ضوء في الدَّغْل
.....
لمْ ألتقِ إيميل سيوران لأحاوره بشكلٍ مباشرٍ، لكنِّي قرأتُ له، وأحببْتُه من خلال كتاباته المختلفة والعميقة في آنٍ واحد. ولقد اجتاحتْني أفكارُه الكبيرة ورؤاه التي ظلَّتْ تطرقُ بواباتِ العالم جميعها بمطرقة العدمية، وتسقي أرض الإنسانية بماء الشّكّ في كل شيء. في هذه المقالةِ، أو فنقلِ الحوارية، سأنتقي بعضا من شذرات إيميل سيوران منْ كتابه"المياة كلها بلون الغرق"، وهو من ترجمة آدم فتحي ومنشورات دار الجمل، وسأُتبِع كل شذرة بتعقيب صغير حولها، هو بالدرجة الأولى أثرها في نفسي ووقعها علي. وليستْ هذه الحوارية أكثر من هواجس وأفكار تشكَّلتْ أثناء القراءة لهذا الكاتب الكبير.
1."توجعني كلُّ كلمة، ومع ذلك كم سيلذُّ لي أنْ أنصتَ إلى الزُّهور تثرثر حول الموت"(ص:30).
-توجِعكَ المسافةُ بين الشيءِ والفكرةِ، فمهما تكنِ الكلماتُ فهي مرحلةٌ تاليةٌ للعالم لا تملك من الحقيقة غير حرارة التوصيف. أمَّا ثرثرة الزُّهور فهي اللغة الكاملة:لغة الحياة متحدِّثة عن الحياة وعن ابنها المطيع:الموت.
2."قبل أنْ تولد الفيزياء والبسيكولوجيا بكثير، كان الألمُ يفتِّتُ المادّة، وكان الحزنُ يفتِّتُ الرّوح.".(ص:49).
-كان الإنسان إذًا، دائما، متألِّمًا حزينا..لكنَّ هذين الشعوريْن فتحا الطريقَ أمام المعرفة، والفارقُ بسيط جدا؛ كانَ الأسلاف يتألّمون ويحزنون بجهل، ونحن الآن نفعل ذلك بعلم. والسخرية الكبرى تكمن في أننا، رغم علومنا، لا نستطيع تغيير شيء.
3."ما كنَّا لنعتنق الأفكار بكلّ هذه السذاجة لولا نسياننا أنها وليدة حيوانات ثديّة."(ص:49).
-ههههههههه، ولتجنِّبِ اعتناق الأفكار بسذاجة، سنستمع إلى كلِّ مفكِّر، ونقرأ لكل كاتبٍ، وقد وضعنا نصب أعيننا علاقته البيولوجيّة بالأبقار والقرود.
4."وحدهم الشعراء الرديئون يشعرون بالحرية".(ص:50)
-في العالم العربي يا إميل، يدخلُ الشاعر إلى بيت القالب الشعريّ، ويغلق على نفسه كل الأبواب بألف قفل، ثم يتخيَّلُ نفسه طائرا طليقا. وحتى أولئك الذين تحرروا من عبودية القالب، هم ضحايا سجون الثقافة، فأفكارهم محجبةٌ ورؤاهم ترتدي حزام العفَّة. أمَّا البقية الجديرة بالشِّعر، تلك الثلَّة القليلة جدا، فتموتُ كمدًا من جرَّاء الوعي الزائد بفقدان الحرية.
5."هل ثمّة من يستعمل كلمة حياة في كلِّ موضع؟ إذًا فاعلموا أنه مريض.".(ص:72).
-لكنْ هناكَ في مقابل هذا، هل ثمّة من يستعمل كلمة موت في كل موضع؟ من يرى الموتَ مقيما في كلِّ تجلياتِ الحياة، ينظرُ إلى الزّهرة فيرى ذبولها، إلى العمارة الجميلة فيبصر خرابها، وإلى القلب النابض الراكض في براري الأمل فيرى توقّفه. هل يمكن أنْ نسمِّيَ هذا شخصا سويًّا؟ أمْ علينا لنجد السويَّ أنْ نبحث عن إنسانٍ يجيدُ التلفيق لدرجة تجعله يقسِّم نظره على قسمين:العين الأولى ترى الحياة، والثانية ترى الموت، ولسانه يستعمِل الكلمتين في آن واحد، وفي جميع المواضع.
6."نحن نحتمي بوجوهنا لكن المجنون يفضحه وجهه. إنه يمنح نفسه، يسبق الآخرين إلى اتّهامه، لقد أضاع قناعه لذلك فهو ينشر حيرته. يفرضها على أوّل عابر، يفضح أسراره. هذا القدر كله من عدم التكتّم يثير الحفيظة، من الطبيعي إذًا أنْ يوثق ويعزل.".(ص:76).
-العقلاء لابسو أقنعة فقط، كم هذا مخيِّبٌ إلى حدٍّ كبير. لكنْ ماذا عن أولئك الكتّاب مثلا الذين يزعمون أنهم نزعوا كل قناعٍ وهتكوا كل حجاب وهم يكتبون؟؟ إذا كانوا يكذبون أو يتوهّمون فقط، فمعنى هذا أنَّ البشر الأحرار هم أولئك المجانين الذين واجهوا العالم بما في داخلهم دون خوف، فقُيِّدوا وسجنوا في المصحَّاتِ. أخبرني يا إيميل كيف نسمي ثقافة تخاف من الصّدق، وتخشى من أنْ يظهر الإنسان على حقيقته السحيقة، أنْ يطلق وحش اللاوعي الساكن في أعماقه...؟؟لابدّ أنها ثقافة مدجَّنةٌ بامتياز.