الأربعاء  27 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

سامي الغضبان.. مناضل عنيد وعصامي في الزمن الصعب| بقلم: أمل غضبان- عاروري

9 أيلول / سبتمبر 1921- 1 تشرين ثاني / نوفمير 2005

2021-12-29 11:30:59 AM
سامي الغضبان.. مناضل عنيد وعصامي في الزمن الصعب| بقلم:  أمل غضبان- عاروري
سامي الغضبان

 

هذه المقالة هي مجموعة قصاصات نجحت بجمعها، وما زلت أعكف على جمع أخرى، عن الوالد سامي الغضبان الذي صادف عيد ميلاده المائة قبل بدء هذا الخريف العاصف بأحداثه. بين أفكار البرد والحزن والقلق مما آلت إليه قضيتنا الوطنية من جهة، ومن الأحداث الأخرى المستمرة منذ الصيف حول جبال وسهول نابلس، طولكرم وجنين (برقة التي تصنع النضال والصمود) قدر الفلسطينيين الممتد.  أستحضر الفترة ما بين بيت عزاء والدي وتأبينه، بين تشرين الثاني / نوفمبر وكانون الأول / ديسمبر 2005، حين صادفت آلاف الوجوه التي لم ألمح من قبل، والأصوات التي روت عن قصص العرفان للشيوعي الثائر المربي والحاضن للشباب والعائلات  "أبو شادي"، ويستمر الصدى. 

بسبب نوعية وعمق انخراط الوالد بالعمل التحرري التقدمي على الأرض وليس في القصور، كانت القاعدة هي الصمت والغموض ومحي الأثر (عاش ومات في العمل السري الذي أتقنه الشيوعيون في نضالهم و مماتهم)، وأنا الثامنة من عشرة أطفال مناصفة إناثاً وذكوراً. ذاكرتي كابنة هي من عمر حرب ال 1967، بعدما بلغ والدي منتصف الأربعينات، وبعد انتهاء حقبات النضال ضد الانتداب البريطاني ومن بعده الحكم الأردني الذي كان قامعاً للشيوعيين مثل والدي. وها أنا أشارككم ما تمكنت من جمعه حتى اللحظة في جزئين. اعتمدت في بحثي على روايات من بقي من أحياء ممن عاصروا سامي.  الوالدة هند الكرمي، وشقيقته ودافنة أسراره سلمى الغضبان عازم (عاشت في طيبة المثلث من 1948 وتجدد اللقاء 1967). الابن البكر شادي والذي رافق الوالد في رحلة المنفى، الخالة نجوى الكرمي، والخال بسام.. عدنان الضمري. ومصادر اخرى.

*** الجزء الأول ***

ولد سامي احمد الغضبان في  9 أيلول / سبتمبر 1921 في مدينة طولكرم لأب ناشط سياسي ومتعلم (خريج الأستانة أوائل القرن الماضي). مرض الأب وتقلب الأوضاع السياسية بالمنطقة العربية دفع بالابن البكر سامي لترك مقاعد الدراسة بعد الصف السادس الابتدائي في العام 1933، ليلتحق بعدها بدار الأيتام الإسلامية حيث تعلم مهنة الخياطة. 

عمل كخيّاط في معسكر للجيش البريطاني في بيت ليد والتحق بالنضال الوطني ضد الاستعمار مبكرا، فساهم في الإضراب الشهير للفلسطينيين في العام 1936. ثم توجه إلى حيفا للعمل هناك لإعالة عائلته، يعيش طوال الشهر بجنيه ويرسل لأهله جنيها ونصف الجنيه. تتلمذ على أيدي الشيوعيين الأوائل وقادة الحركة العمالية في حيفا، منهم فؤاد نصار واميل حبيبي وإميل توما وحنا نقارة. 

عاد لطولكرم في العام 1942 وقام بتأسيس نقابة العمال في طولكرم وفتح أول مخيطة له. كان عضوا مؤسسا لعصبة التحرر الوطني في شهر شباط من عام 1944 وانتخب عضواً في لجنتها المركزية. اعتقل بسجن عتليت وعاد لنشاطه في عصبة التحرر بعد إطلاق سراحه.

