الظلام دامس؛ يملأ الفراغ، حتى تفاصيل المكان.
"إذا جاءك الملكان الموكلان بك وبأمثالك من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فلا يزعجاك ولا يرعباك، واعلم أنهما خلق من خلق الله تعالى، كما أنك أنت من خلقه، فإذا أتياك وأجلساك وقالا لك:
من ربك؟
وما دينك؟
ومن نبيك؟
وما اعتقادك؟
وما الذي متَّ عليه؟ "
أعرف صاحب الصوت، أعرفه جيداً.
"فقل لهما: الله ربي، فإذا سألاك الثانية: فقل لهما الله ربي، فإذا سألاك الثالثة وهي خاتمة الحسنى، فقل لهما بلسان طلق بلا خوف ولا فزع: الله ربي، والإسلام ديني، ومحمد نبيي، والقرآن الكريم إمامي، والكعبة قبلتي، والصلوات فريضتي، والمسلمون إخواني، وإبراهيم الخليل أبي، وأنا عشت ومت على قول لا إله إلا الله محمد رسول الله.
فإذا قيل لك: ما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم وفي الخلق أجمعين؟ فقل: هو محمد صلى الله عليه وسلم، جاءنا بالبينات من ربه، فاتبعناه وآمنا به وصدقنا برسالته، فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم. واعلم يا عبد الله أن الموت حق، وأن نزول القبر حق، وأن سؤال منكر ونكير حق، وأن البعث حق، وأن الحساب حق، وأن الميزان حق، وأن الصراط حق، وأن النار حق، وأن الجنة حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. ونستودعك الله. اللهم يا أنيس كل وحيد، ويا حاضراً ليس يغيب، آنس وحدتنا ووحدته، وارحم غربتنا وغربته، ولقنه حجته، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله يا رب العالمين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين".
أعرف صاحب الصوت، وأذكر قسمات وجهه، وقامته المستديرة، أبو معروف شيخ الجامع، هو من اعتاد ترديد هذه الكلمات على رأس الأموات.
أسمع قرع نعالهم، ليسو كُثرا، هذا يعني أنني لم أحظ بجنازة كبيرة تليق بالشهادة التي نلتها.
“"إذا مات ابن آدم تبعه ثلاث: أهله، وماله، وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله، ويبقى عمله..".
هذا صحيح، فأنا هنا أرقد وحدي دون أهل أو مال، ومتى كان لدي مال كي يرافقني، حتى أهلي عشت في غربة عنهم رغم وجودي إلى جوارهم، لكن الظلام الدامس يملأ الفراغ القليل الذي ترك بين ساقوف القبر وبين جسدي النحيل، دامس إلى درجة مفزعة، لم أحاول النهوض، كي لا يرتطم رأسي بساقوف القبر، فكرت بتحسس جيوبي كي أخرج الولاعة كي أضيئ المكان، وتذكرت أن نبيل طلبها مني كي يشعل سيجارته ولم يعيدها.
أما هاتف الآيفون الذي لم أنته من تسديد أقساطه فقد أخذته سُرى كي تلهو به قبل أن ترتطم القذيفة بسقف المنزل ولا أعرف ماذا حلّ به.
كنت أنوي إضاءة المكان قليلاً كي أتحقق من شيء أودعته في جيبي، فأنا ما أزال أرتدي ملابسي العادية وهذا ليس كفناً؛ فالشهداء لا يكفّنون، ويدفنون كما هم. لكنني أنتظر وصول الملكين اللذين سيجلساني ويسألاني من ربك؟ وما دينك؟ وماذا تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟
لا تزال كلمات أبو معروف تتردد في أذناي، وأحفظها تماماً بصوته ولكنته وتعابير وجهه.
أنا أيضاً لدي أسئلة أود توجيهها لهما؟
هل هذا كل ما هنالك؛ فقط من ربك، وما دينك، وماذا تقول في الرجل الذي بعث فيكم!
كأن يسألاني لماذا أنت هنا، ما سبب الوفاة، وهل هي طبيعية نتيجة مرض ما أم أنها بسبب الحرب، أو بسبب أزمة مالية أو عاطفية.
بالأمس فقط سألني سالم عن القدر، فلو لم تكن هذه الحرب قد اندلعت، هل كان لهذا العدد من مواطني غزة أن يلاقوا حتفهم، أو حتى أن يصابوا بالذعر والخوف والألم المترتب على هذه الحرب؟ وهل يمكن أن يكون القدر قد رسم لعائلة "أبو جامع" مثلاً أن تفنى بكاملها؟.
