السبت  23 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

مشاهدات في يوم المعلِّم / عبدالله لحلوح

2021-12-14 08:39:37 PM
مشاهدات في يوم المعلِّم / عبدالله لحلوح
عبدالله لحلوح

 

أعيدوا للمعلم هيبته؛ عبارة تتكرر مرارًا، خاصةً في الآونة الأخيرة، وذلك بعد أن لحق بالمعلمِ ما لحق من مصائبَ وخيباتٍ جسام، وبعد أنْ أصبح في أعينِ البعض رمادًا لا يسرُّ الجاهلين. فلماذا تُعادُ للمعلم كرامته؟ ومن الذي بإمكانه أن يُعيد تلك الكرامة؟ وهل هو فعلًا بحاجةٍ إلى مَن يعيدها له؟ وهل فقدَها حقًّا؟

تتكاثر الأسئلة، وتتنوع وتتوزع ضمن متوالية عجائبية في زمنٍ غريبٍ عجيبٍ، والإجابةُ مكتومةٌ في الصندوق الأسود، والمفتاحُ في أيدي مَرَدَةِ سليمان الذين حُبِسوا بعد أن حُسِبوا خارجين عن الخط،  وعلى المعلّم أن ينتظرَ إلى ما شاء الله، حتى يعود رحّالةٌ بحريٌّ من غَوْصاتِه ومغامراته المرهقة، لعلَّه يأتي من هناك بالخبر اليقين. هكذا صارَ الحالُ في وعيِ بعضِ المعلمين، وبعضِ من يظنون أنهم على شيء، من أولئك الذين يحسبون أنَّ الأمرَ هَيِّنٌ، وهو عندَ ذوي النُّهى كبيرٌ عظيم.

المعلِّمُ صانعُ رسالاتٍ لا تحتاجُ إلى علاماتٍ تجارية، ولا إلى موادّ خام، ولا يتأثر سوقها بالبورصة العالمية، فهي بضاعةٌ مرغوبٌ بها في سوق السماء قبل سوق الأرض، وهي لا تُعرض على الزبائن، ولا تَخضعُ للفحص والمُعاينة، ولا توقفها حواجزُ المحبة ولا حواجز البغض، ولا تُدَسُّ في قلبها أيدي رجال الضابطة الجمركية، ولا البوليس السرّي، ولا تتدخل في تصاميمها شرطة الآداب؛ لأنها رسالةٌ نبويَّةٌ تستمدُّ قداستها من فعلها البهيِّ، ومن نورها الزكيِّ، فأنّى لجاهلٍ أن يشوِّهَها، أو لجاحدٍ أن يُحرِّفَها؟

في يوم المعلِّم، تتسرَّبُ بعضُ عباراتِ التهنئة، وتتسلل بعض القصائد المكرورة، إلى فضاء العالم الأزرق المُعتم، فقد يكتب بعضهم عبارةً، أو بيتًا من الشعر نَسخَهُ عن صفحة صديق، دون أن يقرأه أو يكلِّفَ نفسه بتعديلٍ طفيفٍ على بعضِ ترهُّلاته التي أحدثتها الأقلام (الكيبوردية) إن كان يدري أن فيه ترهلاتٍ، وإن كان لا يدري فتلك مصيبةٌ واحدة، ليظلَّ الوجعُ يضرب قلبَ إبراهيم طوقان وهو يردُّ على الأمير:" ويكاد يفلقني الأميرُ بقوله: كاد المعلمُ أن يكون رسولا" والحقيقة أنَّ المعلِّمَ كان وكاد وصار وأضحى وأمسى. ولكنَّ القومَ لا يعلمون. وتبقى عبارات التهنئة تلك أغلى ما يمكن أن يقدِّمَه أولئك المهنِّئون وذلك أضعف الإيمان، مع أنَّ إيمانهم يتضاعف عندما يتكاثرون على معلِّمٍ شتمًا وإهانةً وردحًا ورقصًا على أنغام دحِّيةٍ عربية أصيلة.