اعتقل مجدداً على يد جيش الإنقاذ بعد زواجه من هند زكي الكرمي في العام 1948. (عام النكبة وهنا بدأت مرحلة جديدة من النضال بحظوة النظام الملكي الأردني وأدوات قمعه للشيوعيين)، مكث في المعتقل خمسين يوما. اعتقل مجددا أواخر العام 1949 في سجن نابلس لمدة 14 شهرا وفرضت عليه الإقامة الجبرية لثلاثة أشهر في مدينة نابلس بعد إطلاق سراحه. وفي العام 1950 اعتقل مجددا في سجن نابلس ثم نقل إلى سجن عمان لشهرين. بعد إطلاق سراحه عاد بعدها لمزاولة مهنة الخياطة وشارك بتأسيس الحزب الشيوعي الأردني عام 1951.

كان محله مركزا قياديا للاجتماعات وتوزيع المطبوعات الحزبية وللتحضير لمظاهرة نابلس الشهيرة التي قادها الشيوعيون في العام 1951 تحت شعار "نريد الخبز". اعتقل سامي ورُحّل مشياً على الأقدام من سجن نابلس إلى سجن عمان ومن ثم إلى سجن معان المركزي والإتش فايف (H5). حيث بقي سجينا لمدة ثمانية أشهر. ليوضع تحت المراقبة بعد إطلاق سراحه حتى العام 1956.

شارك بنشاط كبير وملحوظ في الفعاليات ضد حلف بغداد ومن أجل تعريب الجيش العربي ودفاعا عن مصالح العمال والفلاحين وغيرها من نشاطات الحزب الشيوعي الأردني في تلك الفترة انتخب لعضوية اللجنة المركزية للحزب. حصل أن هجم عليه بالمحل مجموعة من شباب وعناصر حزب التحرير، واجههم ابن خاله يعقوب  اليعقوب بمقص الخياطة  للدفاع عن سامي. وتدخل الجار أبو حسيب لمنعه من ضربهم بالمقص وقام بإخراج المعتدين من المخيطة. بقي حزب التحرير وأعضاؤه يضمرون العداء والتهديد لسامي حتى بعد احتلال العام 1967 . 

في هذه الفترة اشترى سامي سيارة فوكسل واستخدمها في تنقلاته بين عمان ودمشق، يحضر الاجتماعات الحزبية ويحضر معه بطريق العودة الأقمشة ولوازم الإنتاج للمخيطة من كلف وبطاين وأزرار وخيطان وغيرها. ثم بنى بيتا له ولعائلته بين الأعوام 1954-1955.  قبل اضطراره لمغادرة طولكرم إلى الشام. كان قد اشترى سيارة أميركية الصنع من شركة المعشر بعمان لزوج اخته ليعمل عليها ويعيل عائلته الكبيرة، واضطر سامي لتغطية أقساطها حتى وهو بالمنفى وواقع تحت أعباء عائلية ومالية جمّة. 

بعد إنهاء حلف بغداد العام 1955 وتعريب الجيش الأردني في آذار 1956 وطرد جلوب باشا ومجموعة من الضباط الإنجليز، وتشكيل حكومة سليمان النابلسي في 26.11.1956 بعد أول انتخابات برلمانية في المملكة الأردنية؛ سافر سامي لحضور معرض دمشق الدولي مع مجموعة من الأصدقاء. سكن بغرفة مستأجرة عند الشيخ يوسف سليمان وزوجته الشيخة، وهو ابن قرية قباطية وحارب مع عز الدين القسام وهرب بعد هزيمة القسام باتجاه سوريا وأمضى حياته هناك إلى أن توفي العام 1981. بعد عام ونيف استقبل الشيخ والشيخة والدي مجددا، ولكن كلاجئ.

في العاشر من نيسان عام  1957 تم حل حكومة سليمان النابلسي وعقد اجتماع للمعارضة الحزبية والوطنية والبرلمانية في مدينة نابلس بسبب التوتر في العاصمة عمان، بحضور 23 نائبا من أصل 40. أعلن المجتمعون الإضراب العام في يوم 24 نيسان /أبريل في المملكة وطالب المجتمعون بإطلاق سراح كل المعتقلين السياسيين والسماح بعودة من لجأ إلى سوريا من الشيوعيين والضباط الأحرار وإعادة تشكيل الحكومة الوطنية.