الطبيعي أن يموت الجّد أو الجدة أو الأب المريض، أن يتعرض الأخ الأكبر أو الأوسط لحادث سير أو إصابة عمل تودي بحياته، أمّا أن يكون القدر قد كتب لهذه العائلة أن تباد بكاملها حتى لو لم تقم الحرب فهذا ما لا يمكن فهمه، طبعاً سالم أصّر على رأيه بأن موت هؤلاء جميعاً كان سيقع سواءً بالحرب أو بالسلم، وأنا حاولت أن أشرح له أن هؤلاء جميعاً ما كان لهم أن يشاكوا بشوكة لو لم تقم هذه الحرب أو التي سبقتها، حاولت أن أقول له إن قدر الموت من شأن الله كما هو قدر الحياة، لم يفهم ولم يصدق فاشتد النقاش واحتد فيما بيننا، واتهمني كعادته بأن ديني سكر خفيف.
ساعتي ما تزال في يدي، أحس بثقلها، أريد أن أقربها من عينّي لأعرف الوقت، لكن يداي كأنهما موثوقتان ببعضهما، وعليّ أن أنتظر وصول الملكان كي يفك أحدهما وثاقي، فساقوف القبر يمنعني من الجلوس كي أفك الرباط بأسناني.
لكن حتى لو كان القبر أوسع من ذلك، فأسناني تحطمت جميعها بعد ارتطام وجهي بحافة الدرج، وشاهدت بوسع عيناي سقوط بسطة الدور الثاني باتجاه صدري.
في المستشفى ليس لديهم الوقت لتحديد سبب الوفاة، فالضحايا بالعشرات والموت يصبح منحة لمن تصيبه رصاصة أو قذيفة أو يهدم بيته فوق رأسه حتى يتخلص من الأوجاع، وقلة العلاج، أو في وانتظار جراحه أو رضوضه حتى تشفى.
يأتي صوت زيدان عليوي من بعيد يُكرر مقولته القديمة عن الموت، "الجميع سيتألم لموتك سواك"، لكنني ميّت وأتألم، أحاول أن أتذكر إحساس الألم بأكثر من جزء من جسدي، فلا أجد سوى فراغ فمي من الأسنان، وثقل يداي الموثوقتان إلى بعضهما البعض، وأشبه بالصداع الثقيل يطمس بصري عن رؤية سوى العدم والظلمة.
كنت أنتظر مثلاً أن أحس بالنار تشتعل في فمي، على ما اقترفته من مغيبة؛ أن تأكل الحمم النارية يداي وقدماي، خاصرتي وعيناي، لساني، لساني ما زال على حاله، أخرجه بسهولة، وأبتلع ريقي مع بقايا أثر حلاوة الدم الذي سال مع تهشم أسناني، قدماي متخشبتان فيهما تنميل كأنه خدر قلة الحركة.
لماذا لا يأتيان ويسألاني الثلاثة أسئلة الأساسية التي أذكرها من طول تكرارها على رؤوس الموتى لحظة دفنهم، فأنا ما زلت أذكرها وأذكر إجاباتها، وسأجيب بطلاقة، فأنا أحفظها عن ظهر قلب.
ما يشغل بالي ثلاثة أشياء، الأول متى سيأتي الملكان وكيف سأتصرف معهما، هل سأتلعثم من هول الموقف من منظرهما وضخامة جثتيهما، أم سينطق لساني وأقول ما لقنني به أبو معروف. تلعثمي في المواقف سبب لي الكثير من الحرج وفرض عليّ عزلة اختيارية لأسباب متعلقة بتربيتي أنا وباقي أخوتي، خوفنا وارتباكنا الذي كان يسببه والدي، الذي كان يستشيط غضباً لأقل استثارة وفيما بعد أخي الأكبر، أنا لست بحاجة لتلقين أو معروف، فأنا أعرف ما سأقول وكيف أجيب دون الحاجة لكلماته وتلقينه.
الأمر الآخر هو، هل ستتم محاسبتي على كل شيء فعلته في الثلاثين سنة التي مضت أو كادت من حياتي. هل سأحاسب على أقوالي وأفعالي وخطرات قلبي، على نزوات الطفولة والمراهقة، أحاول أن أتذكر أخطائي فأجدها صغيرة، بريئة أحياناً، وأحياناً أخرى أجدها لا تُغتفر.
أما الأمر الثالث فهو إحساس غامر بالخسران، الخسران لفقد الوظيفة؛ والبيت؛ والسيارة، وقبل ذلك زوجتي وابنتيّ ووالدتي ووالدي إخوتي ومعارفي وحتى الجيران.
