الأحد  24 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

"خــواءُ الحـروبْ التي تجري الآن في بيئة الفراغ الإستراتيجي". بقلم: رائد دحبور.

2015-04-09 04:12:52 PM
صورة ارشيفية

كلُّ الحروب سيئة، وأغلبها الأعَم خاوٍ من الرُّوح الإنسانيَّة، فليسَ بمقدورنا إطلاقاً أنْ نصِفَ أيَّ حربٍ بالجيِّدة، ومع أنَّ ثمَّة حروب تفرضها ضرورات الأمم عندما تضطر للدفاعِ عن نفسها وعن مصائرها، ولكنَّها قد تُصبح كغيرها من سيِّئات الحروب، وربَّما أسوأ، عندما تدورُ في فضاءِ فراغ استراتيجيٍّ مُتعمَّد تركتهُ قوَّةٌ دوليَّةٌ آثرت التنصُّل من مسؤوليَّاتها، أو أرادت الإيحاءَ به لجني مزيدٍ من المكاسب، من خلال إذكاءِ التَّناقضات والمنافسة والصِّراعات بين خصومها وربما بين حلفائها على حدٍّ سواء.

ما نراهُ الآن من حروبٍ تدور رحاها في المنطقة، بين أبناء المنطقة أو بين القوى الدَّولية والإقليميَّة بالوكالة أو بشكلٍ مباشر، هو إحدى ثمار بيئة الفراغ الإستراتيجي الجزئي الذَي نشأ على هامش انكفاء السياسة الخارجية الأمريكية عن كثافة الحضور الفاعل الَّذي اعتادته المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والَّذي بلغ أوجه مع بداية عملية درع الصحراء في آب عام 1990 ومن ثمَّ عاصفة الصحراء في منتصف كانون ثاني عام 1991 وصولاً الى غزو العراق واحتلاله عام 2003مروراً وقبل ذلك بغزو واحتلال أفغانستان، مع ما عناه ذلك من وجودٍ استراتيجي كثيف لقوَّات الولايات المتحدة بقضِّها وقضيضها في المنطقة لأكثرِ من عقدٍ من الزَّمن.

هل تعمَّدت الولايات المتحدة ذلك ؟؟ ربما نعم؛ بل إنَّ الكثير من الشَّواهد تُشير الى أنَّ الولايات المتحدة قد أرادت أنْ ينشأ ذلك الفراغ الإستراتيجي الجزئي في المنطقة كإحدى ردود فعلها أو ربما كإحدى آليات معالجتها لآثار الحروب التي شنتها في العراق وأفغانستان ولم تستطع استثمار نتائجها بشكلٍ استراتيجي ومُكافيء يتناسب مع وفرةِ وفائضِ القوَّةِ التي استخدمتها في تلك الحروب، إضافة الى احتساب عوامل وحسابات الكلفة، بمعنى الأخذ بعين الإعتبار بقاعدة حساب نسبة الرِّبح قياساً بالكلفة، أو نسبة العائد على الإستثمار، عوَضاً عن أنَّ إدارة باراك أوباما الحالية ومع تولِّيها لمسؤوليَّاتها الدستورية كانت قد توصَّلت الى استنتاجٍ مُفاده أنَّ فوائد الولايات المتحدة من مصادر الطَّاقة النفطية ومصالحها الحيوية مُصانة دون الحاجة الى استخدام هذا الكم المهول من القوَّة ودون الحاجة الى الإنفعال الى حدِّ الإرهاق في إدارة مشاكل وأزمات المنطقة.

وربما يُضاف إلى ذلك عاملاً آخر وهو عدم ثقتها بإمكانية استمرار اعتمادها على حلفائها التقليديين ومن ضمنهم بعض الحكومات والأنظمة العربية بالصِّيغ القديمة مع ما تحتويه تلك الصيغ من حسابات المخاطر المتصلة ببيئة عدم الإستقرار أو تآكل القدرة أو الصلاحية للإستمرار، أو التنبُّه لخطرورة الرُّكون والإطمئنان إلى حالة الرُّكود الظَّاهري في أوضاع المجتمعات والبُنى السياسية في المنطقة، وهذا ما كانت وزيرة الخارجية السابقة " هيلاري كلنتون " قد أشارت إليه في اجتماعها مع وزراءِ الخارجية العرب في الدَّوحة عام 2011 قبيل بداية أحداث ما اصطلِحَ على تسميته بالرّبيع العربي.

إذا تمعنَّا جيداً ما يجري الآن في المنطقةِ من تنافسٍ بين إيران وتركيا على مستوى محاولة التأثير في الأوضاع العربية الدَّاخليَّة، وما يجري من انفعالاتٍ واصطفافاتٍ عربيَّة تجاه ذلك، وإذا تمعنَّا محاولات روسيا للحضور في أزمات المنطقة كشريك ومدير لها، نجد أنَّ كل ذلك كان لا يمكنُ أنْ يجري إلَّا في بيئة فراغٍ تَرَكَتْهُ الولايات المتحدة في المنطقة، إمَّا مُكرهة بالكامل أو مُختارة بالكامل، أو هو بين هذا وذاك، وهذا هو الأرجح؛ نزولاً عند رؤيتها لضرورة المواءَمة بين الحضور الفاعل بأقلِّ الكُلَف الإقتصادية والعسكرية والأخلاقية، وبين إخلاءِ بعض السَّاحات أوالغياب الجزئي عنها انتظاراً لصيرورةِ تناقضاتها وصراعاتها الدَّاخلية الدَّامية.

بالإجمال، إنَّ ما يجري الآن من صراعات وحروب في المنطقة، وليس آخرها – وعلى سبيل المثال - الحرب في اليمن هو محاولة من أكثر من طرفٍ لمليء ذلك الفراغ الإستراتيجي، الَّذي تنبَّهت له كثيرٌ من القوى قبل أنْ يتنبَّه إليه العرب، لكنَّها ستبقى وللأسف حروبٌ خاوية من المعاني على مستوى الجدوى الحقيقية منها، وخاوية من المضامين الحقيقية على مستوى الرؤى والأهداف الإستراتيجيَّة؛ لأنَّها وللأسف تأتي كردود أفعالٍ انفعاليَّة داخليَّةٍ بينيَّة على حالةٍ أملَتْها وتُمليها قوىً خارجيَّة، وعلى رأسها الولايات المتحدة، ولا يهمها من أمر المنطقة العربيَّة سوى مصالحها وإدامة حضورها في أزمات المنطقة كشريكٍ بلا خسارة، وكرابحٍ بلا كُلْفة، وكمديرٍ بلا مسؤوليَّة أخلاقيَّة أو قانونيَّة.

إنَّها وبالمُحصِّلة، تلك الحروب التي لا تحملُ غير معاني الخواء، والَّتي كان بالإمكان تجُنُّبها، بل كان من الضَّروري ذلك، لو امتلكت هذه المنطقة حريَّتها وإرادتها، ولو استعاضت بالعبرة من الماضي القريب في سبيل حلِّ خلافاتها ومعالجة أوضاعها عِوَضاً عن إضاعة إمكاناتها وفرصِ عيشها وتدمير مستقبل الثقة بين شعوبها في حروبٍ لا تنفع، ولا تؤدِّي إلَّا إلى إدامة الهيمنة الأجنبية، وإلَّا إلى استمرار التبعيَّة للخارج.