وصلت البيت قبل موعدي؛ عند الباب تذكرت أنه مفتاحي مش معي لأنه عامر مفتاحه الصبح كان ضايع وهيك أخذ مفتاحي لأجل يسكر الباب وهو طالع على الجامعة.
اللي كنت متأكد منه إنه المدام رح تكون في البيت عند الظهر، بعد ما ترجع من الفطور الصباحي مع صاحباتها كل ثلاثاء؛ يفطروا مع بعض في شيشة ومنقوشة أو خميسيات، أو مطعم ورد.
المدام ما كانت في البيت، مفتاحي أخذه عامر وعامر في الجامعة، وهيك أنا صفيت بدون مأوى، وما كان عندي في البلد إشي أعمله، لأني كنت مالل، وزهقان وطفران، لأنه الشهر كان في أواخره.
كان في مجموعة خيارات، الأول أرجع على الجامعة وهيك رح أقابل رئيس القسم أو العميد أو الفراش وتستمر حفلة النميمة لساعة أو أكثر، وأنا بحاول باستمرار أتهرب من نميمة المؤسسات فالجميع مش عاجبة الجميع، وهيك بطلع السؤال الكبير اللي كلنا بنسأله لحالنا، مين المسؤول عن الخراب اللي عايشين فيه؟
الخيار الثاني، أنزل على السيارة أفتح المكيف وآخذ غفوة، بس كمان هيك كل اللّي في الشارع والجارات من الشبابيك رح يخطر في بالهم إني عامل طوشة مع مرتي وأنها طردتني من الدار.
الخيار الثالث أروح عند أمي وهيك رح أدخل في سؤال وجواب أنا في غنى عنه تماماً، وين مرتك؛ مفتاحك وين رايح، سقى الله أيام زمان ونسوان زمان، وانتو بتعرفوا علاقة الأم بكنتها، خاصة إذا كانت كنتها حلوة وفري مثل مرتي.
نزلت على الدرج ومش بالمصعد، حتى أقتل الوقت، شفته قاعد على مدخل غرفة الحارس، بربيش الأرجيلة بثمه. اللي بستعمل المصعد ما بشوفه لأنه غرفته جانبية وهي بالضبط معالجة إنشائية غبية لخطأ هندسي، طبعا مثل كل مرّة بشوفه بصبّح عليه أو بمسي، وهو لمّا بشوفني بسألني عن أحوالي والأولاد والشغل وكالعادة وكل مرة بشوفه بقولي تفضل إشرب شاي معي. ولأول مرة حسيت "تفضل إشرب شاي" هي حبل النجاة لقضاء الوقت حتى تشرف المدام من فطورها الصباحي.
أبو نشوان، هو حارس العمارة، من سنوات طويلة، وهو كمان المسؤول عن تحصيل الإيجار من المستأجرين، وكمان بقدم خدماته لجميع سكان العمارة من حيث تسديد فواتير الماء والكهرباء والتفلون، إحضار حاجيات تطلبها ربات البيوت من السوبرماركت، استقبال أولاد الروضات على مدخل العمارة وإرسالهم بالمصعد إلى أبواب بيوتهم، وخدمات أخرى كثيرة.
مرة من المرات حسبت أنا وجاري يونس دخل أبو نشوان لقاء خدماته المتعددة، فوجدنا دخله يفوق دخل أستاذ مدرسة في مثل عمره، أو دخل موظف في الداخلية برتبة مدير.
أبو نشوان ومن طريقة حكيه بتفهم إنه خليلي، ومن معاملته بتفهم إنه إبن عيلة وناس، بس كمان أنا من سكان العمارة اللي ما بعرف من اسمه غير أبو نشوان، وما بعرف لا اسم عيلته ولا اسمه الشخصي.
وكمان ما بلزم أني أعرف هيك إشياء، لأنه الزلمة في منتهى الطيبة والأمانة، خدوم وقلبه على العمارة وسكانها، الصغير قبل الكبير والمرة قبل الزلمة، علشان هيك الجميع بحبه ومش مقصر فيه من ناحية المصاري، وكمان من ناحية أشياء أخرى، يعني تقريباً كل يوم واحد ببعتله من اللي طابخة، وهيك هو عامل حسابه وعايش.
