السبت  23 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

سامي الغضبان.. مناضل عنيد وعصامي في الزمن الصعب (الجزء الثاني)/ بقلم: أمل غضبان - عاروري

​9.9.1921 – 1.11.2005

2022-01-16 08:55:50 AM
سامي الغضبان.. مناضل عنيد وعصامي في الزمن الصعب (الجزء الثاني)/ بقلم: أمل غضبان - عاروري
الصورة: من السبعينيات، في ذكرى زواج سامي الغضبان وهند الكرمي يوم 21 كانون ثاني / يناير 1948

كما ورد في السطور الأخيرة للجزء الأول، في العام 1962 عاد سامي الغضبان إلى دمشق بعد إجباره على مغادرة لبنان لتفادي تسليمه للسلطات الأردنية التي أرادت تنفيذ حكم السجن والأعمال الشاقة لخمسة عشر عاما، والذي صدر ضده بمحكمة غيابية في أواسط الخمسينات. للمرة الثانية بعد بيروت، في دمشق أراد والدي التواري عن الأنظار وحماية عائلته التي ضمت ثمانية أطفال (ثلاثة ولدوا أثناء اللجوء)، والدتي هند، ووالدتها أم يسار الكرمي التي لم نكن لنتدبر أمورنا لولا عنايتها وحكمتها في تدبر الأمور، وهي التي شهدت سقوط الحكم العثماني والانتداب وما تلاهما. ما زلت أذكر كيف كانت تلف سجائرها جالسة أرضاً على الجودلة في زاوية الصالون، وكيف تجدل شعرها الطويل المحنّى بعد الاستحمام وهي تدندن.

في دمشق، مجددا، عاد الوالد وفتح محلا للخياطة بالصالحية، واستأجرت العائلة بيتا بمنطقة الشيخ محي الدين، حيث مدارس الأطفال قريبة. أما شادي فدرس في مدرسة دار الحكمة بمنطقة سوق ساروجة " دمشق القديمة"، ما بين ساحة المرجة وبوابة الصالحية، وفي فترة بعد الظهر يساعد الوالد بالعمل حتى موعد العودة إلى المنزل مساء.

الانقلابات والتغيرات بالحكم بين أقطاب حزب البعث عكست نفسها بقوة على الوضع السياسي والاقتصادي بسوريا في تلك الفترة، والتي لم تكن تبشر بالخير، كما انعكس ذلك على عمل المخيطة الذي اعتمد بنسبة كبيرة على اللاجئين السياسيين بدمشق. كان الوالد قد استأجر محلاً بالطابق الثاني وليس مباشرة على الشارع ليتوارى قليلا عن الأنظار، ومع تدهور الأوضاع اضطر لتقليص عدد العمال إلى واحد بالإضافة إلى شادي بعد انتهاء المدرسة. وجود المخيطة بجانب سينما الحمراء حيث ساحة الإعدامات بدمشق أثّر نفسيا على الوالد، وعائلتنا أصبحت كبيرة العدد ورعايتها بالغربة متنقلا من بلد إلى بلد لم يعد سهلا. ولم يعد يشعر بالأمان. وكان الرفاق بالحزب يبادلونه الرأي بخطورة وضعه بدمشق واقترحوا عليه المغادرة. ولكن إلى أين؟.

في العام 1963 قرر الوالد العودة إلى طولكرم ومواجهة المخابرات الأردنية. إما الاعتقال أو إخلاء السبيل. أخبر رفاقه بالحزب عن قراره وأنه يرغب بأن يتربى أطفاله بوطنهم، وأنه لن يلجأ، مجددا، إلى براغ أو موسكو أو الكويت  كما اقترحوا عليه. كانت بداية حزيران والعام الدراسي يوشك على الانتهاء، فقرر الانتظار قليلا لينهي شادي دراسته ليرافقه أثناء العودة.

