات واسعة وشاملة عن أحوال الناس مثل تلك التي أعدها مركز "فافو" النرويجي تمهيداً لاتفاقية أسلو، ولكن الأوروبيين وجدوا أن الأجدى دعم تأسيس مركز إحصاء فلسطيني عصري يزودهم بأدق التفاصيل الخاضعة للتحديث الدائم عن حياة الفلسطينيين. وقد غدا ذلك المركز مفخرة بحسب سادة الشمال في مستوى "الشرق الأوسط" كله.

بالنظر إلى مهمة جمع المعلومات، أو كتابة أوراق الموقف والسياسات، وليس بناء النظريات أو القوانين أو التفسير أو "العلم بأسباب الوقائع" على حد طموح ابن خلدون، ظهرت حالة فريدة من البحث لا شبيه لها في العالم: إنها ظاهرة موظف/ة البحث الذي يعمل براتب ودوام يومي يبدأ الساعة الثامنة وينتهي الساعة الرابعة أو الثالثة. هذه الموظفة تبدأ عملها العلمي البحثي في الصباح، وعندما تنتهي من دوامها تنتهي علاقتها بالعمل. غني عن البيان أن هذه صورة كاريكاتورية مضحكة للبحث والعلم منذ "يوريكا" أرخميدس الذي خرج من الحمام عارياً يصرخ "وجدتها، وجدتها" وحتى نسبية أينشتاين و"لا تعيين" هيزنبرج.

ألقى الممول في روعنا أن الباحث شخص يجمع المعطيات أو يقوم بإدخالها في برنامج للحاسوب، ليقوم أهل الشمال باستخدامها في إنتاج المعرفة العلمية المعرفة ليست معطيات ميتة: إنها التفسير السببي العميق الذي يستلزم بناء النظرية والقانون. وهذا الجانب الذي يحتاج إلى الذكاء والإبداع وهوس المعرفة حد الجنون هو الذي لا يستطيع الموظف (الفلسطيني) أن يصله، ولذلك يترك هذا الجانب الذي هو البحث على الحقيقة للمستعمر، أما نحن أبناء الجنوب فنكتفي بدور العمل "البروليتاري" في الممارسة العلمية.

في هذه الأجواء التي لا تعي شيئاً عن طبيعة الممارسة العلمية يتحول رؤساء الأنجزة الفلسطينية إلى "خبراء" في العلم، ويقومون بأنفسهم بوزن مقدار الإنجاز البحثي الذي يحققه موظفهم البحثي العتيد. وبالطبع الممول سعيد بالنتيجة، لكن لا علم ولا من يحزنون.

الباحث من وجهة نظر منظمات الأنجزة ومن يمولها موظف بيروقراطي. ولا يتوهمن أحد من الناس أن البيروقراطية شتيمة، فقد كانت وما تزال الأساس المتين الذي تقوم عليه الدولة الحديثة: الموظف المنضبط والملتزم هو أساس أداء الدولة أكواماً هائلة من التفاصيل في دقة وسرعة. ولكن البيروقراطية بالتأكيد ليست الوصفة الملائمة لتطوير الإبداع والتفكير. هنا حتى في مستوى المدرسة والجامعة لا بد من أن نطلق العنان للاختلاف والأفكار الغريبة والإبداع بألوانه، أما تحويل البحث إلى وظيفة بيروقراطية تبدأ بدقة عند بدء ساعات الدوام اليومي وتنتهي بانتهائه، فهي وصفة للبحث الذي يجمع معلومات صماء لتحويلها لعلماء الشمال ليحولوها إلى معرفة علمية. وهذا يعني ببساطة أنها جزء لا يتجزأ من الخطة العامة للسيطرة على البلاد المستعمرة بأيسر السبل وأقلها تكلفة.

في سبيل تغيير تلك الصورة يصعب أن ندعي أن لدينا وصفات جاهزة سريعة. لكننا على الرغم من ذلك نقترح:

أولاً، البدء بالتركيز على المحاور البحثية التي تهم بلادنا أساساً، وذلك يعني أن ينشغل البحث أولاً بقضية الوطن وتحريره ومقاومة اغتصابه وابتلاعه. كذلك لا بد من التركيز على فحص الوقائع الاجتماعية والاقتصادية وكيفية تطويعها بما يخدم صمود الجماهير.

ثانياً، العمل على تطوير مهارات اللغة والتفكير بوصفها حجر الأساس الذي يضعنا على أول الطريق. ولذلك لا بد من بناء لغة الأطفال العربية في المدارس مع إيقاف تدريس الإنجليزية، ولا بد من تطوير مهارات القراءة، والكتابة، والتفكير بأنواعه إضافة إلى طرائق البحث العلمي المعروفة. لكن هذه الجمل السهلة الكتابة تتحول في الممارسة إلى أكوام من المهام التي تحتاج عقداً أو عقدين من الزمان على أقل تعديل. لسوء الحظ فإن ذلك كله مرهون بحالة الاقتصاد السياسي، ولا بد أن الاقتصاد السياسي القائم على الفساد أو التمويل لن يسمح حتى بإخراج المواضيع أعلاه إلى حيز الاهتمام في الحيز العام ناهيك عن الذهاب نحو إطلاق استراتيجية وطنية أو قومية في ذلك الاتجاه.

حاشية: أمس كتبت على موت اليسار. ولكن شبح اليسار أو روحه مطالبان ببناء الممارسة العلمية. مهما تكلمنا عن عيوبه الهائلة فإنه المطالب "تاريخياً" بذلك. لا نستطيع أبداً أن نطلب من الاسلام السياسي أن يبني العلم، ولا من السلطة ولا من المنظمات الأهلية ولا من جامعات اقتصاد الكمبروادور الاستهلاكي. إذا لم يكن اليسار مؤهلاً ليفعلها، فلا داعي للحلم بها بدئياً.