ما حدا بعرف عن حياته الشخصية شيء، متجوز، عنده أولاد أو على الأقل أنا ما بعرف؛ وكمان ولا مرة كان عندي فضول إنّي أعرف تفاصيل شخصية عن حياة حارس العمارة.
بس كمان ما بتذكر أنه غادر العمارة في زيارة لعائلته في الأعياد مثلاً، وكمان ما بذَّكر إني شفت مرته أو حدا من أولاده، هو ما كان يحكي وأنا عمري ما سألت.
-"السلام عليكم أبو نشوان"..
-"وعليكم السلام دكتور.. تفضل إشرب شاي".
ولأول مرة التفتت جهة ناحية مصدر الصوت، وكأنه "تفضل إشرب شاي" حبل نجاة لواحد غارق في الزمن مثل حالاتي.
اتجهت نحو مصدر الصوت؛ هو انتفض من مكانه وهش وبش
- أهلا وسهلاً، زارنا النبي، زارتنا البركة. ومن هذا الكلام.
- كيفك أبو نشوان، ومديت إيدي.
- يا ميت أهلا وسهلاً. كيفك دكتور.
- مستورة والحمد لله.
عسى ما شر، شفتك طالع قبل شوي، في شي لازمك، أجيبلك إشي.
-لا أبداً، تذكرت إني أعطيت المفتاح لعامر والمدام مش في الدار.
- بسيطة، أقعد عندي استناهم، رح أعملك أحلى كاسة شاي، ولاّ أجيب بارد؟
- بديش أغلبك.
- يا ميت اهلاً وسهلا.
وفعلاً غاب ورجع ومعه صينية مع أصغر إبريق شاي شفته بحياتي.
أنا كنت أول مره بدخل غرفة أبو نشوان حارس العمارة، كان فرشها بسيط، بس نظيف.
في شي لفت انتباهي أكثر من غيره، كان في خزانة صغيرة من ثلاثة رفوف مليانة كتب، وهيك صار عندي فضول أعرف هذا الزلمة صاحب الوجه البشوش مين هو وكيف عايش، وشو قصته إذا وراه قصة.
جاب كرسي ثاني وجلسنا مقابل بعض.
كرر عبارة 100 أهلا وسهلا أكثر من 100 مرة، وكان مبسوط كثير أنه الدكتور بشرب معه شاي في غرفته المتواضعة تحت الدرج.
حكينا عن أشياء سطحية ومبعثرة، عن الدرج والمصعد، عن بعض المستأجرين اللي بماطلوا في دفع مستحقات الإيجار وخدمات المصعد والكهرباء وتنظيف الدرج.
سألني عن الأولاد، وعن شغلة صارت بالليل على الشارع، وسألته عن حاتم إبن أبو عماد اللي اعتقلوه اليهود من يومين وهو جاي عن الجسر. وكلام سطحي، بس فجأه طلع براسي سؤال ما فكرت كثير قبل ما يطلع مني:
- إنتَ من وين أبو نشوان؟
تقريبا حصل تغير بزاوية 180 درجة في لغة جسده لمّا سمع السؤال، ولفّ جسمه بحركة غير إرادية وأعطاني مقطع جانبي لوجهه، وقال بلغة محايد جداً.
- من السموع بالخليل.
- يعني مواليد الخليل بس عايش هون؟
-لأ يا دكتور أنا صار لي هون في نابلس 22 سنة.
- ما بشوفك بتزور الخليل؟
كنت بدي أسأله عن أهله وأولاده بالأخص نشوان اللي بحمل اسمه، لكن ردة فعله وتوتره منعني عن مزيد من الأسئلة، كانت أجوبته تقريباً جاهزة وبدون مشاعر، وصار واضح أنه هذا موضوع مش من المواضيع غير المفضلة للحديث عنها، بالرغم من رغبته الدفينة في التنفيس لأي مخلوق لديه استعداد للسمع.
ردّ كمن تلقى عرضا مفاجئاً
ما في حدا أسافر أشوفه.
لمّا دار وجهه، كأنه صار شخص مصنوع من الحيرة والألم. إيديه بطّل عارف يعمل فيهم إشي وكأنهم أشياء زائدة عن حاجته. صوته تهدّج وصار في بحّه مذابة مع مخارج الحروف. عيونه كانت تتراقص في محاجرها وبطل عارف يجلس على الكرسي براحته.
