الحدث الثقافي
كشاعرٍ ومحرِّرٍ ومترجمٍ أحدث روبرت بلاي (1926-2021) تأثيراً عميقاً في الشعر الأميركي أدى إلى نقلة نوعية على صعيد الشكل الشعري. ولم يكن شاعراً منغلقاً أسير تقاليد شعرية معينة، بل انطلق فاتحاً الحدود بين الثقافات ملقّحاً القصيدة بمؤثرات من تراثات مختلفة، وقد عدّ ترجمة الشعر عملية إبداعية تنفخ الروح في آداب البلدان المختلفة، إذ لا يمكن لشاعر أن يبقى أسير تراثه الشعري، بل يجب أن ينفتح وينطلق إلى فضاء الشعر الكوني الأرحب كي يمتح من ينابيع الآخر.
ربما لهذا نظر بلاي إلى الترجمة كرديف للإبداع، مؤمناً أن هناك لغة خلف اللغات، هي لغة الشعر، ولا يمكن أن نخرجها من مناجمها الخفية إلا بمعاول الترجمة التي تتجاوز كونها عملية نقل من لغة إلى أخرى. ألم يقل صديق روبرت بلاي، الشاعر السويدي توماس ترانسترومر في مقدمته للطبعة العربية لأعماله الشعرية الكاملة الصادرة عن دار بدايات (سوريا، جبلة، 2005) إن الشعر الأصل هو في حد ذاته ترجمة، وإن القول الشعري بيان لقصيدة غير مرئية خلف اللغات المتعارف عليها، لذا تصبح الترجمة إلى لغة أخرى محاولة أخرى لتحقيق واقعية القصيدة الأصل؟
كان روبرت بلاي من كبار المدافعين عن قصيدة النثر في الأدب الأميركي كشكل أدبي. وقد ذكر في مقدمة كتاب “الوصول إلى العالم”، الذي يضم مختارات من قصائده النثرية… “إن هناك أنواعاً مختلفة من قصيدة النثر، بينها تلك التي تركّز على أشياء العالم (كالصخرة والسرطان وهري المزرعة ولعبة الهوكي) وعلى التغيرات التي تطرأ على الذهن فيما هو يرصد هذه الأشياء… وتُؤَلَّف هذه القصائد عادة بعيداً عن المكتب وفي حضور الشيء المعني… وتُشجّع قصيدة النثر الكاتب على البقاء قريباً من الحواس وتكمن قوتها في الحميمية”. ويتابع بلاي مستضيئاً بكلام باشو:”إذا أردتَ أن تعرف عن الخيزران، اذهبْ إلى الخيزران، وإذا أردتَ أن تعرف عن الصنوبر، اذهب إلى الصنوبر”، ذلك أنه (كما قال كولردج) الذي يستشهد بلاي أيضاً بكلامه:”إذا ما نُظر إلى الشيء بطريقة صحيحة فإنه يُحرِّرُ ملكةً جديدةً للروح”.
دعوة واستجابة
أخبروني، لماذا لا نرفعُ أصواتَنا في هذه الأيام
كي نحتجَّ ضدَّ ما يجري. هل انتبهتم
أن الخطط وُضعتْ للعراق والغطاء الجليدي يذوب؟
أقول لنفسي: “هيّا، اصرخْ. ما معنى
أن تكون راشداً بلا صوت؟ اصرخْ!
وانظر إلى من يستجيب! هذه دعوة واستجابة!”
لنصرخ ملء أفواهنا كي يصلَ صوتُنا إلى
ملائكتنا، ثقيلة السمع، المختبئة
في أباريق صمتٍ مُلئت أثناء حروبنا.
هل وافَقْنا على كثيرٍ من الحروب وصرنا عاجزين
عن التخلّص من الصمت؟ إذا لم نصرخ، سنمكّنُ
الآخرين (الذين هم نحن) من السَّطو على المنزل.
كيف أصغينا إلى المحتجّين العظام ـ نيرودا،
أخماتوفا وثورو وفريدريك دوغلاس ـ فيما نحن الآن
صامتون كعصافير الدوري بين الأماليد الصغيرة؟
يقولُ بعض المعلّمين إن حياتنا لا تستمرُّ أكثر من سبعة أيام.
في أيِّ يوم من الأسبوع نحن؟ هل جاء الخميس؟
أسرعوا، صيحوا الآن! سُرْعَان ما سيصلُ مساء الأحد.
