يتسابق المحللون ومراكز البحث والتخطيط الاستراتيجي في اسرائيل في وصف حالة الضعف غير المسبوقة للسلطة الوطنية، ويُفنّدون الشواهد والأدلة على التراجع المتزايد في مكانتها ومكانة الرئيس عباس. وينبري بعضهم، ومعهم قادة من الجيش والأمن الاسرائيليين، لإظهار انحيازهم للرئيس، وضرورة مساعدة السلطة للخروج من أزماتها سواء المالية، أو التراجع في شعبيتها بفعل ما تسميه هذه الدوائر بالفشل الاستراتيجي للسلطة، متجاهلة أن سياسات حكوماتها، وقلّة حيلة المتحكّمين بقرار السلطة في مواجهة هذه السياسات، هي محرك هذه الأزمات المتفاقمة. ولمزيد من التضليل تقوم بعض الجهات الاسرائيلية، سيّما الأمنية، بحملة اتصالات تحت ذريعة إعادة قنوات الدعم المالي العربي، كما تُوسِّع من الطاقة الاستيعابية للعمال الفلسطينيين في سوق العمل الاسرائيلي، بما في ذلك في المستوطنات التي تشكل الحلقة الأبشع للاحتلال.
يترافق ذلك كله مع تصاعد حدة التوتر بين السلطة الوطنية وحركة حماس، في وقت يتزايد فيه التحريض الاسرائيلي لدفعهما نحو التصادم، الذي لن يؤدي سوى لمزيد من إنهاك الحركتين، ومعهم المجتمع الفلسطيني، وتعميق فجوة عدم الثقة بين بقايا الحركة الوطنية "ومعها المشروع الوطني" وبين مختلف فئات الشعب الفلسطيني، بهدف دفع كافة الأطراف نحو التسليم بخططها القديمة الجديدة لفتح الباب نحو مسارات الحل الاسرائيلي وخياراته التي تستثني جميعها الإقرار بحق الفلسطينيين في تقرير المصير، وبضرورة إنهاء الاحتلال العسكري والاستيطاني، وتمكين شعبنا من تجسيد كيانه الوطني المستقل في دولة ذات سيادة على حدود عام 1967. وهي ترتكز بهذه المسارات على مخطط تفتيت الكيانية الوطنية؛ بتعميق انقسام غزة تحت حكم حماس، عن "كانتونات" الضفة الغربية تحت حكم سلطة فتح، وتواصل في نفس الوقت عملية ترويضهما لاحتوائهما، فتنفخ في بوق الخلافات والتلويح بأن حماس تسعى للانقلاب على السلطة، في وقت تستمر فيه بالتفاوض معها على شروط هدنة طويلة الأمد في غزة، هذا من ناحية، كما تستمر، من الناحية الثانية، في وضع السلطة أمام اختبار مدى جدارتها بالوكالة الأمنية عبر التنسيق الأمني، وفي قدرتها على منع أي شكل من أشكال رفض ومقاومة المشروع الاستعماري الذي يتمدد على أنقاض مشروع التحرر الوطني الذي سبق وقادته منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة حركة فتح.
هذا هو واقع الحال الذي تسعى حكومة الاحتلال لترسيخه من أجل إعلان نصرها على الحركة الوطنية المعاصرة التي انطلقت قبل ما يزيد عن نصف قرن لاستعادة الكيانية الوطنية وطرد المحتلين. وهي تواصل ترسيخ مشروعها الاستعماري، والذي بات واضحًا أنه لا مكان فيه لأيّ حل سياسي وسط مع الفلسطينيين، يمكّنهم من الحد الأدنى من حقوقهم وفي مقدّمتها حقهم الطبيعي في تقرير مصيرهم. بل، إن اسرائيل الاستيطانية تُجمع، ومن خلال ما تسميه قانون القومية على أن تقرير المصير بين النهر والبحر هو حصرًا لليهود مستثنية من ذلك أيضًا المليوني فلسطيني الذين يعيشون داخل اسرائيل، معتبرة إيّاهم أقل من مواطنين من الدرجة الثانية، بل، ربما أنها تنتظر اللحظة الإقليمية والدولية التي تمكنها من اقتلاعهم لتصويب ما يسميه غلاة الفكر الصهيوني بتصويب خطأ عام 1948، الذي أبقى هذا الجزء من شعبنا على أرضه، وهو الأمر الذي كشفت عن جزء منه خطة "ترامب نتانياهو"، التي للأسف لم تلغِها إدارة بايدن حتى الآن رغم مطالبات أعضاء من الكونغرس بذلك.
