إنّ مُبادرة "بينيت" لإِغراءِ الفِلسطِينيينَ للعَمَلِ في قِطاع التكنُولوجيا الفَائِقة في إِسرائِيل ستجعلُ منَ الصَّعبِ على الاقتِصادِ الفِلسطِيني المُتعثّر الوُقوف على قَدميهِ.
منَ المُمكنِ أَن يَكونَ رئيسُ الوزراءِ الإسرائيلي "نفتالي بينيت" قد تسببَ في هزيمةِ "بنيامين نتنياهو" واستطاع تشكيل الحُكومةِ الأَكثر تنوعًا فِي إسرائِيل. لكنَّ الحُكمَ يتعدى كونهُ لعبةً انتِخابية. حيثُ يَعتمِدُ الأَمرُ على السيَاسات التي يُظهرُ فيها "بينيت" نَفسه على أَنّهُ نسخَة "نتنياهو" المحسنة: يَمينِي التّوَجه، وتَوَسعِي الرّغبة، ومُدافعٌ شرس وفي العلن عن عنفِ المُستوطنين تجاهَ الفِلسطِينيين.
يَأتِي الاقتِصاد الفِلسطِيني فِي مُقدمةِ تفكيرِ "بينيت" حالياً، وهو من قدّمَ اقتَراحَ "تقليصَ الصراعِ" والذي بِموجبهِ ستتخذٌ إسرائيل إجراءاتٍ لمُساعدةِ اقتِصاد الفلسطينيين المُتعثر مَع استِمرارِها في الاحتِلال العَسكري، وهو شَكل جَديد ومُحسّن من "السلامِ الاقتِصادي" الفاشِل لـ"نتنياهو".
وعلى الرغمِ من أَن هذهِ المُبادرة قد حظِيَت بتغطِيةٍ إِعلامِيةٍ واسعةٍ، فَقد تَجاهَلت جَميعها تَقريبًا حقِيقة أن إسرائيل المُتحكم الرئيس في التخطِيط والتنمِية الاقتِصادية الفِلسطِينية، تَليها جِهات مَانِحة مِن دول أَجنَبية مُعتَمدة من الوِلايات المُتحدة، ثم يَحل الفِلسطِينيون فِي المَرتبَةِ الأَخيرةِ في ترتيبِ النّفوذ.
إن أَحد المَجالات الرئيسةِ التي تُركزُ عليهَا الحُكومةُ الإسرَائيلية في مجال "السلام الاقتِصادي" هو قِطاعُ التكنُولوجيا الفِلسطِيني.
أُولى قَراراتِ مجلِس الوُزراءِ الإسرائيلي في نوفمبر/تشرين الثاني أوضح أَنّ "500 فِلسطِيني سيكُونونَ قَادرينَ على الحُصولِ على تَصاريح للعملِ في صِناعةِ التكنُولوجيا الفَائقِة في إسرائيل في السنواتِ الثلاثِ المُقبلة، [...] وفقًا لِوسائِلِ الإِعلامِ الإسرائيلية". (JPOST)
تَأتِي هذهِ التصَاريح الجَديدةُ البَالغ عددهَا 500 تصريح، فِي أَعقابِ عَشراتِ الآلافِ من تَصاريحِ العَملِ الصادِرةِ للعُمالِ الفِلسطِينيين التّي ستُمكنِهُم مِن دخولِ إسرائِيل لِصالحِ الاقتِصادِ الإسرائِيلي، مِمّا يتركُ الشّركاتِ الفِلسطينية مَع عمالةٍ أغلبها من الدرجِةِ الثانِية والثّالِثةِ. آخِر المُستفِيدينَ مِن هَذا "الكَرم" الإسرائِيلي هو قِطاعُ تكنُولوجيا المَعلوماتِ في فِلسطِين.
قَبل قِطاعِ تكنُولوجيا المَعلومات، تَمّ إغراءُ عددٍ كَبيرٍ مِن عمالِ الِبناءِ والزّراعةِ والتّصنيعِ بالابتِعاد عن الاقتِصاد الفِلسطِيني لخِدمَة المَصالِحِ الاقتِصاديّة الإسرائِيلية، بِما في ذلكَ بِناء المُستوطناتِ غيرِ القَانُونيةِ (مثل غوش عتصيون، وأتاروت، وجيشوري، وبركان، وبيت حورون، ومهولا، وموسوا الجاثمة على الأراضي الفلسطينية) وَإنشاء مُؤسساتٍ اقتِصاديةٍ قَائِمة على المُستوطنات، بِما في ذلكَ الشّركاتِ مُتعددةِ الجِنسيات (مثل شَركةِ HeidelbergCement الألمانية مُتعددةِ الجِنسيات وفَرعها (هانسون إسرائيل)، وجنرال ميلز إسرائيل (Pillsbury)، وهي شَركة تابِعة لشركة جنرال ميلز الأمريكِية مُتعددةِ الجِنسيات).
