السبت  23 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

أيضا سنة 2022 بطعم أزمنة المجهول| بقلم: سعيد بوخليط

2022-01-01 04:52:21 PM
 أيضا سنة 2022 بطعم أزمنة المجهول| بقلم: سعيد بوخليط
سعيد بوخليط

''ها أنا أرسلكم كغنم في وسط ذئاب، فكونوا حكماء كالحيات وبسطاء كالحمام'' (المسيح) .

''أريد رحمة لا ذبيحة" (المسيح).

أظن بأنه في حالة استمرار الفيروس/ المُؤَدْلج (حالته المتحوِّلة)، قابضا على زمام مستقبل العالم، مثلما يجري راهنا، فلا شك أن الاحتفالات العفوية والجميلة بأعياد الميلاد، ستفقد معناها مع مرور الوقت غاية تلاشيها النهائي، وإن أضاعت سلفا؛ منذ فترة طويلة بوصلة روح المسيح حقا، فغدت مجرد رهانات فولكلورية سخيفة؛ بلا روح تذكر، على الاستهلاك الباذخ داخل المعبد الذهبي لليبرالية جشعة، لم تتوقف عن اغتيال كل ما هو جميل. 

أفق، بدت مؤشراته في التبلور بعد انقضاء السنة الأولى من الفيروس/الإكلينيكي (حالته الأصلية)، وتطلّع العموم نحو استعادة زمام المبادرة، بالعودة ثانية إلى حياة ما قبل مارس 2020، بمعنى ذاك الزمان المعهود؛ المتصالح مع الفضاء العام، برتابته المألوفة على مستوى ممكنات النوم والاستيقاظ، الدخول والخروج، التجول والسفر، بكل أريحية، دون أيّ عائق غير وارد؛ تبرره سلطة الطارئ، ولا استثناءات، ولا إجراءات تسقط تباعا؛ تلغي ذاتها عبثا بدعوى فزع الفيروس الموبوء. 

لكنه شوق، بدأ يخبو وهجه رويدا رويدا، مع تمدّد حقبة الحرب، وتوسع مداها بكيفية سيزيفية حقا ومؤلمة، ثم تباينت وجهات التيه بغير وجهة واضحة المعالم، إضافة إلى تقاطر سيناريوهات من هنا وهناك، تستشرف جهرا أو ضمنيا، استمرار هذه الحرب لفترة يستحيل توقع نهايتها، مما يجبر البشرية أرادت أم رفضت، على ضرورة تقبُّل هذا المصير،  والاستئناس بحمولة النقلة النوعية التي أحدثها ظهور الفيروس/الإكلينيكي على المشهد الدولي، فانتقل بالأخير، من بنية منظومة استمرت لعهود مربوطة إلى إحداثيات الزمان الثلاثة الكلاسيكية: الماضي، الحاضر، المستقبل، نحو أخرى متمركزة جملة وتفصيلا على فجائية اللحظة؛ فالآن ثم الهنا. بالتالي، أخذ الزمان تماما، تبعا لطارئ الفيروس/ المُؤَدْلج، وتبعات حيثياته السياسوية، بعدا لحظيا: العالم هو الآن، الممكن هو الآن، المستقبل هو اللاأمان…، غير إرادة أنصار الفيروس/ المُؤَدْلج؛ المتمرد عن إطاره الإكلينيكي المحض، سيندرج فقط ضمن الوهم.

هكذا، نلاحظ بأن هستيريا ملحمة الفيروس، قوَّضت جملة وتفصيلا، جل الإنجازات الحضارية التي راكمتها البشرية بالدم والآلام؛ كي تتسيَّد بطمأنينة على وضعها من خلال تحكمها في لعبة الزمان وممكناته، فيمتثل لمشيئة الإنسان، يرسم متوالياته كيفما يريد وبالكيفية التي يريد. 

إجمالا، يكمن المتغيّر بين تطلعات أعياد ميلاد المسيح قبل كورونا وما بعدها، في انتصار منظومة اللاتوقع تبعا لرغبات المتحورات الوبائية الدفينة، بدل ثبات السياق المجتمعي سابقا، شَكّل وفقه الطارئ حالة استثنائية؛ بل مستبعدة غالبا على الأقل ظاهريا، لا تقتضيها سوى حالات معينة وبكيفية محدودة في الزمان والمكان، بينما ارتبطت الحالة المبدئية التي اعتادها الناس في الاستكانة إلى الزمن المتواصل دون فجوات كبيرة، عبر متواليات المُدَدِ والتعاقب العِلِّي والفضاء الأوقليدي، ثم نتائج ذلك من الناحية النفسية وتأثيراتها الإيجابية على الوعي الإنساني، من اطمئنان إلى الامتداد وكذا الخَطِّي الذي يسير بحسب ذات الإيقاع. 