قلت:
- أبو نشوان، شكلك ما بتحب تحكي في هذا الموضوع.
هز رأسه مرات عدة، ورفع عيونه باتجاه سقف الغرفة.
وهيك شفت لأول مرة خط داكن أسفل ذقنه يصل ما بين أسفل فكيه وكأنه أثر قديم لمحاولة ذبح تعرض لها.
وصرت أشوف وجه شخص آخر أكثر رقة وأقل قوة عن ما كان، لأنه أبو نشوان صحيح يمكن في الخمسين أقل أو أكثر بس ما كان باين عليه تعب العمر، يبدو أنه مش تعبان في حياته، مثل واحد عزابي مضى العمر بعيد من مشاكل النسوان والأولاد، وكدح الدنيا وكدرها.
- الموضوع يا دكتور أنه هاي القلوب مثل البيوت، مسكرة على أصحابها، ووحده ربنا اللي عارف شو مخبى فيها.
- صحيح.
رديت وتركته يسترسل.
-أنا صار لي هون في نابلس 22 سنة، أبو صالح الطموني شغلني عنده وأعطاني سكن وعمره ما قَصر معي.
- إنتَ متجوّز؟
- كنت. كنت متجوّز.
- وين مرتك. عندك أولاد؟؟
تناول صينية الشاي والكاسات ودخل الغرفة، ومن مكان عميق داخل الغرفة سمعته بقول:
- النسوان سبب كل مصائب الدنيا.
عاد ومعه صحن بزر وكَمّل كلامه
- والنسوان سبب السعادة في الحياة.
بلشّت الدهشة تصيبني، قلت:
- كيف يعني؟
هون تغيرت للمرة الثانية لغة جسده وصار أكثر قوة وثقة، قال:
- بدّك ما تزعل مني يا دكتور، لو مرتك بعد سنة ولا عشرة تخونك، بدّك ما تزعل منّي، شو بصير رأيك في النسوان والدنيا.
طبعا أنا انتفضت من المثل اللي ضربه، وصرت مثل واحد أكل حجر برأسه دون ما يكون متوقعة. بس كمان أدركت أني طرقت الباب ولازم أتحمل سماع الجواب، أنا اللي سألت وهو اللي جاوب، وكمان لازم أتحمل لغته ومشاعره، ما رديت وهو ما كان ينتظر ردي.
كرر كلامه:
-أرجوك ما تزعل منّي، صحيح أنا هذا الموضوع ما بحب أحكي فيه، بس أنت سألت وأنا جاوبتك لأني بعزك وقيمتك كبيرة، بس كمان بدّي الموضوع يوصلك صح.
-أكيد الجميع بكره الخيانة، وبكره أصحابها.
قاطعني
-الكره كلمة صغيرة لمّا تكون الخيانة من أقرب الناس إلك.
هزّيت راسي وقلت صحيح مرتين.
مثل كل خلق الله اتجوزت بنت عمّي، في الخليل إحنا عاداتنا شوي بتختلف عن أهل نابلس، وحتى في الخليل نفسها عادات بعض القرى والعائلات بتختلف عن العائلات والقرى الثانية. وكمان مثل ما الجميع بعرف إحنا في الخليل دمّنا حامي، وبنعجبك؛ في الحق زلام، بنكره الظلم والخيانة.
طال سيجارة وقدملي إياها أنا كنت بدخن في المناسبات ولمّا بكون منفعل وهو طريقته في الكلام ومقدمته أعطاني إحساس أني مقدم على دراما كبيرة، ولع سيجارته وولعت سيجارتي وصرنا ندخن.
كان وقتها لمّا تجوّزت عمري 27 سنة، والبنت كانت بنت عمّي، مثل كل شباب الخليل ونابلس وعمان والقاهرة والكويت والجزائر، مبسوط في البنت اللي صارت حلالي، طاير من الفرح، لما تصير عندك وحدة تحس إنها ملكك، مش عبدة لا سمح الله، بس تحس إنه صار في روح ثانية تقاسمك أخص خصوصيتك، تتقاسم انت وياها الأكله والشربة والنومة، وكمان النسوان كلهن حلوات وربنا في عالي سماه وضع محبتهم في قلوب الرجال.