ما يحيرني أني سأبقى في هذا المكان المظلم حتى قيام الساعة، وحتى بعد أن غادرت الدنيا لا يأتي أحد ليقول لي مثلاُ متى ستقوم الساعة، حتى الملكان الموكلان بسؤالي لم يأتيا حتى اللحظة، والانتظار يتلف أعصابي.
أما الألم فبدأ يتحول إلى شيء مألوف يمكن التعايش معه، فقلة الحركة أفضل مسكن للألم الكبير.
وكلما تراكمت هذه الأفكار؛ ازداد شوقي لقدوم الملكين، كي أوجه لهما الأسئلة الخاصة بي دون حرج، فليس بعد الموت ذنب، حتى تلك الأسئلة التي تهرّب البروفيسور علي زيداني من الإجابة عنها في الجامعة، سأطرحها عليهما، ما أنا بحاجته الآن شريط مهدئ من أي فئة حتى يخفف من ثقل رأسي، فثقل العتمة المستحكمة، وبعد الساعة عن ناظري يحيلان مرور الوقت إلى عدم لا سبيل لفهمه أو التعامل معه.
وهما لا يأتيان ليزيلا يقين الموت بعد أن اطمأنت نفسي لعبث الحياة.
أستاذ الفلسفة علي زيداني مصري من رفح المصرية، استقر للعيش في رفح الفلسطينية، كان يردد أن حيرة البشرية يمكن أن يبددها عودة أحد الأموت، ليقول لنا ولو لمرة واحدة صادقة ماذا وجد هناك، عندها فقط ستتبدد حيرة البشرية، فربما يصدقون فعلاً أن هناك حياة أخرى تلي الموتة الأولى، ببساطة كما كان يقول لأن أفعال البشر تدل أنهم لا يصدقون أن هناك حسابا وعقابا، حتى لو صلّوا وصاموا. ممسكين بحبل ممتد من السماء نسجته خيالاتهم أن الله غفور رحيم. الله حقاً غفور رحيم. وأن مغفرته ستطال الجميع، إذن أين الاختبار في مثل هذا الفهم وأين التكليف، على كل حال هذا لن ينفعني في شيء، فقط انطوت صفحتي ولن يفيدني لا فهمي ولا جهلي.
هناك أصوات قادمة أسمعها تماماً لكنها أصوات أرجل كثيرة لا أظنها للملكين اللذين سيسألاني.
تتبادر لذهني خواطر عجيبة لماذا ملكان وليس واحدا مثلاً، وهل هما عين الملكين اللذين سيسألان جميع من مات بالأمس ومن مات اليوم ومن سيموت في الغد، إذن سأنتظر طويلاً حتى يحين دوري، وهل هما نفس الملكين اللذين سيسألان من سيموت من اليهود أو الهندوس. مرور الوقت يزيد من عبث الأسئلة التي لا طائل من الإجابة عنها، فالأصوات التي تقترب ربما لساكن جديد.
زينب حامل في شهرها السابع، والطبيب أخبرنا أنها حامل بذكر، شهد وسرى كانتا تلهوان في الصالة. عندما بدأ الصراخ انتشلتهما وهبطت بهما مع زينب الدرج، عندما سقطت بسطة الطابق العلوي وارتطم وجهي بجانب الدرج كنت ما أزال أسمع بكاءهما، وصراخ زينب، كنت أفكر لحظتها بالذكر الذي حدد الطبيب موعد ولادته قبل العيد الكبير بقليل.
الجسد عندما يغمره الألم؛ يفقد إحساسه حتى بأقرب الناس من حوله، آخر شيء سمعته وأنا أستمع لأنفاسي هو اسمي، "عماد.. عماد.. وين أنت" من فم زوجتي التي لم استطع أن افعل لها شيئاً.
هل زينب هي الأخرى احترقت في أتون الحرب وهي من الشهداء التي لا تفتأ وكالات الصحافة تحصي عددهم، أم هي حيّة ترقد في المستشفى الأوروبي القريب من بيتنا. سرى وشهد، ماذا حلّ بجسديهما الطريان، هل مارس الإسمنت رعونته على أصابعهما الرقيقة.
الذَّكر الذي تحمله زينب في أحشائها تمنيته بكل عمري، شهد كانت أولى فرحتي وودت لو أنها ولد ذكر، لكن حماتي همست في أذني "اللي بتجيب البنت؛ بتجيب الولد" رضيت بكلامها، لكن مجيء سًرى أدخل الرعب إلى قلبي، أنني سأصبح أبو البنات، تماما كشقيقي عارف الذي أنجبت له زوجته ستة بنات وهو ينتظر الذكر الذي لم يأت، فاستسلم لنصيبه ورضي بـ "أبو البنات" على غصة تأكل قلبه.