المعضلة الاستراتيجية التي علينا مواجهتها، أن حكومة الاحتلال وهي تحاصر كل مناحي الحياة في قطاع غزة، وتسعى لمزيد من تهويد القدس وتوسيع رقعة مشروعها الاستيطاني في الضفة الغربية، تقوم بذلك كله، وهي لا تتوقع أن ينهض أي شكل من أشكال الرفض والمقاومة، لا بل تعمل وتتوقع أن يجري لجم مثل هكذا نهوض بأيدي القوى المهيمنة على المشهد والمتصارعة فيما بينها، وهي تمارس الإمساك بخيوط لعبة مسرح الدمى، وتتظاهر باستعدادها لتقديم الجوائز لمن يؤكد قدرته الأكثر فاعلية في إنجاز مهمة إخماد الغضب الشعبي، والذي يتوسع هذه المرة ويتعمق ليس فقط ضد المحتلين، بل، وفي مواجهة القوى الانقسامية التي أوصلت الشعب الفلسطيني لهذه الحالة من الخطر غير المسبوق، ليس فقط على ما سبق وحققه من إنجازات، بل وعلى مستقبل قدرته على البقاء في هذه البلاد.
لقد آن الأوان للكل الفلسطيني أن يدرك بصورة واضحة وجلية، أنه ورغم ما يمتلكه الاحتلال ويتمتع به من ميزان قوى مُختل لصالحه، بل ومراكمته على هذا الاختلال عبر عمليات التطبيع التي تشجع الاحتلال على المضي في تنكّره للحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، إلا أن مفتاح تغيير هذه المعادلة يمتلكه الفلسطينيون أنفسهم، ولا أحد غيرهم، سيما الفئات الاجتماعية التي تتضرر مصالحها يوميًا من هذا الواقع. فإن كانت اسرائيل تريد قطف ثمار الفشل الاستراتيجي الذي وصلت إليه الحركة الوطنية، وتسعى لتطويع بعض أجنحتها، فإن اسرائيل نفسها تعيش فشلًا استراتيجيًا أكثر خطورة على مشروعها، ويزيد طينه بلّه تَغلغل سياسة وثقافة غطرسة القوة في مفاصلها الاحتلالية التي تغذيها بعصارة فكر الأبارتهايد الذي يتنكر لمجرد وجود الفلسطيني.
إن مواجهة هذا المنعطف الأخطر، لا تتطلب سوى الإقرار الواضح والملموس من القوى المهيمنة على المشهد، بأنه لا يمكن لأي قوة كانت، ومهما كان الدعم الذي تحصل عليه، بأن تنفرد في قيادة وتمثيل الشعب الفلسطيني، بل إن تغليب الصراع الداخلي على هذا التمثيل، على حساب التناقض الرئيسي مع الاحتلال، كان بمثابة البوابة التي نفذت منها اسرائيل، وما زالت تسعى لتوسيعها، لتهشيم الوطنية الفلسطينية، وضرب وحدانية تمثيل منظمة التحرير لشعب فلسطين كمُكَّوّن رئيس لتجسيد الكيانية والوطنية الجامعة وكمدخل لانتزاع الحق في تقرير المصير.
إذا كانت حماس المحاصرة، و"المتهمة بالإرهاب"، تعتقد أن وهن وتراجع شعبية السلطة وحركة فتح في الضفة الغربية سيُعزّز من تحسين شروط صفقتها مع الاحتلال نحو هدنة طويلة الأمد في غزة، وتؤمّن لها طابعًا شرعيًا في انتزاع حصرية التمثيل، ويوفّر لها أيضًا دور ما في إدارة السكان، كواحد من خيارات اسرائيل في الضفة، فهذه ستكون حماقة تاريخية تتجاوز كارثة أوسلو التي أوصلت الجميع إلى ما وصلنا اليه. كما أن اعتقاد السلطة، التي تشعر بمزيد من الضعف، تصل حد استجداء مجرد التفاوض كمدخل لاستعادة شرعيتها، ستكون قادرة بالحلول الأمنية في الضفة، والصمت على وجع الناس من حصار غزة، فهذا يُشكل استمرارًا للسقوط في المستنقع الاسرائيلي الذي يُعتبر الفخ والسبب الأساسي، إن لم يكن الوحيد، لضعفها وتفتّتها، والخطر الذي يداهم سلطتها.
لقد آن الأوان ودون أي تأخير لاستخلاص دروس الفشل وأسباب الكارثة التي تحدّق بالجميع، والإقرار بالحاجة الماسّة للاتفاق الفوري على خطة تغيير وإنقاذ انتقالية، وطنية المنشأ والأهداف، تتصدّى للعبة الدومينو الاسرائيلية وتفشل أهدافها، وذلك بالإسراع في تشكيل حكومة وحدة وطنية تضم كافة القوى وأبرز القيادات الوطنية المستقلة، وبما يشمل حركة حماس؛ وظيفتها الأساسية تتركّز بوقف وإنهاء الانقسام وما يحدثه من انهيار، وتعزيز صمود المواطن ومكانته في النظام السياسي الفلسطيني، والتحضير الجدّي لانتخابات شاملة خلال عام تعيد بناء مؤسسات الوطنية الجامعة في حكومة ممثلة للجميع، وإعادة الاعتبار للطابع الائتلافي لمنظمة التحرير لتكون الممثل الشرعي والجامع الوحيد لشعبنا. بهذه الأسس وما تتطلبه من مراجعة لكل سياسات تهميش مصالح البلاد والعباد وحقوقهم الطبيعية، يمكن لشعبنا التقدم نحو النصر؛ فالهزيمة ليس قدرًا، كما كان يردد المناضل الراحل تيسير العاروري!