الجمعة  22 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

وإنَّها لَبُرقَةُ حتى النصر| بقلم: عبدالله لحلوح

2021-12-27 08:55:29 AM
وإنَّها لَبُرقَةُ حتى النصر| بقلم: عبدالله لحلوح
عبدالله لحلوح

 

   "إنها لثورةٌ حتى النصر" لا أعرف القائل الأول للعبارة السابقة، إلا أنني سمعتها مراتٍ عدة منذ أن دبَّت قدماي على هذه البسيطة غير البسيطة، ومنذ أن صار لي أذنان تفهمان ما تسمعان، فالأذن أحيانًا تعشق قبل العين، ولو حصل خلطٌ في تركيب بيت الشاعر العباسي الضرير بشار بن برد، فليس في الأمر ما يضير، طالما أننا نعيشُ في ظروفٍ مخلوطة، والثورةُ على الأبواب، وإنها لثورةٌ حتى النصر. وقد كان الرئيس الفلسطيني الشهيد ياسر عرفات يردِّدُها في كلِّ مناسبة، ويحكيها على طريقته الثورية وابتسامته السحرية، وغضبه الجميل، وقد رحلَ قبل أن يرى ذلك النصر، وسمعتُ أناسًا يرددونها على طريقته، وما زالوا ينتظرون النصر، وما زالت (حتى) تحاول الوصول.


إنَّ ترتيب هذه العبارة مُنهِكٌ لافتٌ، فيه حكمة التوكيد، والإسناد، والغيبة، والتزحلُق، والبعد الزماني المنتهي بمحطةٍ الوصولُ إليها مشروط، وهذه الموتيفةُ الجميلةُ اللطيفة تستلذها الأُذن، ففيها إيقاعٌ بلاغيٌّ غريبٌ لا أكاد أفهمه، لكنني أتذوُّقه وأشعر بحلاوته، وربما يعود السبب في عدم فهمي لها إلى قصورٍ في ذائقتي المهترئة، فلستُ من أصحاب القصور الذين يجيدون الفهم، ويتقنون السمع، ومنهم سمّاعون، وليس في الأمرِ من ريبة، فالثورةُ إن بدأت لا تنتهي إلا بتحقيق أهدافها، ونحنُ ما زلنا نُهدِّفُ في شِباكِ الخصم، لكنَّ حارس مرماهُ لم ينزل عن الشَّبَكِ، ولم يتنازل بعدُ عن حقِّنا الذي ظنَّه حقَّه، فتراخيْنا في استرداده، فسجَّلَهُ في الوقت بدل الضائع في سِجِلِّ أملاك الغائبين، معتقدًا أنَّ أصحاب الحق غابوا ولن يعودوا، ففاز في الشوط العاشر بعد المئة، أمّا نحنُ فما زلنا نلعب، ولمّا نتعبْ، وإنها لثورةٌ حتى النصر. 
إنَّ فهمنا لهذه العبارة الجليلة بغضِّ النظر عن صاحبها، لا بدَّ أن يكون فهمًا بليغًا مبالغًا فيه؛ إذ لا يجوز التغني بالعبارة ( عالرايحة والجاية) دون أن ندرك معناها العملي لا النظري، فمما لا شكَّ فيه أنَّ أعمار الثوار أطول بكثير من عمر الاحتلال وإن عمَّر، فإنَّ عمره قصير، بل إنه أقصر من عمر الكذب، والاحتلال بحد ذاته كذبة كُبرى، وحبلها قصير وإن حاول الاحتلال وبعض أشياعه إطالة هذا الحبل، فإن الثورة أقربُ إليه من حبل الوريد، وهي القادرة على تقصيره وتحويله مشانق لرقابٍ طالما استطالت وتكبرت وتعجرفت على أصحاب الأرض.
وحتى تكون ( حتى) بظرفيتها وحرفيتها ومسمياتها التي حتحتت عقول النحويين والبلاغيين، وحتى لا نموت وفِي أنفسنا شيءٌ من ( حتى) فإن علينا أن نتدارس أمرها فعلًا لا قولًا، فالثورة تتطلبُ وحدة، وروحًا منتصرةً على الخوف والموت، وحالةً من النهوض الوحدوي، أما مبدأ ( اللهم أسألك نفسي) فإنَّه لا يُعَشّي طفلين في السرير، ولا يبني وطنًا ولا يعيد البصر لضرير، ولكنه يزيدنا جوعًا وركوعًا ودموعًا، إلى أن تملَّنا الدموع، ويكرهنا الركوع، وحدِّثهم وقتذاك عن حيفا ويافا وعن درب الرجوع. وإلى أن يأتي ذلك الحديث، فإنَّه علينا أن نتساءل عن حديث ( بُرقة) التي تصارعُ وحيدةً، مستصرخةً الضمائر، تستعير من السعير نارًا توقد بهِا ليلها الموحش، وتكوي ظهور قطّاع الطرق القادمين من اللامكان، وتكافحُ مجابَهَةً لا فكاك منها. فهل أتاكم حديثُ بُرقةَ يا عرب؟

إنَّها لَبرْقَةُ حتى النصر، وإنَّها لحديثٌ أتاكم في عزّ النهار، فما سمعتموه ولا عقلتموه، فأين الثورةُ وأين النصر؟ وأين من يسمع صراخ الأمِّ تقول: واعرَباه! فلم يأتِ الصراخُ إلا بقليلٍ من الشجب الخجول، والقلق والذهول، لتظلَّ برقةُ وبيتا، وسبسطية وأترابها يُسَبِّحْنَ بحمد الترابِ الدمويِّ البهيج، الذي يُؤتي الشهداء على حُبِّهم، مع أنهم يحبون الحياة إذا ما استطاعوا إليها سبيلا، ولكنهم يحبون العزةَ والكرامة أكثر، فيؤثرون الموتَ وقوفًا على حياةٍ لا طعم لها ولا رائحة، فسبحانك اللهمَّ إذ ألهمتهم تلك الكرامات، وألبستهم أثواب الشرف في سنين قاحلات، وجعلتهم مناراتٍ يهتدي بنورها التائهون، ورفعتَ من أصلابهم من يرفع القولَ إلى معارج الفعل، فإنها لثورةٌ حتى النصر بإذن الله، هي في قلوب أولئك الفتيةِ عقيدةٌ راسخة، وحكمةٌ بالغة، وسنَّةٌ لا حياد عنها، والمجدُ لمن قال ( لا) في وجه من قالوا ( نعم)، لا شيء يأتي من عَدَم، والنصرُ إن هبَّت أُمُم، لا ليس يجنيهِ صَنَم.
وإنها لبرقةُ حتى النصر. مع الاعتذار الشديد للشاعر أمل دنقل.