الحدث للأسرى
بعثت ابنة الأسير الفلسطينيّ وليد دقة، (60 عامًا) من مدينة باقة الغربيّة داخل ما يُسّمى بالخّط الأخضر، والتي وُلدت من نطفة محررة برسالة إلى العالم وإلى والدها المعتقل منذ 35 عامًا، والمحكوم من قبل الاحتلال الإسرائيليّ بالسجن المؤبد، والتي جاءت على النحو التالي:
“ها أنا أكتبُ بعد أن فُرضَ عليَّ الصمتُ عقودًا طويلةً بفعل عواملَ خارجةٍ عمّا تسمُّونه “الإرادة”؛ فهذه الأخيرة لم أكن أملكُها بعد. فقد كنتُ مشروعَ إرادة، والإرادةُ – كما تعلمون – هي جوهرُ الإنسان، وهي التي تعرِّفُنا وتميِّزُنا كبشر، وهي التي تجعل منّا كائناتٍ تتحمّل مسؤوليّةَ أقوالِها وأفعالِها. أكتبُ إليكم متحمّلةً مسؤوليّةَ ما سأقول، على أمل أن تشكِّل هذه السطورُ مرآةً لمن وقفوا في طريق مجيئي إلى هذه الدنيا.
“أكتبُ لأقولَ لكم إنّني ما زلت آملُ أن يستعيدَ هؤلاء ما فقدوه من براءة الإنسان فيهم. نعم، براءةِ الإنسان، طيبتِه، وإنْ فَقَد هذه “العملةَ” كما فهمتُ في الوقت القصير الذي أمضيتُه على هذا الكوكب”.
“وعلى الرغم من كلِّ ما سأرويه لكم ممّا واجهتُه في طريقي إلى الدنيا، فإنّي ما زلتُ مؤمنةً بأنّ الإنسان مفطورٌ على الخير والعدالةِ والحب. فأنا ثمرةُ حبٍّ آمَنَ بالخير، وتمسَّكَ به رغم شتّى الأهوال؛ حبٍّ آمَن بأنّ في كلّ فردٍ في هذا الكون بذرةَ طفلٍ ستنمو مهما علا منسوبُ الكراهية”.
“كنتُ، كما تعلمون، خارج زمانكم. كنتُ هناك، في البعدِ الثالثِ للزمن، أنتظرُ تأشيرةَ دخولي إلى الحياة – لا مِن الله، وإنّما – كسائر أبناء شعبي على الحواجز والمعابر – من دولةٍ تعتقد أنّها وعدٌ إلهيّ. كنتُ أسمعُكم ولا تسمعونني، أراكم ولا تروْنني، كأنّ برزخًا يفصل بيننا. فلم يكن زمنا أمّي وأبي قد التقيا بعدُ في مكانٍ ما في هذه المعمورة كي أغدوَ مخلوقًا مكانيًّا مثلَكم؛ فقد أصبحنا ثلاثةً قبل أن يكونا اثنيْن”.
وتابعت قائلةً:”لقد عطَّلتْ دولةُ العِرق مجيئي إلى هذه الدنيا ما يزيد عن العقد بقليل، أو قد يكون أكثر – هذا إذا احتسبْنا محاولاتِ أمّي وأبي الأولى بعد زواجهما مباشرةً للالتقاء تحت سقفٍ واحدٍ كي يجْدلا خيطَيْ زمانهما إلى حبل حياةٍ جديدة”.
“قلت إنّني أكتبُ إليكم، ولكنّني في الحقيقة لا أجيدُ القراءةَ والكتابةَ بعد، وإنّما أُمْلي على أمّي ما اعتملَ في ذهني من أفكار، وفي صدري من صرخات، بعد كلِّ ما سمعتُه وراقبتُه من هناك في البعد الثالثِ للزمن، زمنِ النُّطَفِ المحرَّرة”.
“بانتظار عبور حواجزِهم وأسوارِهم وأسلاكِهم الشائكة في طريقي إلى الحياة، أردتُ أن أُسمِعَكم صوتي الآن. فلا وقتَ للانتظار إلى حين أتعلَّمُ تلك العصيَّ والنقاطَ التي تسمُّونها “لغة.” لا وقتَ لتأجيل الوقت؛ فأنا كإنسانةٍ أشعرُ بالخجل الشديد ممّن لا يستوعبون فكرةَ مجيئي طفلةً إلى الدنيا، لا لشيءٍ أو لذنْبٍ اقترفَتْه، وإنّما لأنّها… عربيّة”.