وَافقَ الفِلسطِينيون والإسرائِيليون بِدعمٍ مِن الاتّحادِ الأوروبيّ على بِدءِ مُبادرةٍ جَديدةٍ لإِدخالِ حاوياتِ الشّحن مِن المَعبر الحُدودِي مَع الأردن، فِي 16 ديسمبر 2021 (الاتحاد الأوروبي).
تُشير التقدِيرات إِلى أَن مَا يَقرب مِن 200.000 فِلسطِيني يَدخُلونَ إسرائِيل والمُستوطنات الإسرائِيلية يَومِياً للعَمل، يَدخُل مِنهُم قَرابَة 50.000 دونَ تَصارِيح، وَالعديد مِنهُم تَحتَ أنظارِ الجَيشِ الإسرائِيلي الذّي يَختار غَضّ الطّرف عن عَدمِ وُجودِ أَوراق رسمِية. رغمَ كل هَذهِ التصاريح هُناكَ سوقٌ سوداء لتصارِيحِ العَمل، لكن هَذهِ قِصةٌ أُخرى.
وَبحسبِ مَا أَفادَت نيويورك تايمز فِي سبتمبر، بَعد أن اجتَمع وَزيرُ الدفاعِ الإسرائِيلي "بيني غانتس" في رامَ الله مَع الرئيسِ الفِلسطِيني "عباس" فِي لقاءٍ نَادر "زادَت إسرائِيل حصةَ العمّالِ الفِلسطِينيين المَسموحِ لهُم بالعملِ فِي إسرائِيل بِمقدار 15000 ، حيثُ يَبلغُ الحد الأدنَى للأُجُور حوالِي ثلاثة أَضعاف الأجور في المُجتمَعاتِ الفِلسطِينية ". لم يَتم فقط إِصدار التصارِيح للفِلسطِينيين المُقيمِين في الضّفةِ الغَربِية، بَل إن التصارِيح الصادِرة للفِلسطِينيين الذينَ يَعيشونَ فِي غَزة آخذة فِي الازدِياد أيضًا.
هُناكَ تاريخٌ طَويل لِتدخل إسرائِيل في تحديد التنمِيةِ الاقتِصادِية في فِلسطِين صعودا وهبوطا تَبعاً لمُقتضَى الحال. غني عن البيان أن العامِل الفَاصِل في هَذهِ السياسِة هو أن إسرائِيل أتقَنت القُدرة على تَفتيت الجغرافيا الفِلسطِينية وفَرض السيطَرةِ الكَاملة على السكّان بِشكلٍ فَعال.
إن أيّ شركِة فِلسطِينية تَتعامَل حاليًا مَع الشرِكاتِ الإسرائِيلية تُخاطِر فِعليّاً باستِمراريتِها على المَدى الطويل فِي سبِيلِ الأَعمالِ التّجاريةِ قَصيرة الأجَل.
بَدأت هَذه السياسة المُزدوجة - التّجزِئَة والسيطَرة - مع قِيامِ إسرائِيل في عام 1948 ، عِندمِا تمّ وضعُ جَميعِ الفِلسطِينيين الذّين بَقوا في ما أَصبح إسرائيل، تحتَ الحكمِ العسكري حتى عام 1966. عِندما احتلت إسرائِيل عسكريًا الضّفة الغربية والقُدس الشّرقِية وقِطاع غزة عام 1967 ، نَقَلت نِظام الحكمِ العسكرِي هذا إلى هَذهِ الأقاليمِ الجدِيدة.
معَ توقِيع اتفاقِيات أوسلو عام 1993 ، بدأَ الاقتِصاد الفِلسطِيني الحَديث في التّبلوُر، وإِن كانَ ضَئيلاً. شَرعَ هَذا الاقتِصاد الناشئ فِي إرساء الأساس لدولةٍ فِلسطِينية مُستقبلية، وعلى الرغمِ من افتِقارها الواضح إلى المَنظور الكَامل للحكم في كل المَجالات، فإنّ الوَضع الآن أسوأ حتى مِمّا كَان عليه خِلال تِلك الفترة غير المُتوازِنة مِن بدايات تطبيق عملِية أُوسلُو.