في يوم المعلِّم، يقولُ سائقُ التاكسي عن معلِّمه الذي درَّسَهُ الرياضيات في الصف الخامس، وهو الصفّ الذي أنهى فيه متطلبات التخرُّج التي أهَّلَتْهُ فيما بعد لأن يكون سائقًا عصبيًّا ماهرًا، ينقلُ معلِّمَه من منزله المتهالك إلى منزله الثاني: لو كنتُ أستمعُ إلى نصائح معلّمي لكنتُ اليومَ طيّارًا في الفضاء، بدلًا من التحليق على ( الزِّفتة) لكنَّ معلّمي كان فقيرًا جدًّا، وأبي كان ( أفقر) وأنا قررتُ محاربة الفقر بالهروب من المدرسة، وها أنا اليوم نقّالُ الأنبياء، أجل: فالمعلِّمُ عليه السلام، وله السلام، ولقد أغنى بفقره كثيرين، فانظر إلى ابنِ فلان، وابنِ علّان، فهذا طبيبٌ عظيم، وذاك مهندسٌ كبيرٌ، وأنا (شوفير) على باب الله. اللهمَّ إنني أنقلُ أنبياء. ولقد احتفظتُ بمهنةِ والدي، وحفظتُ عنه أنّه أوصاني قائلًا: "يا ابني كون مْعَلِّم، وإذا ما قْدِرْتِش تكون مْعَلِّمْ، صاحبْ مْعلِّم" وقد انتهى المشوار، وترَجَّلْتُ من السيارة التي كان لبَرَكةِ السَّماءِ دورٌ في أن أستقلَّها درءًا للبَلَل الذي لم يحدث وقتها. وإذا بهذه الأقصوصة تقابلها أقصوصة شبيهة قصَّها عليَّ الزميل إبراهيم أبو لبن، وهو يحضِّرُ مادةً إعلامية عن يوم المعلم، إذ اختار من بين مَن قابلهم مدير مدرسةٍ متقاعد، إذ بكى وهو يحكي عن ابنه المغترب، قائلًا: كنت أتمنى أن يكون ابني معلِّمًا. ولكنَّ الرياحَ جاءت على غير ما تشتهي السفن" هذا الحوار الذي دار بين الزميل إبراهيم والمدير المتقاعد يحمل أبعادًا كثيرة، أقلّها أنَّ المعلمَ أمنية صعبة في عقول الكبار والصغار، مع أنَّ كثيرًا من الذين امتطوا هذه الصهوة يتندرون بالقول" الشغل مش عيب!!!).

في يوم المعلِّم، ماذا يقول الناس؟ وماذا يكتب الشعراء؟ وكيف يحتفي مديرو  المدارس بالمعلمين؟ فلكلِّ قائلٍ ما يقول، ولكلِّ مديرٍ منهجٌ وأصول، و"للنيلِ عاداتٌ وللناسِ مثلها" ورحم الله المتنبي، وشاعرَنا درويشًا الذي كان والده مُعلِّمَهُ الأوّل، فعاتَبَه لأنّه لم يحتضنه ولو لمرةٍ واحدة وهو عائدٌ من المدرسة، فقاده ذلك إلى فلسفةٍ من الشعر قلَّ نظيرها، حتى وإن ترَكَ أبوه الحصانَ وحيدًا. وكم مِنّا مَنْ قبَّلَهُ أبوهُ صباح مساء، فقابلَ القُبلاتِ بالنُّكرانِ والجحود، وصارَ متعلِّمًا بلا علم، وأبًا بلا أُبُوَّة!؟

في يوم المعلم، هنيئًا للطلاب الذين يجدون معلِّمًا أبًا وأخًا وصديقًا، وهنيئًا للأمهاتِ اللواتي يتمكَّنَّ من تحضيرِ (طبخةٍ ساخنة)، وهنَّ على يقينٍ بأنَّ أبناءهنَّ قادمونَ من هناك بأمنٍ وسلام، تحفُّهُم دعواتٌ صادقةٌ عن الشمال وعن اليمين، وهنيئًا للذين يعتقدون أنَّ المعلِّم ليس بحاجةٍ لمن يُعيدُ له كرامته؛ لأنه إن فقدَها فَقَدْ فقَدْنا الحياة. وهنيئًا للمعلم الذي تقاسم مع طالبٍ نسيَ مصروفَه ذات يومٍ آخرَ ما تبقَّى في جيبه من راتبٍ هزيل، وهنيئًا للمعلم الذي رسم البسمة على قلوبٍ أضناها التعب وعقوق الوالدين، وهنيئًا للمعلم الذي أفنى الفصل الأطولَ من كتاب حياته وهو يبني عقولًا، ولا يعدُّ فصولًا. فالسلام عليك أيها المعلمُ، والسلامة لقلبك النابض حُبًّا لا تشوبه المنغصَّات. والتحيات المباركات لكلِّ من علَّمَنا أن نكون، فكنَّا على أعينهم سائرين. السلام على روح أبي الذي علَّمني الحياةَ، وقرأَ عليَّ من كتابها أجمل الفصول!!!