“دولةُ العِرْق هذه، تمامًا كدولة العِرْق في زمنٍ آخر، تُجري كلَّ صباحٍ إحصاءً لعدد سكّانها العرب، تمامًا كما في السجن (أو كما يسمّيه أبي “الزمن الموازي”). وللحقيقة كدتُ في بعض اللحظات، من شدّة الحقد والكراهية التي واجهتُها، ومن شدّة التنكيلِ الذي واجهه أبي، أن أعيدَ النظرَ في فكرة مجيئي إلى الدنيا. ولكنّني، لو فعلتُ، لكنتُ بذلك أقدِّم هديّةً إلى جيشٍ من القتلة والعنصريّين، ولشجّعتُ الشرَّ في الأرض”.
“من حقِّكم أن تقولوا إنّ هذا الكلامَ كبير، وأكبرُ من أن تنطقَ به طفلةٌ في مثل سنّي. ومن حقّكم أن تشكِّكوا بهذا النصّ إنْ كان صادرًا عنّي، أو قوّلني أحدٌ إيّاه. لكنّكم، حين تسمعون روايتي، ستبتلعون شكَّكم، وستعيدون النظرَ في واقعكم الذي بات على مسافةٍ طويلةٍ من الحقيقة، رغم أنّ حقيقتَكم – التي هي أقربُ إليكم من قلوبكم – ستبقى حقيقةً غيرَ مدرَكة إنْ ظلّت خارج التغطية الأخلاقيّة. فالأخلاق ليست معيارَ الحقيقة فحسب، وإنّما كاشفةً لها أيضًا”.
“سأبدأ حكايتي لا من حيث انتهت، أو ربّما بدأتْ؛ فالزمن ما زال، بالنسبة إليّ، كرحِمِ أمّي، دائريًّا: أنا ميلاد وليد دقّة. وُلدتُ في مدينة البشارة في الثالث من شباط/فبراير 2020”.
“نعم، أنا الطفلة التي انتظرتْ أكثرَ من عقد، ووُلدتْ من نُطفةٍ محرَّرةٍ على الرغم من كلّ إجراءاتهم وقوانينِهم بمنعي من الحياة. لقد بلغتُ من العمر ما يكفي لأرويَ عليكم قصّتي. سيقول أحدُكم بالتأكيد إنّ هذا جنون؛ فحتّى لو كانت هذه الطفلةُ معجزةً فلا يمكن أن تروي تفاصيلَ حكايةٍ حصلتْ أحداثُها قبل ولادتها وهي في هذه السنّ. وقد يقول آخرُ إنّه ليس من الأخلاقيّ تقويلُ طفلةٍ رضيعةٍ – مستغلّين براءتها – كلامًا على هذه الدرجة من الخطورة وينطوي على اتهامات، من دون خشية، لدولةٍ تمتلك أقوى رابع جيشٍ في العالم”.
“ومع ذلك، ورغم أنَّ هذا البلد بلدُ المعجزات، بلدُ الإسراء والمعراج، مهدُ السيّد المسيح عليه الصلاة والسلام، فإنّني لستُ طفلةً معجزة، بل ثمرةُ تصميمٍ وإصرارٍ وتحدٍّ. زمنُ المعجزات قد ولّى، ونحن اليومَ في زمن التعجيزات الإسرائيليّة وغطرستِها”.
“أنا لا أحاول استدرارَ عطفِكم لتصدِّقوا ما أقول، وإنّما أحاولُ استدراجَ عقلكم كي يكون حاضرًا في كلِّ ما سأرويه، فتقلّبوا الحقائقَ، وتتبّينوا منها، وتحاكموها… لكنْ ليس بعقلٍ أداتيّ؛ فهذا الأخير لا ينفع للمحاكمات الأخلاقيّة، بل كي تدركوا أيضًا أنّ “غيرَ الأخلاقيّ” ليس تقويلَ طفلةٍ رضيعةٍ هذا الكلامَ، والاحتماءَ وراء براءتها، كما يحلو للبعض منهم تصويرُ الأمر. إنّ غيرَ الأخلاقيّ هو مَن يحاول مصادرةَ طفولتها، وحقِّها في زيارة والدِها في السجن، وحقِّها في استصدار أوراقٍ رسميّة، وباسم والدِها، كأيّ مواطنةٍ أو مواطن”.