بس كمان وضع بين أيديهن تعاسة الحياة سَلمّهم مفاتيح مملكة النكد، والغيرة، والدهاء وحتى جهنم.
أن ما كملت تعليم، تركت المدرسة بكير، اشتغلت مع أبوي في الورشة، كنت عايش وراضي مثل كل الناس، لكن بعد اللي صار معي اكتشفت أني حمار بعيد عنك، عشت أول سنتين وحيد، أفكر في اللي صار معي ما طلعت بنتيجة، والوحدة والزعل أكلوا روحي من جوا، الصدفة قادتني عند أبو صالح الطموني، وهو ربنا حنن قلبه علي، وشغلني معه أكثر من شغلة من ضمنها حارس هذه العمارة، العيشة في نابلس نَستني الوجع اليومي، لكن لا نابلس ولا حتى باريس ممكن تنسيني الغدر والخيانة.
ما عاد أبو نشوان شايفني، وصار كأنه في جلسة تنويم مغناطيسي عند أحد الأطباء النفسيين في السبعينيات.
كنت أستمع دون مقاطعة، وصار الموضوع أكثر من مجرد جواب لسؤال، صار فرصة للتحرر من تراكمات نفسية عمرها سنوات.
كمَّل كلامه.
"الأيام كثيرة، والعمر مش راضي يخلص، والوحدة أصعب من الموت، أو هي شقة التوم للموت، الموضع بلش لما ناداني شاب كان ساكن هون في الشقة المسكرة مقابل شقة عدنان أبو نادر، كان هذا الشاب غريب الأطوار، ناداني مرة وعزمني أشرب معه قهوة، اعتذرت لكنه ألح كثير، طلعت عنده على الشقة، كانت مزبلة حقيقية، اقترحت عليه أنظفها، رفض وقعد يحكي أشياء ما فهمت أكثرها، كان واضح أنه ناقم على الدنيا، وأنا من جهتي ناقم على الحياة أكثر منه، كان نفسي وقتها أحكيله قصتي، لكن هو ما ناداني عشان يسمعني، كان بده حدا يسمعه من وقتها صارت علاقتي فيه قوية، وكل فترة والثانية أعزمه نشرب شاي أو يعزمني عنده ونقعد نحكي أشياء ما كنت أفهمها لكن كنت أحب الحكي عنها، المهم، مرة من المرات قلي أنت ليش عايش، انصدمت يومها، وما عرفت أرد عليه، قال لي بتعرف تقرأ، قلت له نعم، قال لي الحل لكل متاعبك هو هذا وحمل كتاب في إيده وناولني إياه، ومن وقتها وأنا بقرأ.
وقالي بالحرف، إذا ما بدك تقرأ روح انتحر أحسن إلك، أيامها ما أخذت على كلامه، شوي شوي صرت أقرأ، ووجدت أنه القراءة هي الطريقة الوحيدة لواحد مثلي يعيش وينسى وجع مرور الأيام.
هذا الشاب عرفت بعدها أنه مات الله يرحمه، ومش ممكن أنسى اسمه ولا حركاته ولا حيرته ولا ضحكته.
المهم، قصتي مش من هون بلشت، قصتي بلشت لمّا أخوي الأصغر مني رجع على الخليل بعد تخرجه من العراق، وقتها صارت طوشه للسما لأنه عرفنا منّه أنّه متجوز واحدة عراقية وعنده منها ولد، أبوي ركب رأسه وطلب منه يطلقها، مش هون المشكلة. أبوي قبل ما يسافر على العراق وضع شرط عليه، أنه يخطب بنت عمي زينب، وهو عمل هيك حتى إبنه ما يتورط بالزواج من واحدة من برا الخليل، عادل وافق وصار عادل وزينب مخطوبين لبعض، أيامها كانت زينب بعدها في المدرسة وعادل طلع يدرس جامعة، لَمّا عمي عرف بموضوع الزواج من العراقية قامت القيامة وركب رأسه الثاني، وانت بتحكي أنت في الخليل مش في نابلس أو عمّان، كبر الموضوع بينهم، أبوي يقول لأخوه اللي هو عمّي طوّل بالك يا زلمة، بكرة بطلق العراقية وبنجوز الأولاد، وعمّي رشيد كل ما يصير بينهم حكي تولع معه ويسب ويهدد وكنا خايفين الأمور توصل أكثر من هيك.