أخذ الوالد شادي إلى سوق الحميدية، تسوقوا ما يحتاجونه تمهيدا لرحلة العودة المحفوفة بالمجهول. ترك الوالد الوالدتين مع سبعة أطفال أكبرهم شادية وعمرها اثني عشر عاما وأصغرهم أنا وقد بلغت حينها من العمر ربيعين. سافرا جنوباً نحو الأردن برفقة صديق للوالد من طولكرم من آل الحطاب كان بزيارة لدمشق. ركب الثلاثة سيارة الفولكس فاجن البيتلز وتوجهوا نحو الأردن، ليعود هذه المرة عبر الحدود الرسمية بالسيارة وليس هربا في الجبال. كان والدي دائم الحديث عن كيف أنه عندما هرب من طولكرم في الـ1956، أن حذاءه لم يصمد طويلا واهترأ وهو لم يقطع جبال نابلس بعد (في ذلك الزمن لم يكن الناس العاديين يملكون "احتياطا")، فقام بلف قدميه بالأقمشة وصولا لدرعا على الحدود السورية، حيث عبر الحدود بأقدام دامية وصعوبة بالمشي.

وصلوا درعا على الحدود السورية الأردنية. سمح السوريون لهم بالمغادرة. عند وصولهم عمارة الجوازات بالجانب الأردني ترجل الثلاثة من السيارة وطلب الضابط المسؤول من الوالد الانتظار. ثم اتصل بمخابرات الحدود وطلب منها اعتقاله ونقله لعمان، بينما مُنِحَ شادي تصريحا ليكمل رحلته إلى طولكرم، إلى بيت ابن العم فايز الغضبان "أبو باسم". بعد حوالي الشهر وصل الوالد إلى طولكرم، بعد أن أفرجت المخابرات الأردنية عنه.

بإخلاء سبيل الوالد وإسقاط الحكم ضده، أخذت الوالدة تعد العدة للعودة مع باقي العائلة والعفش بعد أن تم إنهاء عقد استئجار بيتنا في طولكرم، بينما عكف الوالد وشادي على تحضيره لاستقبالنا، حيث تم توقيت كل شيء ليلتحق الأطفال بالمدرسة بموعدها. هل ستتمكن العائلة من الاستقرار هذه المرة؟ وهل ستكون هذه الرحلة الأخيرة بعد فصول الشتات؟ هل يستطيع أحد تخيل وضع الأطفال الكبار منهم بشكل خاص، وتنقلاتهم المستمرة بأوقات متقاربة بين مدن ومدارس وبيئات مختلفة في علاقات الطفولة والصداقة والتعليم؟ هنالك حلقات معقدة ومفقودة في حياتنا بلا شك. أمّا والدتي، الزوجة والرفيقة "هند الكرمي – أم شادي"، فهو جبروتها وحبها العميق وإيمانها بسامي ودوره الذي دفعها لمرافقته للحفاظ على العائلة موحدة في ظروف كتلك، رغم أن تفتت العائلات عبر الحدود كان ظاهرة عادية في تلك الأيام. ضغوط نفسية واجتماعية واقتصادية، وبعيدا عن عائلتها وبلدتها. كانت سيدة جميلة وقوية ومربية ومدبرة بكل ما تحمله الكلمات من معانٍ.

كان سامي كالبئر العميق الذي لا قاع له، عميقا بسره قليل الكلام عن شخصه وأسراره وعمله الحزبي أو الاجتماعي الإنساني.  لم يتحدث الوالد عن فترة اعتقاله من قبل السلطات الأردنية، ماذا حصل بالسجن وكيف تم إطلاق سراحه. يقول شادي إن الوالد قال جملة واحدة: "الأمور مشت بسلاسة. ما بدّي لأولادي يتربوا خارج الوطن". السرية والتكتم وعدم التوق للشهرة كانت نتاج التربية الحزبية والعمل الملتزم للشيوعيين في تلك الحقبة.