“كما أنّني لا أخشى هذه الدولةَ وغطرستَها، لا لأنّي شجاعةٌ أو أحتمي بطفولتي – هذه الطفولة التي سيتبيّنُ لكم من مشاهداتي التي سأنقلها إليكم أنّها لم تشفعْ لي عند دولة العِرْق – وإنّما لأنّني، ببساطة، أتفوّقُ عليهم أخلاقيًّا كصاحبة حقٍّ من أبسط حقوق الكائنات، وهو الحقُّ في الحياة. فهم يصنعون الموتَ، وأنا صنيعةُ الحياة.. وهنا أسألُكم: ما الجنون إذن؟ هل الجنون أن تنطقَ طفلةٌ بعمري؟ أمْ أن يُفتح لها ملفٌّ في “الشباك” الإسرائيليّ قبل أن تولَد؟!”.
“كنتُ هناك. الزمان: زمنُ البعد الثالث – زمنُ النُّطَفِ المحرَّرة. والمكان: قاعةُ المحكمة المركزيّة، الناصرة. وفي هذه المناسبة، منذ زيارتي تلك في الشتاء، قبل ما يزيدُ عن العقد، أحببتُ هذه المدينة وقرّرتُ أن يكون هواؤها هو أوّلَ هواءٍ أستنشقُه”.
“غصَّت قاعةُ المحكمة بالحضور، غالبيّتُهم من الأقارب وبعضِ الصحفيّين. أُحْضِرَ أبي مقيَّدَ اليديْن والرجليْن، منهكًا من السفر في عربة نقل الأسرى. لوَّح لأمّي، وابتسم. دنوتُ منه، من زمني، وتحسَّستُ رأسَه. كانت حرارتُه عاليةً، وأنفاسُه ثقيلةً، من شدّة الأنفلونزا. فَكَّوا قيدَه ووقف. سأله القاضي: ماذا تريد؟ قال: أن أصنعَ حياة”.
“وقف الادِّعاءُ معترضًا، وقال إنّ في هذه الحياة خطرًا يهدِّد أمنَ الدولة. وأومأ لرجلٍ وامرأةٍ من المخابرات العامّة، سلَّما القاضي مغلّفًا. كان المغلَّفُ، كما تبيّن لاحقًا، يحتوي على ملفّي في “الشاباك،” وجاء فيه أنّ التقاءَ زمن أمّي بزمن أبي الموازي مؤامرةٌ تهدِّد أمنَ دولة العِرْق واستقرارَها، وأنّهم يحذِّرون من عواقب هذا اللقاء”.
“لم أصدِّقْ ما سمعت، وأدركتُ في هذه اللحظة أنّي لستُ في نظرهم مخلوقًا كسائر البشر، بل عبوةٌ ناسفة. أردتُ أن أصرخ، أو ربّما صرختُ فعلًا، لكنّ صوتي ظلّ مكتومًا، وما كان ليَنْفذَ إليكم، واكتفيتُ بما قاله أبي”.
“قبل أن أذكرَ لكم ما قاله أبي للقاضي، أعودُ وأسألُكم مرّةً أخرى: أيّهما الجنون: أن تنطقَ طفلةٌ في سنّي، أمْ أن تعتبرَها دولةُ العِرق التي تمتلك مائتيْ رأسٍ نوويّ تهديدًا لأمنها؟ وأيُّهما الجنون: أن أدّعي أنّي أعلم بكلِّ هذا وأنا نطفة، أمْ أن تدّعي هذه الدولةُ – بتقريرٍ رسميٍّ في محاكمها – أنّ هذه النطفة تهديدٌ أمنيٌّ لها؟ بل أيّهما الأقوى: دولةٌ تخشى نطفةً، أمْ نطفةٌ تأتي إلى الحياة غصبًا عن الدولة وحواجزِها وأسوارِها وسجونِها؟!”.
“قلّب القاضي أوراقَ الملفّ السرّيّ. هزّ رأسَه محاولًا إظهارَ قدْرٍ من الأهمّيّة والجدّيّة، حتى تبدو ملامحُه وكأنّها تقول إنّ ما بين يديه من أوراقٍ جدُّ خطير. ولكي يستكملَ مشهدَ القضاء “الموضوعيّ العادل،” فقد أتاح لأبي، على غير عادته، بأن يدليَ بأقواله، مع أنّ قانونَهم يجيز له الاكتفاءَ بأقوال محاميته التي قدّمت ادّعاءاتِها القانونيّة. وقف أبي. جالت نظراتُه في القاعة، وقال باللغة العبريّة: “هذا أوّلُ ملفّ، لمولودٍ لم يولدْ بعدُ، يُفتح في الشاباك. فهل نطفةٌ تهدِّد أمنَكم القوميّ؟! أيُّ أمنٍ هذا الذي تهدّدُه نطفة؟!”