أخوي عادل سافر على الأردن علشان يطلق العراقية مرته بس ما عدنا عرفنا عنه خبر، ومرّ شهر وشهرين وثلاثة، أبوي طلع على عمّان يدّور عليه، سأل شوية معارف إله بعمّان ما طلع بنتيجه.
لمّا رجع كان صار وجهه مثل حبة السمسم، ومش عارف يواجه أخوه اللي هو عّمي رشيد.
ثاني يوم قام يصلى الصبح وصحّاني أصلي معه الصبح حاضر في المسجد، وأنا كنت ما بصلي من أصله، بس أنا طاوعته وما حكيت ولا كلمة، لأني كنت أخاف منّه وأحسب لكلامه وزعله ألف حساب، وكمان لمّا كبر صرت أخاف على شيبته وصحته، رحنا صلينا الصبح مشي، وفي طريق العودة للبيت، قال لي:
- يابا يا حبيبي أنا في ورطه.
كانت أول مرة في حياتي بسمعها منه "يابا يا حبيبي" ورغم نشوتي من كلامه قلت له:
- بفديك بروحي، شو صاير خير إن شاء الله.
-إنتَ بتعرف اللّي عمله الغضيب أخوك.
- ما تغضب عليه أرجوك، قلتلّه.
- مش مهم هذا، المهم أنّي في ورطة كبيرة وخايف العيلة كلها تدفع ثمن غالي على شغلة فاضية.
- كيف يعني؟
- عمك رشيد الموضوع بالنسبة إله صار موضوع شرف وكرامة، وأنا مش عارف شو أقوله ولاّ أشوفه وجه لوجه. والحل في إيدك إنتَّ
- أنا ؟؟
انفعلت من كلامه وبدون تفكير قلت له:
- إنتَ أأمر وأنا بنفذ.
أطلّع في عيوني مباشرة وكان النهار بلّش يطلع وقرص الشمس في الأفق بلمع نوره بدون حرارة، وقال:
- ما في حل غير تتجوز أنت بنت عمك زينب.
- بس؛
وصدقني ما حكيت غير هالحرفين لأنه حط يده على فمي وقال.
- بترجاك يابا، عمك رشيد هذا نص عقل بكره بفضحنا وبفضح حاله والأخطر من هيك ممكن يعمل مصيبة في حدا من العيلة وممكن تكون أنت أو أخوك هلال ضحية جنونه.
بنفس هذا الوقت وبعد أسبوع بالضبط كنت أنا وزينب مسكرين على حالنا غرفة النوم ونايمين.
بنت عمّي زينب كانت على قدر من الجمال، وفوق هيك متعلمة وخريجة جامعة الخليل أدب إنجليزي، وشخصيتها قوية طالعة لأمها، طبعاً هي وافقت على الزواج مني بعد تهديد أبوها اللي هو عمي، ومنعا للفضيحة والمصائب اللي كانت على وشك الحدوث، وافقت زينب.
طول الوقت كانت علاقتنا عادية، يعني بدون عواطف، وكمان كل اللي صار وأخوي عادل والظروف اللي تزوجنا فيها وكلام الناس والقيل والقال كانت حاضرة معنا في شقتنا، ما كنا نحكي كثير، وأنا ما كان عندي حكي كثير أقوله، طلبات وأوامر، وكمان كان باين عليها أنها غير سعيدة، كنت أحكي لأبوي، وهو كان يرد الأيام كفيلة بتغيير كل إشي يابا.
بعد سبع شهور من زواجنا وعشرة من غيبته رجع أخوي عادل. وصار يتصرف مثل المجنون لمّل عرف إني تجوزت زينب.
أبوي بزق عليه وطرده من الدار، وصارت الدار مثل جهنم. نكد وحقد وشك، حاولت أني أتصرف كأنه الأمور عادية، وأنه اللي حصل ممكن يحصل في أي عائلة في الخليل أو غيرها.
طبعا أبو نشوان صار يحكي وكأنه بحكي مع حاله بطّل شايفني ولا حاسس أنه في حدا قدامه بسمع قصته مع بنت عمه وأخوه.