اليوم، يَتشكل الاقتِصاد الفِلسطِيني أكثَر من أيّ وقتٍ مَضى من خِلالِ صُنعِ القَرار الإسرائِيلي، والمِثال الأكثَر وُضوحًا هو قِطاع التكنُولوجيا.
من المَألوف اليوم أن نرى الشركات الفِلسطِينية تُفكر في التّحدي المُتزايد المُتمثّل في الاحتِفاظ بمُوظفِي تكنُولوجيا المَعلومات لديها.
قِطاع التكنُولوجيا في فِلسطين
في ظلّ وجود نسبَة كَبيرة مِن السكّان الشّباب ولِتخَطي العديدِ من الحواجِز التّي تَفرضُها إسرائِيل والتّي تُقيّد حركَتهُم، اتجَه العديد من الفِلسطِينيين إلى تكنُولوجيا المَعلومات لكَسبِ عيشِهم.
ونَظرًا للاقتِصاد الفِلسطِيني المَحلي المُتدَهور، فقَد أتى الجُزء الأكبَر من فُرصِ تكنُولوجيا المَعلومات من الاستِعانِة بِتعاقُدات خَارجية، والعديد منها مع الشركات الإسرائِيلية، لا سيّما بالنظرِ إلى النقصِ الهَائِل في المُتخصصين في تكنُولوجيا المَعلومات في إسرائِيل بسبب ازدِهارِ قِطاع التكنُولوجيا الفائِقة. قالَ "آفي حسون"، الرئيسُ التّنفيذِي لشركة Start-Up Nation Central ، وهِي مَجموعةٌ غير رِبحيّة تُتَابِع عن كَثب النظَام البِيئِي الإسرائِيلي للتكنٌولوجيا، إنّ قِطاع التكنُولوجيا يُعانِي من "نَقصٍ حادٍ في عشراتِ الآلافِ من المُوظفين".
على الرغمِ من أن فِلسطِين تخرج حوالي 2000 من الخِريجين المُتخصصين في الكمبيوتر وتكنُولوجيا المَعلومات" إلّا أنّ هَذا الرقم لا يُمكِن مُقارنَته بالعددِ الكَبِير لخِريجي STEM (العلوم والتكنُولوجيا والهَندسة والرّياضِيات) الذّينَ تُنتجِهم البلدان الأخرى (الصّين 4.7 مليون، الهِند 2.6 مليون، ثمّ الوِلايات المُتحدة وروسيا بَعيدونَ عنِ الرّكبِ بِحوالِي 570 ألف لكلّ مِنهُما).
لا يخفى على أحد أن العمل مع الفِلسطِينيين لهُ مَزاياه - القُرب الجُغرافِي من المِحور العالَمِي للتكنُولوجيا، يُتقِنونَ لغاتٍ مُتعددة ومُثقفون. بالإضافَة إلى ذلِك، تَلقّى العديدُ من أصحابِ الأعمالِ التجارِيةِ في مجَالِ تكنُولوجيا المَعلومات وكِبارِ المدراء الفِلسطِينيين تَعليمًا وتدريبًا في الوِلايات المُتحدة.
من المَألوف اليوم أن نرى الشرِكات الفِلسطِينية تُفكر في التّحدي المُتزايد المُتمثلِ في الاحتِفاظِ بِمُوظفي تكنُولوجيا المَعلومات لديها. خَسرَ أحدُ البُنوكِ فريق تطويرِ البرمجيات بالكامِل أمَام الشرِكات الإسرائِيلية التي عرضَت على هؤلاء المِهَنيين الشباب راتبًا شهريًا يتراوح بين 5000 و 6000 دولار أمريكيّ، بدلاً مِن رواتبهم الحالية التي تبلغ 2000 دولار أمريكيّ والتّي لا تَتضمّن على أي امتِيازات مثل تصَاريح إسرائِيلية لدخولِ إسرائِيل .
كُل هذا وأكثَر يَجعل أصحابَ العملِ الإسرائِيليين يَرونَ أن هذا المُجتمع الأسير (المُحتل عسكريًا) هدَف لسد النقصِ في العَمالةِ حيثُ تَعتبر الحُكومة الإسرائيلية هذه الفرصة بمثابةِ فوزٍ مُضاعف. من ناحيةٍ أخرى، يُمكِن لشركاتِ التكنُولوجيا الفائِقة الإسرائِيلية تَضييقُ فجوةِ نقصِ العمالةِ من خِلال الاستِفادة من الخِبرات الفِلسطينية.