بذات اليوم أعلن الديوان الملكي تشكيل حكومة إبراهيم هاشم ونائبه سمير الرفاعي وأعلنت الأحكام العرفية وحلت الأحزاب. فغادر الكثير من الضباط الأحرار والوزراء والنواب الأردن إلى سوريا. وبدأت حكومة إبراهيم هاشم بملاحقة المعارضة واعتقلت العشرات من الشيوعيين وزجت بهم في السجون وحكم عليهم بأحكام طويلة جدا. لعل أهمها كان سجن الجفر الصحراوي، حيث حرم المعتقلون من كافة حقوقهم المدنية. وتجاوز عدد المعتقلين الشيوعيين في سجن الجفر الخمسين معتقلا.

بعد سقوط حكومة النابلسي بدأت مطاردة سامي من قبل السلطات الأردنية في مدينة طولكرم واستمرت لأكثر من ثلاثة أشهر، منها تطويق بيتنا لأكثر من ثلاثة أسابيع ومنع دخول أي شيء حتى الطعام والحليب لإخوتي الخمسة الصغار، لإرغامه على الاستسلام. كان جنود البادية يسكبون الحليب على الأرض بعد أن تشتريه والدتي لابنها الرضيع خالد كإجراءات عقابية لاختفاء والدي. كان وجود العائلة الممتدة -- الجد والجدة لأمي (أبو وأم زكي الكرمي)، وجدتي أم يسار، وأخوالي يسار وبسام وخالتي نجوى التي رافقت والدتي وكانت تنقل الحليب والطعام بجسدها، وعمتي أم نضال وعائلتها وأخوال أبي آل اليعقوب --  كان وجودهم حول الوالدة وأشقائي مهما جدا في فترة اعتقالات الوالد المتكررة أو اختبائه وثم لجوئه إلى سوريا، وبالتالي أيضا بالترتيب وحماية تنقلاته. يحكى أنه كان يتم قطع الكهرباء عن أجزاء في المدينة لتسهيل تنقله بين بيت اليعقوب وبيت الكرمي ومنزل العائلة.

كان الوالد مختبئا في بيت نسيبه أبو زكي الكرمي (شارع المنشية) عندما تقرر انتقاله من طولكرم إلى سوريا. رُتّب لسامي الوصول لبيته ليودع عائلته أن يكون يوم خطبة عدنان الكرمي ( ابن عمة الوالدة هند ) في البيت المجاور لبيت زكي الكرمي حيث يختبئ سامي. أقيمت التعاليل وحلقات الرقص والغناء بالشارع وتسلل سامي من بين الجمهور إلى بيته لوداع والده المريض بالسرطان وعائلته. وهناك أيضا ولبدء رحلة المنفى، تم افتعال بلبلة وطوشة أمام بيته لإلهاء جنود البادية الذين يحاصرون البيت لإشغالهم. تسلل سامي من البيارة إلى سوريا مشيا على الأقدام وعلى الحمير. رافقه في المرحلة الأولى صديقه حسين الضميري (أبو عدنان) والذي كان يرعى البيارة الصغيرة المجاورة للبيت بعد أن لجأ وزوجته وصولا إلى طولكرم من الضمايرة (منطقة جسر الزرقاء، قضاء حيفا) بعد حرب 1948. عهد إليه سامي زراعة البستان حول البيت  بالحمضيات ورعايتها، فيما أصبحت أم عدنان رفيقة الوالدة أم شادي ومساعدتها في تربية الأطفال وربطت العائلتان علاقة حميمة. 

تختلف الروايات بين أن العم أبو عدنان رافق الوالد حتى قرية بزّاريا وبين أنه رافقه حتى المناطق الأردنية. وقيل إن الدليل المرافق لسامي في منطقة درعا فقد بوصلة الاتجاه على الحدود السورية الأردنية وإذ بهم بجانب مخفر الشرطة الأردني. ناموا  تلك الليلة في الأراضي الأردنية وقطعوا صباحا إلى الأراضي السورية حيث دخل لقسم الدرك الحدودي وأعلن نفسه لاجئاً سياسيا. نقله الدرك من هناك إلى دمشق حيث أطلق سراحه ومنح حق اللجوء السياسي وبدأت مرحلة الاغتراب، فيما حكمت عليه محكمة عسكرية أردنية غيابياً بالسجن لخمسة عشر عاما مع الأشغال الشاقة.