مجددا، في 1963 أعاد سامي فتح مخيطتة في الشارع المؤدي إلى معهد خضوري بوسط طولكرم، ثم انتقل إلى محل آخر على الشارع الرئيسي. عاد للخياطة في وطنه وبلدته وبين أهله الذين أحبهم، مع طاقم تراوح بين  6-7 أشخاص، وصنعته نظيفة كما يده، وعادت مخيطته لتكون مركزا سياسياً واجتماعيا. استفاد في عمله كثيرا من موسم المصطافين من الخليج وغيره، وكان يعمل حتى منتصف الليل، وإذ بحرب العام 1967 ونتائجها المرعبة باحتلال ما تبقى من فلسطين وسيناء والجولان. ولكنها أيضا أعادت بعض اللحمة للعائلة، فجدنا لوالدتنا "زكي الكرمي" وعائلته من سكان أم الفحم، والعمة "سلمى الغضبان-عازم" (أم سنان، زوجة الرفيق محمود عازم) يسكنون في طيبة المثلث. وهذا ما حصل مع الكثير الكثير من العائلات. الاحتلال الجديد غيّر الحدود، ونقل خبرته بقمع فلسطينيي مناطق النكبة "1948" إلى مناطق النكسة، ملاحقات واعتقالات، سجن ونفي وأحكام عسكرية مشددة. أما سامي، فقد انبرى لاستنهاض طاقة الجماهير في مواجهة حالة الإحباط واليأس من خلال العمل التشاركي والمنتج.

أيام بعد انتهاء حرب عام 1967، استدعى الحاكم العسكري لمنطقة طولكرم سامي الغضبان إلى مقر الحكم العسكري في المقاطعة، وعندما لم يلبي الوالد طلبه جاءه إلى المخيطة "لشرب فنجان قهوة"  كما زعم! في نهاية اللقاء أخبر الحاكم العسكري سامي أن ملفه بين أيديهم وأنهم يعرفون ماضيه وتاريخه جيدا. خلال الزيارة، استعرض الضابط بطولاتهم في احتلال مدينة طولكرم واستباحة بيوتها وسرقتها، وعبر الضابط عن إعجابه بقطعة فنية كان يرغب باقتنائها هي جهاز راديو واسطوانات كانت قد تمت سرقته من أحد البيوت بالمدينة، لولا أن ضابطا آخر سبقه لها. الجهاز كان قد سرق من بيتنا (سامي كان عاشقاً للموسيقى والطرب الأصيل). كان بيتنا كما باقي بيوت الجيران قد تعرض للسرقة التامة في حرب ال1967 من قبل جيش الاحتلال وجنوده وعاثوا فيه فسادا وخراباً. مع وصول الاشتباكات إلى حيّنا المطل على السهل، تركنا وجيراننا عائلة الدكتور البير مزبر وعائلة أبوهشام الزعبي بيتنا (كنا جميعنا نتحصن في الطابق الأرضي)، ولجأنا إلى قرية بيت ليد.

في أحد الأيام الأولى بعد الحرب لم يعد شادي إلى البيت مساء، وكان منع التجول اليومي قد بدأ. ارتبكت العائلة، وبعد البحث علمنا من صديق له بفريق كرة القدم من مخيم طولكرم أنه قرر مغادرة الوطن دون إعلامنا خوفا من منعه من السفر، وذلك من أجل تحصيل تعليمه الجامعي حيث كان قد أنهى الثانوية العامة (التوجيهي) لتوه يوم احتلال ما تبقى من الوطن في حزيران (ظل الفلسطينيون يتسللون عبر نهر الأردن بالاتجاهين حتى العام 1969). وجع من نوع آخر. رغب الوالد بأن يتعلم أولاده ببلد المناضل الشيوعي جوركي ديمتروف، فقام بالترتيب مع السفير البلغاري في دمشق ليصل شادي بعد أشهر من مغادرته طولكرم إلى صوفيا ليدرس الهندسة المعمارية. كان للسفارة البلغارية في دمشق وسفيرها كما والرفاق والضباط الأحرار والشاعر الكبير أبي سلمى أثر كبير ومهم في تسهيل تعلم الأشقاء شادي وشادية وسلام ورجاء في صوفيا على حساب الوالد ومنح جزئية لاحقاً. 