لقد بَدأت السلطات العسكريّة الإسرائِيلية "تسويق" خَدماتِها مُباشرةً للعامِلين في مجال تكنُولوجيا المُعلومات الفِلسطِينيين بدلاً من تشجِيع التعامُلاتِ التجاريةِ بين الشرِكات.
من ناحيةٍ أخرى، يُمكن تَرسيخ الاحتلال أكثر مِن خِلال ضَمان أن يَظل الاقتِصاد الفِلسطِيني، في جميعِ قطاعاتِهِ، مُعتمِداً هيكلياً على إسرائيل ويكافِح من أجل التطور بشكلٍ مُستقل.
وفي حالِ شك أي شخص في أن هذه استراتيجية متعمدة، تجدر الإشارة إلى أن السلطات العسكرية الإسرائيلية بدأت في السنوات الأخيرة "تسويق" خدماتها، مثل التصاريح، مباشرة إلى محترفي تكنولوجيا المعلومات الفلسطينيين بدلاً من تشجيع التعامل بين الشركات.
في جوهرهِ، يتخطى هذا شَركات تكنُولوجيا المَعلومات الفِلسطِينية، على الأقل تِلكَ التّي تَرغبُ في الانخِراطِ في نَموذجِ الاستِعانَة بتعاقُدات خَارجِية، ويُعيقُ قدرتَها على تَجميعِ الخِبراتِ التّي يَحتاجُون إليها بِشكلٍ صحيحٍ لتَمكينِهم يَومًا ما من القِيامِ بالجزءِ الأكبر من أعمالِهِم مُباشرةً مع السوقِ العالميَّ، مِمّا يُقلل من اعتِمادِهم على المُحتل الإسرائِيلي.
إن أي شَركة فِلسطِينية تَتعاملُ حاليًا مع الشركاتِ الإسرائِيلية تُخاطِر فِعلياً بِاستمراريّتها على المَدى الطويل في سبِيل الأعمال التجارية قصيرةِ الأجل.
يجبُ على أي شخصٍ يُفكر في أن العمل أصبَح أسهل في ظِل وِلايةِ (بينيت- بايدن) أن يُعيدَ التفكير مرة أُخرى. كَتبت "أميرة هاس" هذا الشهر، الصحفيّة الإسرائِيلية التي توصف بأنها لا تُقهَر: "بناءً على أوامر من وَزير الأمن العام الإسرائيلي "عمر بارليف" ، حَظرت الشرطة يومَ الأحدِ لقاءً لرجالِ الأعمَال الفِلسطِينيين في فُندقِ إمباسادور في القُدس. وزَعمَ الوزيرُ أنّ الاجتماع كان بِمبادرةٍ من السلطةِ الفِلسطِينية ورعايتِها وتَمويلِها. وقامَ بَنكُ القُدس بدعوةِ رجالِ الأعمالِ إلى الاجتِماع والعَشاء".
تتَمثل حقيقةُ "السلامِ الاقتِصادي" لـ"نفتالي بينيت" في أن إسرائِيل تسحبُ المَزيد من الخُيوط الاقتِصادية من نَسيج الاقتِصاد الفِلسطِيني، وهو يَتفككُ إلى نقطةِ الانهِيار. إن قِصة فِلسطِين الاقتِصادية ليس مُقدر لهَا أن تَنتهِي في حالةِ دمَار.
لقد أثبتَت إسرائيل مرارًا وتكرارًا أنها تمسك بمفاتِيح الازدِهار الاقتِصادي لفلِسطين في يَديها وتحتاجُ فقط إلى الإرادةِ السياسيّة للعملِ عليها. شخصيّاً، لقد وَثقتُ 101 إجراء ات يمكن للسلطاتِ الإسرائِيلية حرفياً أن تَتخذها لتقليلِ التوترِ دون زيادةِ المَخاطِر الأمنيّة.
لا يمُكنهُم فعل ذلك بِمفردِهم. إنهُم بحاجةٍ إلى مُساعدة كُل مَن يعرِف إلى أينَ يَأخُذنا المَسار الحالِي.
سام بحور محلل سياسي مستقل ومستشار أعمال من رام الله / البيرة في فلسطين المحتلة. يقوم بالتدوين على موقع ePalestine.ps والتغريد باسم على تويترSamBahour@.
الصورة: مكتب شركة Startup Accelerator Flow في رام الله (Ozy)