لكي نستوعب جيدا تباينات هذا التسامي الفَعَّال لا سيما الفارق الجذري بين التسامي الحركي المجرد ثم التسامي الديناميكي حقا، يلزمنا إدراك بأن الحركة التي نلاحظها من خلال النظرة ليست ديناميكية. بحيث تظل الحركة المرئية محض حركة مجردة. تتعقب النظرة الحركة بإفراط حتى تعلمنا كيفية أن نعيشها تماما، وباطنيا.
توجِّهنا رهانات الخيال النظري، وكذا الحدوس التي تتمِّم الصور المرئية، عكس التماهي الضروري. وحده الاستئناس بمادة يمكنه تحديد مشاركة فعالة حقا،نسميها طواعية استقراء، إذا لم يتناول المفهوم سلفا التحليل النفسي للاستدلال.
تتاح لنا إذن مع حياة الصور، إمكانية اختبار إرادة قيادية. فقط مع هذا الإثارة المادية والديناميكية، وكذا''استنتاج'' نتيجة علاقة حميمة بالواقع، يبرز وجودنا الخاص. نستوحي ذلك، عندما نرسي بيننا والأشياء تطابقا ماديا. مما يستدعي الولوج صوب المنطقة التي سماها حقا راوول أوباك ب ''الفضاء- النقيض''(1): "تضاهي تلك الغائية الفعلية لوسائط تقتضيها الضرورة الإجبارية للحاجات المباشرة، غائية أخرى شعرية يضمرها الجسد بقوة. ينبغي الاقتناع بأن موضوعا يمكنه تباعا تغيير دلالته وكيانه، حسب استلهام تلك الشعلة الشعرية، ثم استنزافها أو ادخارها''. بتسليطه الضوء على التعاكس بين الذات والموضوع، أوضح لنا راوول أوباك ''قَفَا الوجه'' ضمن صفحات العمل المعنون بـ: تمرين النقاء.
يبدو، بأنه اكتشف ثانية، نتيجة ذلك، تطابقا بين الفضاء ذي الأبعاد الثلاثة وهذا الفضاء الحميمي الذي سماه حقا جوي بوسكي: "فضاء بلا بعد''.
حين التمكن من تطبيق علم نفس الهواء اللانهائي، سنفهم بشكل أفضل كيفية انمحاء الأبعاد مع الهواء ونلامس بالتالي مادة بلا بعد، تقدم لنا انطباعا بخصوص تسامٍ حميمي مطلق.
تتجلى أمامنا إذن قيمة تماثل نوعي، المكسب المتأتي لنا عند انغماسنا بين طيات مادة خاصة بدل التشتُّت عبر أرجاء فضاء متباين. نلتمس في الآن ذاته، من الأشياء، وجل المواد المختلفة، وكذا ''العناصر"، زخم تحققها النوعي ثم مقدرتها الدقيقة على الصيرورة. وسنلتمس من الظواهر نصائح للتغيير، وكذا دروسا حول الحركة الجوهرية، باختصار فيزياء مسهبة حول الخيال الديناميكي.
بشكل خاص، تقدم لنا الظواهر الهوائية دروسا عامة جدا في غاية الأهمية حول الصعود، الارتقاء، وكذا التسامي. يلزم وضعها، ضمن المبادئ الأساسية لعلم نفس ننعته تلقائيا بعلم نفس الارتفاع. إذا امتلكت الدعوة إلى السفر الهوائي، مثلما يجدر بها، معنى الصعود، فسترتبط دائما بانطباع مفاده إحساس يشعر صاحبه بارتقاء خفيف.
سنتبيَّن إذن وجود حركة صور بالتناسب مع استئناس الخيال الديناميكي بالظواهر الهوائية، حينها ندرك تخفيفا للوزن، وانشراحا، ورشاقة. هكذا، تصبح حياة الارتفاع حقيقة حميمة. تجلي وجهة عموديَّة فعلية، في قلب الظواهر النفسية. إنها ليست مجازا بلا معنى؛ بل مبدأ ترتيب، قاعدة تدرُّج، وسلَّم نختبر على امتداده درجات حساسية خاصة. أخيرا، تمتلك حياة الروح، وكذا مختلف العواطف الرقيقة والمتحفظة، والطموحات، والمخاوف، والقوى الأخلاقية التي تستدعي مستقبلا، تفاضلا عموديا حسب تصور الرياضيات للمفهوم.