الذكر الذي بشرني به الطبيب الذي تراجعه زينب ردّ لي روحي، تُرى ماذا حلّ به، فالعيد الكبير على الأبواب فبعد انقضاء رمضان هذا سيتلوه سبعون يوماً ويأتي إلى النور.
كنت أود أن أراه للحظة واحدة وأعود مرة أخرى إلى هذا الصندوق الأسود الذي بات مستقري الأبدي، أراه لمرة واحدة فقط، وهو سيواصل العيش فيما بعد وسيحمل اسمي هو ونسله. بل إنني مستعد للتنازل عن تلك اللحظة التي أتوق إليها بمباهج الحياة التي لا تحصى مقابل أن أسمع صوت زينب تنادي شهد وسرى، أن أتأكد أنها ما تزال تتنشق هواء العيش، وبالضرورة يتنفس وليدها الحياة في أحشائها.. مسكينة زينب، مسكينة حتى النخاع.
صورة أبو البنات التي التصقت بأخي عادل وتعليقات أمي كانت تزيد من رعبي من أنني ربما سألقى نفس المصير لكن زينب كانت أكثر وثوقاً بالله مني، وأكثر حكمة، تحملت جزعي عندما قدمت يسري.
هل الشهداء يُسألون؟
على الأقل الأسئلة التقليدية الثلاثة.
راتبي مرهون للبنك للسنوات العشر القادمة.
كان أمامي خياران لا ثالث لهما، أن أطلِّق زينب أو آخذ قرض البنك بعد أن وصل الخلاف بين زوجتي وأمي وزوجة أخي الأصغر نضال إلى الحدود القصوى.
البرنده، الغسيل، مطلع الدرج، صراخ الأولاد، حتى الأعياد التي هي مناسبات للفرح وتأكيد المحبة، للمجاملات والتهاني استحالت إلى فرصة للمماحكة ورمي الكلام والتلميح الممجوج الذي يسيء للمودة ويحيل القلوب إلى مقابر للحب.
لكن البيت الذي عمّرته بأموال القرض؛ هدمته طائرات إسرائيل وبقي القرض ينتظر السداد. استحال إلى تراب لا يصلح للزراعة، وبقي القرض تنمو فوائده، ماذا سأقول لناكر ونكير عن القرض الآن، هل سيتفهمان أن زينب السبب؛ وأنني أنقذت ابنتاي الصغيرتان من أن تعيشا لأبوين مطلقين!
ذهب البيت وذهبت زينب والذكر الذي في أحشائها، وذهبت شهد وسرى إلى حيث لا أعرف، ولكن ألم يقولوا لنا إن الأموات يعرفون ما يجري للأحياء، لماذا لا تصلني أية أخبار عمن مات وعمن بقي من أسرتي وأهلي، ولماذا أحمل على كاهلي هموم الدنيا وقد غادرتها غير آسف عليها، وبلا عودة.
لماذا انقلبت أمي على زينب، وماذا ستفعل بها من بعدي؟
الظلام حالك، ولا أحد يؤنسني في هذه الظلمة، فقط أتذكر، ولكن لماذا لم تمت ذاكرتي أيضاً، لماذا بقيت الصور تلح على رأسي، ترى هل الفراعنة على حق أن عبور جسر الأبدية يتلوه حياة أخرى يتذكر فيها الأموات من بقي من معارفهم وأقربائهم؟
يبدو أن لغز الموت لديه الكثير ليتحفنا به.
لكن ما فائدة الذاكرة هنا؛ فالنسيان يصبح نعمة، ذاكرتك شاهد عليك، كي يذكرك الملكان بما اقترفت يمينك.
لكن لماذا انقلبت أمي على زينب؟
هي لا تحبها؟ ولا تحب أمها. وما شأني أنا بمحبتها أو كرهها، ما شأن زينب بذلك ولماذا يتوجب علينا دفع فاتورة حساب قديم لم نشارك في صناعته أو استهلاكه.
ماذا ستفعل زينب بعدي؟
فهي في أواخر العشرينيات، يعني أنها ستعيش أرملة لأربعين سنة أو لخمسين أخرى.
بعد انقضاء هذه الحرب وانتهاء مأتمي وعدتها، ستتزوج، ولماذا لا تتزوج، فهي ما تزال شابة. لا يمكن لزينب أن تتزوج مرة أخرى. هذا مستحيل؛ لكن ما شأني أنا إن تزوجت أو لم تتزوج، ومن سيقول لي إن تزوجت أو بقيت أرملة المرحوم. سأعرف عندما يأتي إلى عالم الأموات أحد معارفنا وأساله، هكذا قال لنا مدرس التربية الإسلامية الأستاذ أبو مؤيد ونحن في الابتدائية، لكنني حتى اللحظة لم أقابل أحداً من معارفنا، مثلاً جدي الحاج حسني، وجدتي أم محمود، عمي طالب الذي قتله اليهود في الحرب 2008، والعشرات من المعارف والجيران، أم أنني لم أنتقل لتلك المرحلة التي تمكنني من التحدث مع من سبقني من الأموات، أم أنها خرافات.
