''تحتاج الروح السيئة إلى جسم يتحلى بصحة جيدة'' (موراكامي)
حاول الروائي الياباني هاروكي موراكامي، حين بلوغه سنّ الثلاثين التوقف قليلا، بهدف بلورة حلٍّ مقبول لمعادلة وجودية عويصة للغاية، غير متاحة سوى لعتاة المكابدين الأقوياء، أصحاب الأمزجة النوعية؛ تتمثل في كيفية النجاح بخصوص المماهاة بين الجسدي والذهني، المادي والمعنوي، ساعيا لتحقيق المصالحة بين بوصلة الروح واندفاع الجسد، فكيف به قضاء ساعات طويلة على طاولة مكتبه قصد تدبيج صفحات متن روائي جديد، دون أن تتراكم الشحوم بين شرايين جسده، ويزداد حجم وزنه بكيفية مثيرة للتقزّز، وتترهل عضلاته، ويرتفع ضغطه من شدة الإجهاد، ويأخذ بطنه شكل بَالون، فتكتنفه دوامة أمراض تستنزف جسده وروحه معا قبل الأوان؟
هذا ما حدث بالضبط لموراكامي، فعندما قرر سنة 1982، إغلاق حانة الجاز في طوكيو التي امتلكها ود بَّر شؤونها صحبة زوجته، بعد اتخاذه قراره النيتشوي الجريء، قياسا لمسار حياته غاية ذلك اليوم، بالتحول نحو الانكباب على الكتابة والانصراف أساسا صوب الاهتمام بمشاريع أدبية دون غيرها.
في غضون يومياته المغايرة، أحس بأن كتلة وزنه تزداد ثقلا، وقدراته الحيوية ليست بالجيدة، لا سيما وأنه يجرّ خلفه على امتداد سنوات عمله الليلي في الحانة، تراكمات عادات سيئة، كالتدخين، وقد كان شَرِها بهذا الخصوص، بحيث دخن ثلاث علب من السجائر يوميا؛ بالضبط ستين سيجارة، إضافة إلى سيل من أقداح الكحول والسهر غاية بداية الصباح.
فجأة، قرر هوراكامي التوقف عن جلِّ ذلك، وتغيير نمط عيشه البوهيمي، بمائة وثمانين درجة، منتقلا إلى الضفة المقابلة المختلفة كليا، بعد أن شغل حواسه هاجس الكمال الفيزيائي بالتصالح حقا مع جسده. لحظتها، تبنى قراره الجذري الثاني، بعد إغلاقه حانته واحتراف الكتابة، ويكمن هذه المرة في إلحاح رغبته الشديدة على بعث قدراته الجسدية من رمادها حدَّ بلوغها ممكناتها القصوى، وجهة أبعد مدى لها، بحيث دأب على الركض يوميا، منذ سنوات الثمانينات غاية الفترة الحالية.
ورش ترسَّخ بكيفية موازية لمشروعه على مستوى الكتابة، مما أتاح لموراكامي الحامل بالتأكيد لجينات أجداده ساموراي، الجمع الأسطوري بين المتعارضين اللدودين لدى غالبية أهل الفكر، لا سيما الذين بلغوا شأنا كبيرا على مستوى الإنتاج الذهني، أقصد الانحياز الكلي إلى التركيز على العقل وعدم الاكتراث لاستيتيقا الجسد ؛ وكذا دواعي الثقافة البدنية.
المفارقة المذهلة، أن موراكامي أبدى إصرارا في غاية الإقدام والجرأة، كي يرتقي مدارج عالم الكتابة، فأنجز حقا تراكما نصيا مهما جدا، من خلال عناوين على شاكلة:
*اسمع صوت أغنية الريح (1987(
*بنبول 1973 (1985(
*مطاردة الخراف الجامحة (1982(
*أرض العجائب الحارة ونهاية العالم (1985(
*الغابة النرويجية (1987)
*رقص رقص رقص (1988(
*جنوب الحدود،غرب الشمس (1992(
*تاريخ العصفور الآلي (1994 – 1995)
*سبوتنيك الحبيبة (1999(
*كافكا على الشاطئ2002) )
*ما بعد الظلام (2004)
*إيتشي كيو هاتشي يون (2009 - 2010)
*تسكورو تازاكي عديم اللون وسنوات حجه (2013)
*مقتل قائد الفرسان(2017)
سلسة كتابات، أثارت انتباه نخب المؤسسات الثقافية الدولية، وكذا جماعات واسعة من القراء على امتداد جغرافية العالم، بوأته مرتبة الكاتب الأعلى تداولا في المكتبات، يقف المهتمون بإصداراته الجديدة ساعات ضمن طابور، من أجل الإسراع إلى اقتنائها قبل نفاذها. بل أكثر من هذا المعطى، ومثلما بات واضحا منذ فترة ليست بالقصيرة، اعتُبر اسم موراكامي مرشحا بامتياز قصد الحصول خلال أيِّ إعلان من طرف الأكاديمية السويدية على جائزة نوبل للآداب. متى تحقق تتويج كوني من هذا القبيل! سينضاف موراكامي إلى حلقة اليابانيين الثلاثة الذين نجحوا سابقا في تحقيق النجاح العظيم : ياسوناري كواباتا (نوبل سنة 1968)، كنزابوري أوي (نوبل سنة 1994)، كازو ايشيغوري (نوبل سنة 1917).