“قال ذلك وهو يتّكئ على الفاصل الزجاجيّ منهَكًا. ثم واصل حديثَه: “أيُّ أمنٍ قوميٍّ هذا الذي يزعزعه مشروعُ حياة؟ يا سيادةَ القاضي، إنّ أمنًا من هذا القبيل هو أمنٌ هشّ. ونظريّتُه الأمنيّة تذكّرنا بنظريّةٍ أمنيّةٍ لدولةٍ من منتصف القرن الماضي اعتَبرتْ تكاثرَ جنسٍ بعينه تهديدًا لها. والتاريخ يُعلمنا أنّ الدولة التي اعتبرتْ ثُغاءَ الأطفال ثغرةً أمنيّةً يجب إسكاتُه كان مصيرُها التفكّك الأخلاقيّ والزوال؛ فالحياة أقوى من الخوف.”
“وتابع: “وردًّا على أوراق الملفّ السرّيّ الذي أمامكم أقول إنّ المرأةَ العربيّة، يا سيادةَ القاضي، تلد – تمامًا كنسائكم – أطفالًا! لا دليلَ علميًّا واحدًا على عربيّةٍ وَلَدتْ عبوةً، فلماذا كلُّ هذه الملفّات السرّيّة؟ ولماذا يُستدعى ممثِّلون عن جهاز الأمن العامّ، بدلًا من طبيبِ ولادةٍ أو قابلة؟ ولماذا لم تستدعوا أصلًا خبيرَ متفجِّرات؟! أنا أعرف ما الذي ستقرِّرُه محكمتُكم. لهذا أسمحُ لنفسي باستباق الأمور، وبتقديم مثل هذه المداخلة، التي ما كان لعاقلٍ غيري أن يقدِّمَها لأنّها – في منطق محاكمكم – تستعدي المحكمة. لكنْ حين يسمح قضاؤكم باستعداء مخلوقٍ لم يولَدْ بعد، فإنّ ما يُصدره لم يعد يعنيني لأنّه غيرُ أخلاقيّ”.
“في هذه اللحظة ضجّ القاضي ودعا والدي إلى أن ينهي حديثَه. فأكمل: “عمومًا، ابني أو ابنتي، مولودي، الذي سأسمّيه ميلاد، قد يؤلّف اللحنَ الذي لم يُلحَّنْ بعد، وقد يصبح أو تصبح عالمَ فلك، أو ربّما يكتشف دواءً للسرطان، أو ربّما سيجد ما عجزتْ أجيالُنا عنه، وهو التوصّلُ إلى حلٍّ للصراع، حتى يكون سلامًا وأمنًا حقيقيّيْن، بدلًا من أمنكم الموهوم”.
“لهذا، يا سيادةَ القاضي، قرارُكم السلبيّ الذي ستتّخذونه سيمنع حياةً، وأنا أصنعُ حياة. وبين مَن يصنعُ حياةً، ومَن يمنعُها، فارقٌ ومسافةٌ أخلاقيّة، وإنْ كان الأوّلُ سجينًا والثاني قاضيًا!”
“والآن انظرْ إليّ أنا، يا سيادةَ القاضي. أنا ميلاد. أنا تفوُّقُ أبي الأخلاقيُّ عليكَ. هل أبدو لك قنبلةً موقوتة؟! إذًا، لماذا أخّرتم قدومي إلى الدنيا كلَّ هذه السنواتِ الطويلة؟ كم أخَّر قضاؤكم تطوّرَنا وتكاثرَنا الطبيعيّ كشعبٍ منذ العام 48؟ كم طفلًا منعتم حضورَه إلى الحياة بفعل الاعتقالات الواسعة التي تَفُوق ما تسمّونه “حاجاتِكم الأمنيّة”؟
“هل تشعر بالندم يا سيادة القاضي؟ أنا، على الرغم من كلّ هذه الأهوال، ما زلتُ أؤمن بأنّك بشرٌ مثلي. وما دمتَ كذلك ستندم. لكنْ ليس المهمّ أن تندم. المهمّ أن تستعيد قيمَ الإنسان”، جاء في رسالة ميلاد الفلسطينيّة.