تميز سامي بإنسانيته ومساعدته للآخرين على الصمود عبر مساعدات غذائية ومنح تعليمية وتوفير فرص عمل. دعى للمقاطعة الاقتصادية للمحتل إبان حرب أكتوبر 1973. آنذاك كان يملك مشغلا للخياطة لحساب "شركة لودزيا  للتريكو". قام بإغلاق المشغل وإعادة البضاعة والمعدات للشركة في وقت كان قد وصل عدد العاملين والعاملات في المشغل الثلاثين. كان سامي داعما للجبهة الوطنية وفاعلا بانتخابات العام 1976، كما وبالعديد من المؤسسات الأهلية والخيرية. لا زال الكبار من أهل المدينة يذكرونه بالخير عند مرورهم من أمام محله في طولكرم. حدثني عدنان الضميري قائلا "لم أشهد مثل كرم وحب العم أبو شادي، أهداني بدلة من صنع يديه لما انهيت الإعدادي وانتقلت للأول ثانوي في مدرسة طولكرم الثانوي عام 1969. أنا ابن اللاجيء حسين الضميري ورشيقة وعايش بمخيم طولكرم، كنت الطالب الوحيد اللي لابس بدلة وقميص، فيما منعوني الأساتذة من لبس الكرافتة! كيف أنسى عمي أبو شادي، ما قصدته يوما وردني خائبا، كما أهلي والكثير من أهل البلد".

في العام 1975 قام الوالد بعمل تصاريح لم شمل لعائلة شقيقه المهندس الزراعي  صابر الغضبان، وأنشأ مزرعة  "الغضبان للدواجن" في منطقة خربة جبارة. بعد ربع قرن ونيف، في العام 2003 خاض سامي مع سكان المنطقة معركة  قضائية شرسة ضد جدار الفصل العنصري الذي عزل الخربة عن منطقة طولكرم. بالتعاون مع محامي مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان والمحامي فتحي شبيطة من طيرة المثلث، نجحوا بتغيير مجرى الجدار وإبعاده عن الخربة.

في العام 1978 تعرض الوالد لأزمة صحية. نصحه طبيبه المعالج وصديقه د. خالد الدرزي بالتوقف عن التدخين. خلال اللقاء، أشعل سيجارته، وتحاورا. أطفأ سيجارته وهم بالخروج تاركا علبة السجائر وملحقاتها على المكتب. "لا تنسى دخانك" قال له د. خالد. أجابه الوالد: "هاي آخر سيجارة بحياتي". وهذا ما كان. وفي العام 1992 أدخل لمستشفى الأردن لعملية قلب مفتوح بنسبة نجاح 5 بالمئة فقط، كانت عملية صعبة ومعقدة ومقلقة. تشافى بسرعة أذهلت الطبيب المعالج الذي أخذه جولة بالقسم لتشجيع المرضى الشباب. قلت له في حينها بأنني "مذهولة من سرعة تشافيك يابا، كل ساعة عم تفرق معك". أجاب ضاحكا: "جددت قلبي وأمامي سنوات من الحياة والعمل وأشياء أعيش لأجلها".

