فصول من كتاب الزيارة/ وقائع زيارة الأولى لفلسطين المحتلة
لم أرد أن أكمل التجوال.. طلبتُ من صديقتي أن نتوقف و نعود غداً إلى حيفا، في الحقيقة خفتُ أن تصحو حيفا من نومها، خفتُ ألا تعرفني لشدة النعاس، أو لأنّ ضوءَ الموبايل ينغرس في عينيها الناعستين كسيف، أو لأن الحراس ببابها يعمّون بصرها، أو لأنني تَعِبٌ من طول الطريق، 66 سنة وأنا أمشي ..
في الصباح الباكر، رأيتُ حيفا وهي تتمطّى، إبطاها الناعمان أشبهُ بمدينتين من الكريستال، شعرها ليس كشعر يافا طويلا و ممتداً، شعرها قصير لكنه أنيق و مثير، نَحرُها يدعو الرجولة فتأتي ملبّيةً، ساقاها من العاج، قلبها ماء.
حيفا ليست مدينة فحسب ، حيفا إلهةٌ مخادعة كبيرة، نزلنا على سفح الكرمل عن يميني أشجار خضراء ناصعة، تعلوها بيوت، ثم أشجار، ثم بيوت بشرفات واسعة جداً، وبألوان مختلفة، بيت أزرق ..آخر أحمر.. ثالث أبيض، ولكن القرميد يزينها كلها، ما يعني أنها بيوت عربية قديمة. وعن شمالي، منحدر شجريٌّ غريب، ثم بيوت، ثم منحدر شجريٌّ آخر، ثم عمارات متعالية وأبراج، ثم بحرٌ ثم بواخر كثيرة .. هذه هي حيفا، وأنا الفاشل كلما حاولت تصوير المشهد بالكاميرا ضحكت حيفا، فنظرت في الصورة فلم أجد سوى كتفها، أحاول مرة أخرى، فلا أجد سوى جيدها، أحاول ثالثة..يدها، رابعةً .. بطنها، خامسةً ..ظهرها، سادسةً.. ساقيها الملتفتين، سابعةً ..فأجد وجهي فقط و ظِلَّ الأهل.. حيفا أكبر من الكاميرا بكثير، والآن فقط و أنا أكتبُ هذا النص شعرت بأنها أكبر من الورقة أيضاً.
عكا أبسط الإلهات وأشرسها، وصلتها مستسلماً حاملا قبّعتي، مستعداً لرميها من فوق السور كما فعل نابليون، لكنها فاجأتني بضحكةٍ شقية جداً: تعال ياولد.. انتظرناكم طويلاً!
هكذا تعرف البلاد أبناءها، وتختار سكانها، وتنغلب لحين من الدهر، و تقوم. لم يتح الوقت لي سوى أن أدور حول عكّا، وأن أدخل سورها، وأنا أخبئ هزيمتنا بضحكة بلهاء، وأتسلل إليها وأشاغلها، كما يفعل الولد الراسب في امتحانٍ، أشاغلها كي لا تسألني عن علامتي فأظفر بصفعة، قدمتُ لها قطعة حلوى، ورحتُ ألعب على البحر مع أقراني، كبرتُ فجأة .. تطلعتُ إلى الناس وإلى شخير الأراجيل على شرفاتها قدّام البحر الجبّار، لم تسألني عن الامتحان فهي تعرف كل شيء، ولم تصفعني، و لكن الوقت صفعنا معاً، شدّني من يدي وكانت دموعي تغيِّرُ ملامحي، وملامح عكا صامدةٌ على المدى.
يافا هشّة، حيفا مستعلية، عكا قوية وشرسة، هذه هي إلهات الساحل الثلاث، أما غزّة فهي الإلهة الأبعد، الإلهة التي صبَّ عليها الله الصبرَ وأسبابه، وطهرها بالنار و بالورد و بالبرتقال.
"النزول من الكرمل" صعب جداً على الفلسطيني، لكنني نزلت عنه مهزوماً مرة أخرى، القدس.. الصلاة في الأقصى لمرة أخيرة قبل السفر، رام الله، شقة صديقي موسى ..وليل، أي ليل زَنِخٍ هذا الذي سيقود إلى صباح بلا وطن؟!
سأهاجر بعد ساعاتٍ.. بعد ساعاتٍ سأعود إلى المنافي كلّها، و سأجدها بانتظاري في المطارات، سأجدها تتلهف وتتأفف، أما البلادُ فلن يبقى معي منها سوى خيالات وصور!
ودعتُ في الصباح كلَّ شيء، وتناقشتُ مع موسى جرادات على الطريقة الأنسب لوداعه، فأخبرني أنه يفضل البقاء في العمل، دون أن يراني، فلبه أضعف بكثير من ملامحه الجبلية القوية، قال لي: يا سلطان أنا لا أطيق الوداع..
في الباص، في الطريق إلى أريحا، ثم إلى جسر الملك حسين، فكرت بكل شيء، بعلي الزهيري الذي سبقني إلى عمان، بحسن مريم الذي منعه الاحتلال من دخول البلاد، بأمي التي لم تقلق علي هذه المرة، رغم أنها تؤنبني في كل رحلة أرحلها، وتطالبني باتصال دائم، بأبي وملامحه المتعبة حين يرى مسحة كف البلاد على جبيني، بسلسلة الأجداد كلها، وبكل الناس الذين حللت بهم ومررت بهم. أنا ولد مقصّر جدا، قبل أن أخرج من البلاد قرأت اللافتة في " النقطة الإسرائيلية" :
" يمنع إخراج أي نوع من المزروعات
التمور منزوعة البذرة مسموحة فقط"
وانتبهتُ إلى الجندي الذي يسحب التصريح من يدي، هنا عدتُ لاجئاً مرة أخرى، هنا شعرتُ بالنصل من جديد يحزُّ داخلي كلّه، هنا لم يعد بمقدوري أن أرجع خطوة واحدةً إلى الوراء، هنا صار المكان و رائي، و صرت "خارج المكان" مجدداً.