بعد حرب السويس في حزيران / تموز 1957 لحق شادي بالوالد إلى دمشق ( عمره  لم يتجاوز ثماني سنوات)، رافق سائق سيارة يشتغل على خط نابلس -  دمشق اسمه  "القاصد" على أنه ابنه (وتم تحفيظ شادي ماذا يقول كاسم وتاريخ السائق وعائلته إن سأله الدرك) بعد أن قطعا درعا قال له القاصد "عيط هلا إنك ابن سامي الغضبان ". خلال هذه المدة سكن شادي عند عائلة الشيخ والشيخة  كما اعتدنا مناداتهم. بعد شهرين من رحلة شادي، في أواسط صيف العام 1957 وقبل موعد المدارس بدأت والدتي رحلتها مع الأطفال الأربعة المتبقين (شادية وسلام وبلال وخالد) من أجل لم الشمل مع الوالد اللاجىء السياسي بدمشق، تاركة أهلها وبيتنا الذي بقي برعاية العم أبو عدنان. 

استأجر والدي بيتا في منطقة "القصًاع" وفتح محلا للخياطة بجانب سينما الأهرام – جسر بردى. بخبرته ومع ثلاثة عمال بمجال الخياطة، وسوريا مركز الأقمشة ولوازم الإنتاج كان محله عامرا بالعمل والإنتاج وبشكل خاص للمصطافين من الكويت والسعودية ودول الخليج. عاشت العائلة وضعا اقتصاديا واجتماعيا مريحاً بدمشق، وحل عليها الطفل السادس "فهد".  

استمر سامي بمزاولة نشاطه الوطني في المنفى، وتحول محله مجددا إلى مقر لارتياد الرفاق والضباط الأحرار الهاربين من بطش النظام في الأردن -- لاجئين فلسطينيين وأردنيين -- والشيوعيين السوريين. وبإعلان مشروع  الوحدة بين مصر وسوريا ووصول عبد الحكيم عامر للسلطة بمصر، بدأت أجهزة المخابرات المصرية والسورية بملاحقة الشيوعيين واليساريين العرب وتصفيتهم. اعتقل الوالد بسجن المزة بدمشق هذه المرة، بقي في السجن حوالي أربعة أشهر وتم تشميع محله وملاحقة أسرته. بعد تدخل من قوى لبنانية سمحت المخابرات السورية لسامي ولعائلته الانتقال إلى لبنان في العام 1960. مجددا، استأجر الوالد بيتا ثم محلا بعمارة الوزير صائب إسلام الذي لعب دورا مهما في توفير المدارس للأطفال، حيث تم تسجيلهم في مدارس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية. شادي  تم تسجيله في مدرسة عثمان ذو النورين.

في بيروت قرر الوالد التواري عن الأنظار والتروي سياسيا لحين استقرار أموره والعائلة. ولكن المخابرات الأردنية ما فتأت تبحث عنه، وعملا باتفاقية تسليم المطلوبين بين الدولتين، قدمت الأردن طلبا للسلطات اللبنانية لتسليم سامي الغضبان لها. اعتقلته السلطات اللبنانية نهاية العام 1962 بغرض التسليم للسلطات الأردنية، فتدخل الحزب الشيوعي اللبناني وصائب إسلام وكمال جنبلاط لمنع تسليمه للمخابرات الأردنية، فاشترط اللبنانيون خروجه من لبنان.  

اقترحت قيادة الحزب الشيوعي الأردني على الوالد مغادرة لبنان إلى تشيكوسلوفاكيا أو الكويت. أثناء التفاوض حدث الانفصال في الوحدة بين سوريا ومصر، فعاد الوالد والعائلة مرة أخرى إلى دمشق بعد العام 1962، مضيفا إلى فريق العائلة الصغيرتان رجاء وأمل اللتان ولدتا في بيروت. عائلة كبيرة وحمل كبير، كانت عين سامي على الوطن ولا يريد لأبنائه حياة الاغتراب والشتات. كانت الجدة أم يسار الكرمي مرافقة للوالدة أم شادي طوال الوقت لإعانتها ومساعدتها بتدبر أمور البيت والأطفال. في دمشق، مجددا، عاد الوالد وفتح محلا للخياطة بالصالحية، واستأجرت العائلة بيتا بمنطقة الشيخ محي الدين، حيث مدارس الأطفال قريبة. أما شادي فدرس في مدرسة دار الحكمة بمنطقة سوق ساروجة " دمشق القديمة"، ما بين ساحة المرجة وبوابة الصالحية ويعود بعد الظهر من المدرسة لمساعدة الوالد ومساءا مرافقته للبيت. ماذا بعد....

**

عضو اللجنة المركزية لعصبة التحرر الوطني الفلسطيني 

عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الأردني