أنا أنبش أحزاني بأناملي، أزرع الشك في قلبي الميت، أبحث عن معاناتي بيدي هاتين، هناك أصوات كثيرة أسمعها من حولي، أصوات مختلطة لرجال ونسوة يصيحون، يصرخون، يتألمون، ينادون، أود لو أنادي أحدهم، لكن لساني لا يستطيع الحركة كأنه ملجوم بلجام الأبدية.
يا إلهي كم تصبح الدنيا بوسعها صغيرة قاتمة ثقيلة وسريعة العبور.
الظلام دامس ..
هل ستتزوج زينب؟
شهد وسُرى والطفل الذي في أحشائها، سيربيهم رجل غيري! سينادونه بابا. فالأب هو من يربي لا من ينجب، وزينب، هل سيعاشرها رجل غيري، كيف ستقبل ذلك، سيبدو ذلك مستهجناً وغريباً، ولكن لماذا غريباً؛ هل تريدها أن تحيا الثلاثين أو الأربعين سنة القادمة على ذكراك، أو تنفق السنوات التالية لها في الدنيا تبلل وسادتها الليلة شوقا وحسرة على رجل مضى إلى حتفه بفعل صاروخ أطلقته طائرة أو دبابة إسرائيلية في حرب مجنونة، فأصاب بيته؛ وصادف أن كنت أنت من ارتطمت بسطة الطابق العلوي بصدره فانتهى أجله، أم أنها أنانيتك التي لا تريد أن تتخلص منها حتى بعد أن غادرت الدنيا، لكن الغيرة تأكل قلبي، فكيف يعقل بعد هذا الحب والعشرة التي عشناها معا أن يعاشرها رجل آخر كائن من يكون، أن تقاسمه النوم والصحو والطعام، أن تحبه ويحبها، أن تنجب له البنين والبنات.
أما شهد وسرى، فذاكرتهما لن تحتفظ لي بالصور الحية، وسيعيدان تشكيل رأيهما عن الأب الذي طوته الحرب دون أن تفهما لماذا وكيف ذهب، إذ ستستبدلانه بآخر يحضر لهما الحلوى، وتذهبا معه في نزهة البحر. يقبلهما في المواسم ويحتضنهما عقب عودتهما من المدرسة.
ترى هل يبكي الأموات؟ لشدة ما أتوق إلى البكاء، فهو وحده الذي سيطفئ الجمر الذي يشتعل في قلبي، فلا أحد سيسمع بكاءك، إنك تبكي حرقتك، لوعة قلبك خساراتك الكثيرة.
كنت سأوافق على زواج زينب بأي رجل أمّا سُرى وشهد حشاشة قلبي، لا أريدهما أن تناديا صوتهما "بابا" لأحد سواي، لا أريد لأحد سواي أن يتفضل عليهما بالإحسان والمودة، حتى بكلمة بابا، ولكن أنتظر.. لماذا.. لماذا تريد أن تحرمهما من حنان يمكن أن يعوضهما عن فقدانهما برحيلك، لماذا تصر على أنانيتك هذه.
ترى لو كانت زينب هي من اختارها الموت كنت أنت ستقضي ما بقي لك من هواء الله دون أن تقترن بمن تشاركها العيش والفراش. تأكل الأفكار رأسي قبل أن يبدأ دود الأرض بالتهام جسدي.
الأفكار هذه تأكل رأسي، وتزيد من وجع الموت أوجاعاً أخرى لا طاقة لي على احتمالها.
أنا لا أحس بألم الموت، فالموت غير مؤلم، الحياة هي المؤلمة.
أنا لم أحاسب نفسي من قبل، أجّلت الحساب حتى تزوجت، وأجلته مرة أخرى حتى أنهي أقساط البيت، ولو بقيت من أهل الدنيا لأجلته حتى يأتي الولد ويشب أناديه فيسمع، أستشيط فيطيع.
لكن يبدو أن موعد الحساب حان قبل أوانه!
من قال ذلك؛ لو لم تدك إسرائيل بيتنا بطائراتها لكنت الآن أجلس في بيتي أشاهد التلفاز أو أبحث في الفيسبوك عن قصة مثيرة أو طبخة شهية.