في العام 1997 ساهم سامي بتأسيس شركة دواجن فلسطين بهدف الاستغناء عن السوق الإسرائيلي في مجال صناعة وتربية الدواجن والأعلاف، دعم وشجع عددا كبيرا من صغار منتجي الدواجن على الإنتاج رغم تراكم ديونهم. كان يزور مزارع صغار المزارعين يتفقد اوضاعهم عندما تغيب حركتهم عنه، يدفعهم للعمل مجددا رغم تراكم ديونهم له،  ليحافظ على عملهم ومصدر دخلهم واستمرارية إنتاج الدواجن محلياً. يروي شقيقي غصوب والذي رافقه في تلك المرحلة أنه كان يعفي ويمسح الكثير من ديون من تعامل معهم من صغار المزارعين، وعندما سأله "ليش يابا بتعمل هيك؟" كان الرد "يابا أنا انولدت في البرنس، وهذا حظ كبير في الدنيا ولهيك لازم أساعد لأنه دايما حيكون عندي المزيد". كما وساهم  بتأسيس الغرفة التجارية بالمدينة.

عاش سامي حياة سعيدة وهانئة مع زوجته هند. كانت داعمة ومدافعة عنه ومبادئه بشراسة. في العام 1955 كانت في حفل استقبال لإحدى صديقاتها وكان والدي بالمعتقل. ناقشتها إحدى الحاضرات عن سبب اعتقال والدي ولماذا هو شيوعي. أجابتها الوالدة: "نحن شيوعيون وندافع عن الناس والعمال والفقراء، وابني اللي في بطني شيوعي كمان". كان الاثنان مثل عصافير الحب لا ينفصلا، وكانت حافظة أسراره. كما وضعت الوالدة بصماتها في العمل المجتمعي والأهلي الإنساني بسياق فلسفتها الإنسانية. أوصت بأن يوزع ميراثها بالتساوي بين بناتها وأبنائها بعد وفاتها.

كقارئة فنجان.. عارضت وتحفظت والدتي على زواجي من تيسير العاروري رغم الاحترام والمحبة المتبادلة بينهما، بينما كان والدي موافقاً ومشجعاً حتى العظم، كيف لا وهو شيوعي وامتداد لسيرته، ربطتهما صداقة ومحبة فريدة من نوعها. سبب معارضة الوالدة أنها قرأت بزواجي من تيسير تكرارا لتجربتها الصعبة مع والدي من عذابات السجون وتجربة النفي، وكأنها كانت تريد أن تنأى هذا العذاب عني. وهذا ما حصل بالفعل. فهي التي عاملت تيسير ببرود بدايةً، داومت بفترة اعتقاله في سجن الجنيد ولعام متواصل على الحضور أسبوعيا (كل يوم اثنين)، إن كان الطقس بارداً أم حارّاً أم ماطراً لا يهم، تحمل معها الحب وأشياء أخرى للاطمئنان علي وأطفالي الثلاثة وتيسير وهو المسجون برهن قرار الإبعاد عن الوطن في الفترة بين آب 1988 إلى آب 1989.  

ظل سامي حتى وفاته أباً حنونا، صديقاً وداعماً لأبنائه وبناته، مربي تقدمي بامتياز. كان زوجا ورفيقاً وشريكاً يتطلع إلى ما يسعد رفيقته وشريكته، حتى التفاصيل الصغيرة منها. قاموا بتربيتنا على المساواة التامة بيننا كإخوة وأخوات. شجع بناته ودفعهن إلى التعلم والاستقلال الاقتصادي وزرع أهمية العمل والنضال واحترام القيم والمبادئ ونظافة اليد. كان يردد جملته المشهورة: "الشغل المنيح يابا بخليك تعيش بكرامة، تعلم أولادك، تشتري سيارة، تسافر شمة هواء بالصيفية، بس لما بيصير معك ملايين، في إشي غلط عملته بحياتك".