أكد برجسون في كتابه الفكر والمتحرِّك (ص 37)، بأن فكرة التفاضل عند ليبنيز أو بالأحرى فكرة نيوتون عن التدفق، مصدرها حدس فلسفي بخصوص التحول والحركة. نعتقد في إمكانية أن نحدد بامتياز تفاضل التقييم البشري، وبوسع الجناح العمودي المتجلي للغاية مساعدتنا على تحديد التطور النفسي الإنساني.
لكي ندرك حقا المشاعر المرهفة ضمن صيرورتها، ينصب بحسبنا أول استقصاء نحو تحديد مقياس تخفيفها لوزننا، أو على العكس من ذلك، وفق أيّ مقياس تجعله ثقيلا. إنَّ تفاضلها العمودي الإيجابي أو السلبي، يصمم بشكل أفضل فعاليتها، ومصيرها النفسي. بالتالي، نصيغ هذا المبدأ الأول للخيال المتعالي: من بين كل المجازات، تعتبر بديهية جدا مجازات الارتفاع، الارتقاء، العمق، الانحدار، السقوط. بحيث لا شيء يفسرها، بينما تفسر كل شيء. ببساطة شديدة: حينما نتوخى حقا أن نحياها، نحس بها، وخاصة مقارنتها، يتضح لنا بأنها تنطوي على سمة جوهرية، ثم هي أكثر طبيعية قياسا لغيرها. إنها أكثر إثارة حين مقارنتها مع باقي المجازات المرئية، وكذا أيّ صورة أخرى لافتة. مع ذلك، لا تلقى تشجيعا من طرف اللغة. فالأخيرة، تروِّضها الأشكال، ولا تدرك كيفية جعلها شيِّقة صور الارتفاع الديناميكية. مع أنها، تتميز بقوة نوعية: صور تحكم جدلية الحماسة والحزن.
التقييم العمودي أساسي جدا وصادق للغاية، تفوُّقه غير قابل للنقاش بحيث لا يمكن للفكر أن يحيد عن ذلك بمجرد اكتشافه له وفق معناه المباشر والفوري. يستحيل الاستغناء عن المحور العمودي للتعبير عن القيم الأخلاقية. عندما نفهم بشكل أفضل أهمية فيزياء الشعر والأخلاق، سنلامس لحظتها القناعة التالية: يعتبر كل تقييم عمودية.
طبيعيا، هناك سفر نحو الأسفل؛ بحيث يمثل السقوط، وقد تخلَّل كل مجاز أخلاقي، حقيقة نفسية على امتداد الساعات. تناولنا هذا السقوط النفسي كما لو أنه قسم يتعلق بالفيزياء الشعرية والأخلاقية. باستمرار، يتغير الجدول النفسي. تعكس الحيوية العامة- هذا المعطى الديناميكي المباشر جدا بالنسبة لكل وعي- جدولا بكيفية فورية.
حين ارتفاع منسوب الحيوية، تنتصب توّا قامة الإنسان. يصبح الوثوب الحيوي، إبان السفر نحو الأعالي وثوبا للأنسنة؛ بمعنى ثان، خلال مهمته للتسامي الاستدلالي، تتشكَّل داخلنا دروب السمو.
يخبرنا رامون غوميز دي لاسيرنا، بأن كل شيء يمثل داخل الإنسان دربا. ويلزمنا إضافة: يستدعي كل درب صعودا. الديناميكية الإيجابية للعمودية واضحة تماما بحيث يمكننا الإقرار بهذه الحكمة: من لا يصعد يسقط. الإنسان كإنسان لا يمكنه أن يحيا أفقيا. تمثل استراحته وكذا نومه في أغلب الأحيان، سقوطا. نادرا من ينامون خلال صعودهم. هؤلاء ينامون هوائيا، نوم بيرسي شيلي، بين طيات ثمالة القصيدة.
ستوضح لنا بسهولة النظرية المادية، مثلما طورتها الفلسفة البرجسونية، تلك الحكمة المتعلقة بأولوية التعالي. أيضا، بهذا الخصوص، قدم السيد إدوارد لي روي، مساهمات عديدة فيما يخص نظرية المادة لدى برجسون. لقد أوضح بأن العادة مثلت قصورا ذاتيا للصيرورة النفسية.