لم يكن العالم قط يوتوبيا قبل الوباء/ الإكلينيكي، حتى لا نزايد على الديستوبيا الراهنة، بل ولا خلال أيّ مرحلة من مراحله، فقد استمر حيزه مرتعا خصبا لصراع قوي بين قيم الخير ونزوعات الشر، فيأخذ نظامه الابستمولوجي والأخلاقي، على ضوء انتصار الأولى على الثانية، والعكس صحيح أو تعادل موازينهما، من ثمة نؤرخ لمرحلة جميلة يشدنا الحنين إليها، تسيّد خلالها الحب على حساب الحرب، وأخرى سيئة، ثم ثالثة مظلمة؛ كما الشأن مثلا حاليا، وعلى الأرجح فالقادم أفظع. بهذا الخصوص، اعتقدتُ دائما، بأنَّ تأويلات من هذا القبيل، لا تتعلق بالتفاؤل أو التشاؤم في بعدهما اللغوي البسيط، ما دامت وضعية الوجود والعالم في غاية التعقيد والتداخل المفهومي والشعوري. 

إن جوهر التراجيديا التي تكتسحنا ببشاعة، وجَسَّدت بكيفية واضحة الفيصل بين عالمي ماقبل كورونا/ المُؤَدْلج وما بعده، يتجلى أساسا في الإقرار الأممي من لدن جميع الأنظمة السياسية في العالم، بتعدد مشاربها واتجاهاتها وانتماءاتها الجغرافية، على أن علاقة الشعوب بالفضاءات الخارجية حتى لا أقول الحرية، لم تعد مثلما تكرست قبل ظهور الوباء، بل صارت خارج مِلْكية التصرف المتداول والعمومي، كي تغدو مقنَّنَة كليا، متوقفة على نزوات الوباء. 

تحفظتُ على كلمة حرية، لأن الشعوب ظلت حقيقة محكومة بنوعين من الديكتاتوريات، سواء بحسب صيغتها المادية التقليدية، كما ترسخ عليه الوضع في دول الجنوب المتخلفة، بحيث لا تتجاوز أقصى مستويات الحياة خلال أفضل حالاتها؛ أفق الإشباع الغرائزي في حدوده الدنيا. أما بخصوص دول الشمال الغنية، فقد أضحت شعوبها في خضم الرفاهية وتمتعها بإنسانية مجتمع المؤسسات الحقوقية، هائمة بدورها خلف ديكتاتورية ناعمة ومخملية، قوامها سطوة الديجيتال على الحياة الطبيعية والأتمتة؛ مما أفسح المجال واسعا أمام هيمنة منطق الآلة وفلسفة الرقمي وتقهقر فلسفة الإنسان. ثم بين طيات ذلك، تكرَّس البعد المطلق للاستهلاك الماكر والموجَّه الذي يخدم ذهابا وإيابا، التوجهات الكبرى للشركات العابرة للقارات.

إذن، التحول الجذري الذي كبح أنفاس الإنسانية منذ سنتين، اختزال مجمل التاريخ والجغرافية وممكنات السماء والأرض، عند طارئ الفيروس/ المُؤَدْلج، وما اقتضاه الوضع من مصادرة للحرية الإنسانية المقدسة دون قيد ولا وصاية.

لأن السياق صار كذلك، وانتهت الإنسانية إلى جوف البئر، بعد أن أمضت عقودها الأخيرة تترنَّح عند حافته بسبب أوبئة عدة، تقض مضجعها، الفارق بينها وكورونا، فقط أنها لم تجد الحظوة نفسها؛ رغم انطوائها على نفس مستويات التدمير. أقول، مع هذا الانهيار غير المنتظر حتى لدى أشد المتشائمين، ربما رددت ترانيم المحتفلين مجرد استعادة وضعية شفا الحفرة، أو مابات يعرف منذئذ ضمن أدبيات رصد الوباء/ الإكلينيكي، بالعيش في كنف تلك الحياة الطبيعية السائدة غاية مارس 2020 .  

لقد أكد أهل الاختصاص منذ الأسابيع الأولى للأزمة الحالية،بأن العالم انتقل فعلا صوب نسق جديد ونظام مغاير، قد يكون مستوى متقدما لعولمة أخرى برؤوس عدة، ويلزمنا تمثل اللعبة بكيفية استراتيجية حتى نتدبر الحلول الناجعة. لذلك، لا يمكننا الاستعداد لمحاورة أزمنة العالم في صيغته الحالية، بناء على رؤى ثقافة قديمة مكبلة بأوهام نوستالجية آسرة. بلغة ثانية، يجدر بنا جميعا الانتقال نحو بناء عالم ما بعد كورونا /الإكلينيكي، بكل شجاعة وإخلاص، بالقطع جذريا مع المقدمات التي أودت بنا عند نهاية عالم لم يعد قط يتسع لأحد.

المسألة  مرة ثانية، غير متعلقة بتفاؤل ولا تشاؤم؛ بتأويلهما الساذج المغرق في التبسيط والاختزال، لكني أعتقد، بأن يوميات سنة 2023، ستطوينا حتما على خَطْبِ نفس الكلمات التي أرهقتنا طيلة السنة المنصرمتين، واستنزف حواسنا قاموسها  الشمولي المتجلِّد الذي لم يعد يتزحزح عن عقم كلمات جافة نتجرعها طيلة اليوم، من قبيل: دخول/ خروج، خروج/ دخول، إغلاق/ فتح، فتح /إغلاق، مناعة، قطيع، جواز، متحور، منع، طارئ، جرعة، جرعات.