وكمّل.
الموضوع ما وقف هون، كانت زينب حامل وفي شهرها الخامس، وكانت الأبوة صارت مخلوطة مع دمي، وبطلت شايف الدنيا مثل ما اتعودت عليها في أيام عمري السابقة، لكن رجعة عادل غيّرت كل إشي، زينب صارت تتحفظ على كل إشي، وعادل صار يحسسني أني أخذت زينب منه.
وأنا صرت أحس أنه الخليل والوطن العربي مش ممكن يوسعنا إحنا الاثنين أنا وأخوي عادل، أبوي كعادته عصّب عليه وطرده من الدار وبهيك نفس غضبه لكن رجع صالحه، على أمل أن الأمور حصلت، والجيزة قسمة ونصيب، وحتى سأله عن مرته العراقية وأولاده، وتبين أن ما في أولاد ولا ما يحزنون، وأنه مرته العراقية طلبت الطلاق لأنها ناوية تهاجر على كندا، وأنها كانت مرحلة وعدت، وهو هون حس بالخازوق، طارت زينب منه، وما عاد عارف رأسه من إجريه، طبعا واحد ثاني كل بنات البلد تحت أمره، وأبوي قله إحنا عيلة كبيرة ومحترمة وقادرة وكل بنات الضفة وغزة بتمنوا نسبنا، قول شو بدك ورقبتي سدادة.
اللي صار أعجب من العجب، عادل ربّى لحيته وحط الحزن بين عينيه وصارت الدنيا في نظره أضيق من خرم الإبرة، كنت ساكن في شقتي فوق دار أبوي بالضبط، قلت لأبوي خليني أطلع من المنطقة كلها، ما رد علي وكان كل يوم يمر؛ الأمور تزداد سوء، وصار قلبي مليان شك وغيره وقلة ثقة.
زينب حاولت قدر استطاعتها تتجنب عادل، لكنها كانت تسمع أخباره، والحالة اللي وصل إليها، صرنا نتجنب الاختلاط في دار أبوي حتى زينب ما تشوف عادل ولا عادل يتلاقى في زينب، وصار مطلوب نعيش في عزلة عن العالم، لكن الشك صار يكبر جوا قلبي وبطلت عارف أركز في الشغل مع أبوي وكنت كل يوم أقرأ في عيونها عدم الرضى. وهذا شعور مقيت وثقيل على واحد مثلي.
الشيء الوحيد اللي كنت أراهن عليه ومصبرني هو نشوان، ابني اللي في بطن زينب يكبر كل يوم عن يوم.
قلت لحالي الأيام بتداوي الجروح، صحيح اللي عملناه يمكن يكون غلط، لكن هذا اللي كان ممكن يصير وغير هيك ممكن تصير مصيبة أكبر على إشي فاضي.
طبعا من وقت ما رجع عادل زينب ما نزلت عند أمي والجميع كان عارف السبب وساكت، وعادل كانت صارت حالته أسوأ من الأول وما حدا عارف يعمله شي، وبنفس الوقت ما حدا كان قادر يحكي معه أو يصارحه أو يقوله اللي بتعمله مش صحيح وعيب، لأنه ما كان يطلب إشي وما كان حدا عارف شو السبب الحقيقي لحزنه وكآبته، لكن الجميع كان ساكت على غش مثل ما بقولوا.
أمي يوم الاثنين المشؤوم تعبت فجأة اتصلت زينب وخبرتني وكان عادل وزينب نقلوها للمستشفى، كان عندها شريان مسكر، هناك طبعا التقوا لأول مرة وجها لوجه، لما وصلت كانوا واقفين مع بعض في الكردور شفتهم وكنت بدي أعرف الحوار اللي بينهم، هو كان يلوم فيها كيف تقبل تتجوز وضاح اللي هو أنا، وأني ما بستاهل ظفرها، وهي كانت ساكتة وما حكت ولا كلمة، وكلام كثير سمعت نصه والنص الثاني خمنته، خلاصته أنها لازم تدفع ثمن زواجها مني؛ وأنه بحبها ورح يظل يحبها لآخر يوم في عمره، كلامه بالنسبة إلى كان عادي ومتوقع المشكلة في ردها وبكائها وأنها مش رح تسامح أبوها ولا عمها ولا جوزها، كنت بظن أنه الحياة رح تستمر بكل تفاهتها، وزينب المتعلمة يمكن ينفعها علامها .