على منوال ذات القصد، فإن موراكامي الذي بدأ الركض بكيفية بسيطة ومتواضعة، في عهد متأخر نسبيا، تحديدا سن الثالثة والثلاثين، سينتقل فعلا خلال ظرف سنوات قصيرة إلى عدّاء محترف بالمعنى الحقيقي للكلمة. يشارك، باستمرار في مسابقات الماراثون (42 كلم) التي تنظم منافساتها هنا وهناك، بمعدل مسابقة واحدة سنويا، طيلة ثلاث وعشرين سنة. ثم، لأن مؤهلاته الجسدية تطورت جدا، بفضل انضباطه المقدس للتداريب، يخوض حاليا موراكامي الذي بلغ عقده السابع، تجربة رياضة الترياثلون التي تقتضي تفوقا مذهلا في السباحة والجري وركوب الدراجة الهوائية.
لكي يحقق موراكامي هذا العطاء الاستثنائي والفريد، في مجالي الكتابة والرياضة وفق ذات الإيقاع، التزم منذ بداية نقلته النوعية، بنظام صارم للغاية، أقرب إلى الأدبيات العسكرية أو يوميات الزهاد والناسكين والمتصوفة المنعزلين عن حياة البشر العادية، المنقطعين قلبا وقالبا لطقوسهم الخاصة، ومما أهله بسخاء إلى ذلك حبه للعزلة والانعزال.
يستيقظ عند الساعة الرابعة فجرا، ثم ينكب على الكتابة لمدة ست ساعات تقريبا، وحدها أنغام موسيقى الجاز التي يمتلك منها ستة آلاف أسطوانة أو مقاطع البيتلز، تداعب صمته إبان استلهامه عوالم الكتابة. بعد الظهر، يغادر منزله لركض مسافة لا تقل عن عشر كيلومترات، أي ما يقارب ستين كيلومترا في الأسبوع، أو يسبح لمسافة ألف وخمسمائة متر. أحيانا، يمارس النشاطين معا بكيفية متتالية.
يأوي إلى فراشه للنوم، بعد أن يقرأ قليلا، قبل الساعة العاشرة مساء، كي يعاود الكرَّة، مع أولى خيوط صبيحة اليوم التالي، حسب ذات الوتيرة الصارمة، ولا يتمرد على برنامجه الأسبوعي سوى يوما واحدا. يشرح طبيعة هذا الروتين المكابِد، بقوله: ''أحافظ على هذا الروتين يوميا بلا تغير. التكرار نفسه يصبح شيئا مهما، إنه نوع من التنويم المغناطيسي. أنوِّم نفسي مغناطيسيا لأدرك حالة ذهنية أعمق''. ويضيف: "حسب اعتقادي يجب أن أكون قويا جسديا، حتى أكتب أشياء قوية".
موراكامي الذي دَرَس الأدب الياباني في جامعة برينستون الأمريكية، اختار بعد أسفار كثيرة، الاستقرار رفقة زوجته القارئة الأولى لمسوداته، في جزيرة كاواي التابعة لأرخبيل هاواي، متأبطا حقيبته الرياضية وتتعقب خطاه قططه العشر.
أغلب تفاصيل رحلته مع الركض، التي انطلقت كممارسة عادية، كي ترتقي نتيجة شغفه إلى تجربة أنطولوجية فريدة من نوعها، استحقت فعلا روايتها في كتاب أشبه بسيرة ذاتية، أصدره هوراكامي سنة 2008، تحت عنوان: "ما أتحدث عنه عندما أتحدث عن الجري". وثيقة تضمنت ربما وصيته الأخيرة، بأن يكتب على شاهدة قبره التعريف التالي: "هنا يرقد كاتب وعدَّاء".