الأعمار مكتوبة منذ الأزل، من ولادتك من بطن أمك مكتوب عليك أن تقتلك قذيفة تطلقها طائرة عمياء، فتسقط بسطة الطابق العلوي على صدرك فتموت متأثرا بجراحك أو خوفك، دون أن تجد حتى من يقدم لك الإسعاف الأولي أو حتى تنال حقق من كرم الشهيد.
أتخيل أستاذ الدين وهو يشرح مفهوم القضاء والقدر لديه، وأنا أقول له الآن؛ لو لم تقم هذه الحرب لأصبح هذا السيناريو من نسج خيال مبرمجي ألعاب الفيديو.
وإذا صدق أستاذ التربية الإسلامية في فهمه؛ فلماذا لا نعرف هذا المكتوب كي نستعد له، إذا كان فعلا قد كتب علينا أزلاً، وكتب على الأمريكي الذي يعيش في نيوجيرسي أن يحيا حياة الرفاهية، والإماراتي أن يعيش حياة المرح والمتعة وهداة البال، أم أننا نحن من كتبنا على أنفسنا ما نحن به الآن، إذا كان هذا مكتوباً علينا منذ الأزل فأين الإثارة في ذلك، ولماذا لا يُرسَل إلينا مع رزمة الفواتير المستحقة مع ختام الشهور حتى نستعد له.
من قال لنا إن الأجل مرسوم خدعنا، والله ترك باب الأجل مفتوح على اتساعه وإن وعدنا أنه سيميتنا في آخر المطاف، وها قد جاء آخر المطاف مبكراً بفعل فاعل، بخطأ بشري لا بأمر رباني.
لم يقل لنا مثلاً لن تموت حتى تتزوج، أو حتى تبلغ الأربعين، هناك من يموت وهو رضيع وآخر يبلغ من العمر عتياً لكن لماذا ترك الأمر مفتوحاً على مصراعيه.
ولدي الذي يسكن أحشاء زينب، هل ستريه هذه الحرب نور الدنيا؟ هل سيلعب بترابها ويشرب ماءها؟ هل سيبلل ماء البحر أقدامه الطرية.؟ هل .. هل ... هل ؟؟
الحسرة تأكل قلبي، على ولدي الذي لن أراه.
لو لم تقم هذه الحرب هل كان لهذا العدد من الناس أن تموت ؟
رجعنا للفهم الخاطىء..
يقول عدنان نعم سيموتون، أقول له لا، لا.. ما كان لهم أن يموتوا، يستشيط غضباً ويتهمني في إيماني، وأنا أتهمه في عقله، أقول له لو لم نلاقي قدر الموت للقينا قدر الحياة، وقدر الحياة أكثر وأوسع وأقرب لنا من قدر الموت، لا يفهم المسكين، لا يفهم، وأتركه لسوء فهمه، وأبقى أنتظر وصول الملكين.
كنت أظن إلى حدّ بعيد أن عمري سيطول كما طال عمر والدي الذي تجاوز الثمانين، كباقي أعمامي وعمّاتي وخالاتي، فنحن أسرة جيناتها تعّمر، لكن ظّني ليس في محله أو أنني لم أدخل في حسابات الحروب والكوارث وحوادث الطرق، والسكتة القلبية، والسكتة الدماغية والموت على حافة الطريق في انتظار مولود ذكر تمنيته بعمري كله، وهذه المرة كانت الحرب من خلط الأوراق والأقدار بهذا الشكل السريالي؛ خلطت الأوراق وعاثت فساداً في ترتيب أولويات الموت في الأسرة.
والدي سيكون الأكثر حزناً، على موتي، فأنا الأكثر شبهاً به خَلقاً وخُلقاً لكنه أمّي، "لا يقرأ ولا يكتب" كما يردد، وأنا أحمل الدرجة الجامعية الأولى والثانية وأنتظر المولود الجديد كي ألتحق بالدكتوراة، والدي ناهز الثمانين "لا يقرأ ولا يكتب"، وأنا ماذا سأفعل بعلمي وشهاداتي في التمويل، المشكلة أن شهاداتي لا تنفع شيئاً عند سؤال الملكين، فهما لا يسألاني عن الدرجات العلمية واللغات التي أتقنها والدورات والورشات التي التحقت بها، كلا ولا يهمهم عدد أصدقائك على الفيس بوك، وإن كان بيتك ملكاً أو بالأيجار، وما نوع السيارة التي تقتنيها، أو كم عدد الغرف التي يتكون منها بيتك، أو هل رصيدك في البنك بالسالب أو بالموجب.
كل هذه الأسئلة التي تدور عليها حياتي وحياة أكثر الناس لا قيمة لها ولا معنى لحظة سؤال الملكين.