من وجهة نظرنا الخاصة جدا، تجسِّد العادة نقيضا دقيقا للخيال المبدع. فالصورة المألوفة تكبح القوى المتخيلة. تلك الصور التي ندرسها في الكتب، ثم يرعاها الأساتذة وينصب عليها اهتمامهم النقدي، تحاصر الخيال. تعتبر الصورة المختَزَلة إلى شكلها مفهوما شعريا؛ ترتبط خارجيا مع صور أخرى، كما الشأن بالنسبة إلى مفهومين.غالبا، تفتقد هذه الاستمرارية على مستوى الصور، التي يهتم بها كثيرا أستاذ البلاغة، استمرارية أخرى أعمق بوسعها وحدها بلورة الخيال المادي وكذا الديناميكي.
لم نخطئ إذن، حسب اعتقادنا، عندما حَدَّدنا العناصر الأربعة كهرمونات للخيال. تفعِّل مجموعات صور و تساعد على التمثل الباطني للواقع المتبعثر ضمن أشكاله. تتم من خلالها التآلفات الكبرى التي تمنح المتخيَّل سمات منتظمة شيئا ما. تحديدا، الهواء المتخيَّل بمثابة الهرمون الذي يسمو بنا نفسيا.
إذن، سنبذل قصارى جهدنا، عبر صفحات هذه الدراسة حول التحليل النفسي المتعالي، كي نقيس الصور حسب صعودها الممكن. سنحاول وَصْل الكلمات ذاتها، بالحد الأدني من الارتقاء الذي تثيره، مع الاقتناع تماما، بأنه إذا عاش الإنسان صدقا صوره وكلماته، ستتأتى له جراء ذلك فائدة أنطولوجية خاصة.
يبدو لنا في الواقع، بأن الخيال الذي يتحقق زمانيا نتيجة الفعل، يعتبر بامتياز مَلَكة للأنسنة. عموما،يمثل اختبار صور استثنائية، المهمة الوحيدة التي تناسب قوانا. أيضا، سيكون دائما بناء على المظهر التفاضلي، وليس التكاملي، تقديمنا لأبحاث ذات تحديد عمودي. بمعنى ثان، نقف بدراساتنا عند شذرات مقتضبة جدا عن المنحى العمودي.
لا نتوخى قط اختبار السعادة المطلقة المتأتية من تسامٍ كامل ينتقل بنا نحو عالم جديد. بل، تتطلع منهجيتنا كي تقارب ضمن خاصيتها النوعية السمة الحيوية لتطلعات خفيفة، لا يمكنها أن تضلِّل مادامت خفيفة، تتداخل مع كلمات تمتلك داخلنا حدوثا فوريا، كلمات تواقة، تجعلنا نكتشف بغتة فكرة جديدة، استعادت فتوتها، فكرة حية، تغدو بالنسبة إلينا مثل صنيع جديد. ألا تمثل اللفظة أول غبطة؟ ينطوي الكلام على طاقة حيوية عندما يأمل. في المقابل، سيعيش اضطرابا إذا انتابه الفزع. هنا، وليس بعيدا، بالقرب جدا من كلمة شعرية، وكذا كلمة تتخيل، يلزمنا العثور على تفاضل للارتقاء النفسي.
إذا بدا علينا أحيانا أننا ننزوي إلى صور مفرطة في اللامادية، فسنطلب من القارئ منحنا ثقته. صور الهواء في طريقها وجهة كونها صورا تجرَّدت عن المظهر المادي. لذلك، تكتنفنا غالبا صعوبة، إيجاد المقياس الصائب، بهدف تحديد صور الهواء: صورة مفرطة في المادة أو فقط قليلا منها، هكذا تبقى جامدة أو تغدو عابرة، وجهان مختلفان يجعلان منها عديمة الفائدة.
أيضا، تتدخل عوامل شخصية فتؤدي إلى ميل الميزان نحو هذه الجهة أو تلك. لكن الأساسي بالنسبة إلينا، تبيان التدخل الضروري لعنصر وزني بخصوص قضية الخيال الديناميكي. نتوخى إظهار ضرورة قياس مختلف الكلمات، بالمعنى الخاص للمفهوم، من خلال وزن النفسية التي تحرِّضها الكلمات. يستحيل، أن ننجز بهذا الخصوص تحليلا نفسيا مفصَّلا دون نوع من الإسهاب. حينما نرصد مختلف سمات ذلك، يمكننا حينئذ وضع تصميم ثانٍ على ضوء الحقيقة الواقعية.
هوامش :
*مصدر المقالة :
Gaston Bachelard : l' air et les songes ;1943.PP :18 -22.
(1)راوول أوباك : الفضاء- النقيض.رسائل،1942،دفتر رقم 1 .