صباح الأول من تشرين ثاني 2005، الموافق 29 رمضان. نهض سامي من سريره كما كل يوم ليعد القهوة وكأس العصير الطازج لرفيقته وله كما الحال لسنين. سمع أخبار السادسة والنصف عبر المذياع المتنقل الذي رافقه دائما، وجاء فيها بأن الاحتلال سيرفع الإغلاق المشدد عن مدينة طولكرم الممتد منذ 2002 بمناسبة عيد الفطر. عاد إلى غرفة نومه مسرعا مخاطبا هند: "هذا العيد كل أولادك بدهم يتجمعوا عندك، شوفي شو ناقصك للبيت من مشتريات وحضري حالك!". جلس بجانب سريره يتناول دوائه، أحس بألم شديد في ساقه. تمدد على سريره وطلب من هند استدعاء طبيبه  د. راميني. قبل أن تعيد هند سماعة الهاتف إلى مكانها، رحلت روح سامي ولم يودع حبيبته. حتى وفاتها بعد الوالد بعشر سنوات، ظلت الوالدة تردد بأن "سامي مات وما ودعني". كان خبر وفاته صاعقا لعائلته ولبلده وأهلها التي أحب.

مساء اليوم الذي سبق وفاته طلب من الوالدة أن تعطيه مما لديها من مسابح الحجاج  ليعطيها للجنود على حاجز جبارة، لانهم يوميا يحاولون أخذ مسبحة والدته "أم سامي" المعلقة بسيارته. صباح اليوم التالي عندما حاولت شقيقتي رجاء التي تسكن في مدينة الناصرة الدخول إلى طولكرم المغلقة لوداع الوالد لم يصدق الجنود أن سامي قد توفى وهو الذي عبر الحاجز قبلها بساعات. دخلت رجاء من خربة جبارة حيث ما زالت مزرعته، أما نحن سكان رام الله فقد دخلنا طولكرم بسيارات الإسعاف.

حتى وفاته عن عمر يناهز الـ 84 عاما بقي سامي الغضبان على رأس عمله، يمارس الحياة حسب مبادئ واضحة، يخطط ويدير ويطور، ويقترح على الشباب أفكارا للعمل والمستقبل. علمنا الوالد حب الوطن وكيف نكون إيجابيين وفاعلين إزاء محيطنا. عاش ومات مؤمنا بحتمية انتصار الشعوب المقهورة وزوال الظلم وسيادة العدل والمساواة كحتمية تاريخية، كان دائما يعطينا الأمل بالانتصار رغم العتمة والظلام. ظل مرجعية وطنية للشباب والقوى الوطنية المختلفة في محافظة طولكرم حتى آخر أيام حياته، ولعائلته النووية والممتدة وأبنائه وبناته العشر والأحفاد الكثر. مات سامي بحساب بنكي متواضع وديون كثيرة له مع صغار منتجي الدواجن. رحل مخلفاً إرثاً وطنياً كبيراً، وأثرا جماً على مجتمعاته التي انخرط بها أو تقاطع معها، وكانت قدرته عجيبة في نسج علاقات الاحترام والمحبة. هو رجل المواقف. توفي  مبتسما، بهدوء في بيته. لم تشهد مدينة طولكرم جنازة بحجم جنازته، وذلك بالرغم من أنها كانت منطقة عسكرية مغلقة. الألوف تجمهروا من رام الله ونابلس وسلفيت والقضاء للمشاركة في وداعه، وفي بيوت العزاء في طولكرم ورام الله والخليل، وهو الذي خاض النضال في كل المراحل منذ الانتداب وحتى جدار الفصل العنصري.

ووري جثمانه الثرى حيث أوصى، في حديقة بيته التي أحب زراعتها والعناية بها ومارس رياضته اليومية بالمشي، يوم 2 تشرين ثاني 2005. بيته الصغير يشبه الغابة من أنواع الأشجار الاستوائية والكاوتشوك والصنوبريات، وكميات من زهرة الفلَ التي كان يعشق وردها ويهديها لحبيباته "هند وبناتها" قائلا "الفل للفل". في 16 حزيران 2015 دفنت رفيقته هند بجواره كما أوصت بدورها.

لروحكما الخلود هند وسامي. أنتما معنا وبيننا.. ما تغير هو شكل وجودكما فقط، فصاحب الأثر لا يموت.

لقراءة الجزء الأول اضغط/ي هنا