كنت أود لأعود إلى الدنيا لنصف ساعة فقط.
أبصق فيها في وجه مسؤول التسهيلات في البنك، أذهب للنظر إلى وجه أمي دون أن أقول لها شيئاًن وأشرب الشاي مع العجوز أبو علي، أضع رأسي على بطن زينب لأسمع حركة وجيب قلب فلذة الكبد الذي لن أراه، وأنفق العشر دقائق الأخيرة في صحبة عديلي ماجد الصوص، لأقول له "كله عالفاضي" كله عالفاضي كلمة تختصر الدنيا، بوجودها وعبثها نفهم معناها عندما نعبر جسر الأبدية، ولن أستطيع أن أقنع الرؤوس المراهقة أن الحياة بلا قيمة، وأن الموت هو الحقيقة الأزلية الوحيدة الخالدة الممتدة التي لا وجهة نظر فيها ولا رأي ولا مدة صلاحية.
مسكين ماجد الصوص، غرور قلبه وانتفاخ جيوبه أعمت بصره وبصيرته، لكن ماذا أقول حكمة الله أن الستار المضروب دون رؤية حقيقة الدنيا وزخرفها من الكثافة والسماكة والشفافية ما يحول دون أن يرى كل الناس سوى اختيارهم وأنا كنت أحدهم، جدي لأبي أورثني بعض زهده، كان يصف الدنيا بأنها زبالة الكون.
أتذكر كلام أبو عروة ..
لن تدخلوا الجنة بأعمالكم، إنما برحمة الله ومنّة وفضل منه تعالى فالرحمة والفضل لله، أنا أحاول أن أتذكر أعمالي فلا أجد فيها الكثير من الخير، كنت أصلي في البيت الصلوات كلها الصبح أصليه عقب الاستيقاظ من النوم، السنوات العشر الماضية صمت رمضان جميعه، إنما الزكاة فلا مال عندي يستوجب الزكاة، والحج بعيد المنال كما الصعود على القمر.
باقي الأمور لا أدري!
لكن ما يريج قلبي قليلاً أنني أبغض أمرين، أن كون سبباً في إيذاء الآخرين، والثانية الخوض في شؤونهم، سوى ما اضطررت عليه في حوارات الزملاء ما خلا ذلك، لم يدخل جوفي مسكر قط؛ كلا ولم أمارس الفاحشة، وكانت المرة الأولى التي عرفت النساء مع زوجتي زينب، حتى أنني لم أكن أعرف ما يتوجب علي عمله، لا أقول ذلك لأحد لأنهم سيسخرون مني، أما زينب فكانت أشد جهلاً منّي، ومرت الأمور بالتجربة والمحاولة.
ماذا أيضاً أنني أحاول أن أكون جاهزاً للحساب.
ماذا بعد، ليس لأحد علّى دين سوى للبنك، والبنك يعرف كيف يحصل على سداد الدين الذي تبخر مع دخان الطائرات التي دكّت البيت بأهله. من مال نهاية الخدمة أو التقاعد أو الراتب أو الغربان السود. لو يتاح لي أن أبصق في وجه موظف التسهيلات بملامحه الماكرة ويديه الناعمتين أن أبصق حتى أملأ وجهه وأقول له، "خلي إسرائيل تسدد باقي القرض الذي سوّي بالأرض".
عندما بدأوا بطرق باب الغرفة الصغيرة ولم أكن قد فعلت شيئاً بعد، أشارت زينب أن تعطيني من دم سبّابتها بعد أن غرزته بدبوس استلته من شعرها. بقيت تعصره حتى تلون المنديل الأبيض بالأحمر الذي يريدون. فتحت الباب والقيته في وجوههم جميعاً، وضحكنا طويلاً. وبقينا نضحك طوال السنوات الخمس التي مضت، كانت ليلة دافئة، برغم أننا لم نفعل شيئاً سوى أننا نمنا بتعبنا متعانقين.
زينب، ماذا ستفعلين من بعدي، لا تتزوجي من بعدي، فعظامي سترقد بسلام ما دمت لي.
زينب أنت من سقاني شهد الحياة في السنوات الخمس الماضيات، قبلك كنت بلا عنوان وبدون أمل أو رغبة.
أمي تقول عنك أنك أفعى في ثوب امراة، أكثر نعومة وسماً من أمك، أنا يا أمي لم أر الأفعى، رأيت حباً وعرفت حناناً..