الليلة التي نادى فيها إبراهيم الكواكب
أتتذكرّون الليلة التي شاهد فيها إبراهيم الكواكب
للمرّة الأولى؟ نادى زحل:”أنت ربّي!”
كانت سعادته غامرة! حين رأى كوكب الزهرة،
ناداه بصوت مرتفع:”أنت ربّي!” لكنه شعر بأنه
مدمّرٌ حين شاهد الكواكب تأفل. أيها الأصدقاء، إنه مثلنا:
نحن الذين نتّخذ من الكواكب الآفلة آلهةً لنا.
نحن الرفاقُ المخلصين للكواكب الخائنة.
نحن الحفّارين كالغريّرات نحبُّ أن نشعر
بالتراب يتطايرُ خلف مخالبنا الخلفيّة.
ما من أحدٍ قادر على إقناعنا أن الطين ليس
جميلاً. إنها روحنا ـ الغريّر هي التي تفكّر بهذه الطريقة.
نحن مستعدّون كي نمضي حياتنا
سائرين بأحذيةٍ ملوثةٍ بالطّين في الحقول المبللة.
نحن نشبهُ المنفيين في مملكةِ الثعبان.
نقفُ في حقول البصل شاخصين بأبصارنا إلى الليل.
قلبي حبّةُ بطاطس هادئة في النهار،
وفي الليل امرأةٌ مهجورةٌ تبكي. قل لي يا صديقي، ماذا أفعلُ
فأنا رجلٌ يعشق الكواكب الآفلة.
مباغَتٌ بالمساء
ثمة غبار مجهول قريب منّا،
أمواج تتكسّر علي شطآن أعلي التلال،
أشجار ملأى بطيور لم تقع أعيننا عليها من قبل،
شِباك مسحوبة بأسماك سوداء.
يأتي المساء، ونشخص بأبصارنا إلي الأعلى، فنراه
جاء من خَلَل شِباك النجوم،
من خَلَل أنسجة العشب،
سائراً بتؤدة على امتداد ملا جئ المياه.
لن ينقضي النهار، نقول لأنفسنا:
لدينا شَعْرٌ يبدو مولوداً من أجل ضياء النهار؛
ولكن، في نهاية المطاف، سوف تنهض مياه الليل الهادئة،
وسيمتدّ جِلْدُنا ببصره إلي البعيد البعيد، تماماً كما يفعل تحت المياه.
رجل يكتب إلى جزء من نفسه
أيّ كهف تقيمين فيه، مختبئة، رابضة تحت المطر؟
مثل زوجة، تتضوّر جوعاً، بلا أنيس،
الماء يتساقط من رأسك، منحنية
علي حنطة الأرض...
ترفعين وجهك إلى المطر
الذي يسوق الوادي ــ
عذراً، إنّ زوجك،
في شوارع مدينة نائية، يضحك
من كثرة مواعيده.
رغم أنه، ساعة الليل، يمضي بدوره
إلي غرفة عارية، غرفة صنعها الفقر،
فيرقد قرب إبريق عارٍ، وقرب حوض
في غرفة بلا تدفئة ــ
مَن بيننا هو الأسوأ حالاً؟
وكيف أنّ هذا الانفصال وقع؟
إلي ولدي نوح، في سنّ العاشرة
الليل يحلّ والنهار، ونهار يمضي بعد نهار،
وما هو عتيق يظلّ عتيقاً، وما هو فتيّ يظلّ فتياً، ويطعن في السنّ.
الركام القَطَني لا يستردّ شبابه، ولا الثخانة تفقد ظلمتها
لكنّ الشجرة العجوز تواصل الحياة،
والحظيرة تشخص واقفة سنين عديدة دون عَوْن؛
ولا يتيه المدافع عن الظلام والليل.
الفرس يخبّ ناهضاً، ويخطر علي قدم واحدة، يلتفّ بجسده،
والدجاجة تضرب المخالب في الجذور، جناحاها يتدفقان ويتمرّغان،
لكنّ البدائي ليس ذاك الذي يُطلق في الليل والظلام.
وبتؤدة يقترب الرجل الطيّب، تهدأ ثائرته، ويجلس إلي المائدة.
ولهذا فإنني لست فخوراً إلا بالأيام التي انقضت في عذوبة غير منشطرة
حين تجلس لترسم، أو تصنع الكتب من تيلة القطن، وتحمّلها رسائل إلي العالم،
أو تلوّن رجلاً تتصاعد النيران من رأسه.
أو نجلس إلي المائدة، والشاي القليل صُبّ بعناية.
ونقضي زماننا سويّة هكذا، في هدوء وحبور.