روحنا على البيت وما صار بينا حكي، قلتها بالحرف، ما بدي تروحي على المستشفى، أنت في شهرك وخلي الأمور تمشي على خير، هي ما علقت، وراحت نامت بعد ما حطت العشا.
في اليوم التالي وقبل أذان الظهر بنص ساعة مريت على المستشفى أشوف أمي، لقيتها قاعدة مع عادل في الكفتيريا، وقفت فوق رأسها ورأسه وقلت بالحرف:
- شو هالرومانسية،
انتفض عادل وصار بدّه يرفع صوته.
انسحبت زينب من الكفتيريا، وصارت عارفة تماما أن الأمور خرجت عن السيطرة.
أنا هددت عادل والناس التمت علينا، وأقسمت بالله إلا أقتله، وهو طلع منه كلام وسخ مثل مخه.
في الليل تناقرت أنا وزينب، وارتفع صوتنا ووصل الجيران، طلع من فمي كلام بعرف أنه ناقص، بس هي كمان ما وفرت وحكت كلام ممنوع الزوج يسمعه من ثم مرته، حاولت أضبط نفسي بس ما قدرت، ما خلّت كلمة عاطلة ما حكتها، تهجمت عليها وضربتها، وهي صارت تصيح بصوت عالي، حاولت أسكر تمها بإيدي عضت إيدي أنا كمان الغيلان السود كلها صارت تنطط في راسي، ضربتها وحاولت أكتفها، قاومتني كأنها شاب بتعارك معه، وهيك بدل ما تستسلم كانت تقاوم لحد ما ثبتها وما خليت مكان ما رفستها فيه، أبوي والجيران التمو على الباب يصيحوا علي بس أنا وقتها انجن جنوني وبطلت في وعيي، وما قمت عنها إلا بعد ما فشيت غلّي فيها وفي أبوي وعمي والسموع والخليل وفلسطين والدنيا كلها.
لما فتحت الباب وشاف أبوي المنظر، ضربي كف وما خلى مسبة ما حكاها في وجهي، عمي رشيد عرف باللي صار، وصار يهدد، لكن بنته ما حكت له كل إشي لأنها أكثر وحدة كانت تعرف أنها السبب في اللي صار، ورفضت ترجع على بيتها، عمي صار في الطالعة والنازلة يهدد أبوي، وأبوي كان يطلب منه شوية صبر "بكرا بيهدى سرهم"، زينب سقطت حملها، قالوا إنها زحلقت، وأنا ما صدقتهم، أمي بعد العملية بأسبوع أعطتك عمرها.
عادل اختفى تماما وما عاد حدا سمع عنه خبر.
أنا طلقت زينب ورحلت عن الخليل واستقر فيه الحال في نابلس.
ابوي تزوج مرة ثانية وأنجب من زوجته الجديدة بنت وولد.
زينب بقيت على حالها بلا زواج تخدم أمها وأبوها.
عندما انتهى من أقواله تنهد تنهيدة طويلة، وارتخت أكتافه، كأنه كان يحمل على أكتافه شوال ضعف وزنه ونزله عن ظهره فجأة.
اطلع في وجهي مباشرة هاي المرة، وقال
"هاي قصتي يا دكتور من طقطق للسلام عليكم".
أنا شخصياً ما كان عندي أي كلام أرد عليه، وهو ما كان بدّه يسمع إشي، وفجأه حسيت أني لازم أغادر، كأنه الهوا في المكان ما عاد يكفي إلنا الإثنين، اطلّعت على الساعة، كانت تجاوزت الثانية بعد الظهر. كنت متأكد أن المدام صارت في الدار، بس كمان صرت متأكد أني مش رح أقدر أتعامل مع أبو نشوان مثل ما كنت أتعامل معه من قبل، يمكن طبقة جديدة تشكلت بيني وبينه؛ طبقة مركبة من التعاطف والحزن والخيبة.
وصار هو متحفظ معي كثير، بعد ما انكشف كثير من تفاصيل حياته. بس كمان صار يطمئن إلي أكثر رغم أنه الحكي بينا تراجع لحدوده الدنيا.