عشت الأنوثة التي لم أعشها معك، ولن أعيشها، زينب من قادتني إلى معنى الرجولة بأنوثتها الغامرة، أنت لا تصلحين لتدليني على معنى الأنوثة أنت شيء آخر، لا تنطبق عليه بالنسبة لي معاني الأنوثة، أنت الملائكة التي سمعنا عنها ولم نرها، لكنك لا تدركين معاناتي، لا تحسين أن العمر يمضي، وأنا أعاني بصمت حبي لك، ورغبة وأحساساً غامرا بالمسؤولية اتجاه زينب التي أحبتني وأطاعتني كما تفعل الزوجات الجميلات، أنت لا تودين أن تدركي أنني في حيرة من أمري.
فأنا أريد أمّي وزوجتي، أريدهما معاً، وهما لا تتفقان على أن تبقياني إلى جوارهما معاً، فأمي حبي الأول الذي لا فراق ولا طلاق بعده، وزينب عرفت شهد الحياة على يديها، وعرفت طيب النساء، أمي بالنسبة لي ليست من النساء إنها من الأمهات الملائكة التي ليس لها أجنحة لكنها لا تفهم ذلك، أبي يقول لي أمك لا تحب زوجتك وأمها من قبلها فلا تفّرط في زوجتك.
وها أنا من ذهب وتركهما لحبهما وكرههما، زينب عقب انتهاء عدتها ستحزم حقائبها وبناتها، والطفل الرضيع في حضنها باتجاه بيت أهلها.
أما البيت الذي اقترضت من البنك لتعميره فقد أصبح أثراً بعد عين.
إذن هي الصفرية، الصفرية أن تعود من البدء أنا مستعد الآن أن أعود من الصفر.
مستعد أن أعود إلى مقاعد الدراسة الابتدائية من جديد، أدرس أجتهد، أعشق أتزوج، أنجب ولتعود الخلافات بين أمي وزينب، فهي ملح حياتي، لكن بشرط أن تعود جذوة الحياة إلى قلبي سأبدا من جديد.
أمي ستدفن أحزانها وحسرتها في التحديق في صفحة البحر الفسفورية، وهي تدخن.
ابي سينطفىء نور عينيه من بعدي؛
نضال سيبكي بحرقة وهو يضم شهد وسُري وسيحرمهما من حقهما فيما بعد، وحدها دعاء ستبكي بأكثر من الدموع، ستندم على كل شيء فعلته وأثارته نزعات قلب أمي على زينب.
وسيمضي الجميع فيما بعد كل لشأنه، سيتكفل كرّ الأيام إذابة الحسرة في ماء الرتابة، سوى من زينب، زينب التي لا أظن العمر الباقي سيكفي لحزنها، دون أن تدع هذا الحزن، أن يكشف عن هويته، فأنا أعرفها وأعرف حزنها، ففرحها طارئ وحزنها أصيل مركب، لا يذيب جذوته كرّ الليالي، وسيبقى في قلبها فرح مخبوء ستدّخره للساكن في أحشائها.
عصام شقيقي التوأم يعيش في رام الله منذ الانقسام.
ترى لو سألني الملكان عن الانقسام، ماذا سأقول لهما، سأبدو ساذجا ومهمشاً إذا كان ردي "لا أدري، أو لا شأن لي" ربما سأقول لهما إنني طوال المدة التي تلت الانقسام اللعين والحوادث والحروب التي مرّت؛ كنت أنظر إلى موضوع الانقسام أنه غامض وغير مفهوم تماماً مثل الموت، لكنه حقيقية لا يمكن إنكارها لأننا ببساطة نعيشها يوماً بيوم.
عصام الذي غادر غزة برفقة كوادر فتح للعيش في رام الله؛ يعيش حياة الرفاهية هناك، وقد تزوج ولديه ثلاثة أطفال ذكور، فزوجته من عائلة متنفذة وذات مال وتجارة، الغريب في الأمر أننا ولدنا في الساعة ذاتها كان لنا نفس القدر فلماذا القضاء اختلف؟
أسمع وقع أقدام وأصوات تقترب أكثر فأكثر، نور قليل أخذ يتسلل من بين الشقوق، سمعت أحدهم يصرخ "هناك مصاب تحت بسطة الدرج" فجأة تدفق نور بالغ السطوع وانفجر في وجهي لم تحتمله عيناي، كانت طواقم الإسعاف قد وصلت، عاد الصراخ مرة أخرى "هناك مصاب يتحرك تحت بسطة الدرج". كنت أود أن أنادي بصوتي لكن صوتي خانني مرة أخرى، لكنني استطعت لأول مرة أن أحرك أقدامي، عندما أزاحوا بسطة الدرج التي رقدت أسفلها كل هذه المدة وظننت أنني قد تجاوزت عتبة الأبدية، كانت عشرة أزواج من العيون تحدق في وجهي تحاول أن تستل فرحة العثور على أحد الناجين.