يبدو أن عقد مركزيّ المنظمة بات مؤكدًا، دون اكتراث للمخاطر التي أشار إليها أكثر من رأي، الأمر الذي يظهر هذه المسألة وكأنها استحقاق للمهيمنين على المشهد العام في رسم ملامح المرحلة القادمة وما تحمله من تحولات تبدو قاتمة، وليس أقلها تفكيك الطابع الائتلافي لمنظمة التحرير وإهالة التراب على مكانتها الجامعة ودورها في صون الوحدة الوطنية، والأهم مبرر بقائها كقائدة لمرحلة التحرر الوطني، بعد تهميشها طوال سنوات نشأة السلطة، إلى أن أصبحت تنفيذيتها مجرد هيئة استشارية "غير كفؤة أو متخصصة" لرئيسها. فما جرى منذ انعقاد المجلس الوطني لم يكن سوى تفريغًا كاملًا لدورها على مختلف الأصعدة وعدم الامتثال لأي من قرارات هيئاتها، وبهذا الإصرار على انعقاد "مركزيّ المولاة" تُستكمل هذه العملية واقعيًا بإلغاء المجلس الوطني. ذلك كله يجري في ظل إدارة ظهر للرأي العام غير المكترث أساسًا بأحوال المنظمة، والحركة الوطنية التي تمثلها، كما يتم إشغاله بقضايا معيشته التي تتدهور يومًا بعد الآخر.
في الحقيقة، إن عقد "مجلس الموالاة" لن يكون الوجه الوحيد للأزمة المتفاقمة، من حيث إحكام القبضة على مركز صنع القرار وتهميش دور الأغلبية الشعبية في العملية الوطنية؛ بقدر ما هو أحد تجلياتها الأخطر، سيما ما يوفره من ثغرات قانونية تحدثت عنها في مقال سابق، والتي تصل حد القطع مع المجلس الوطني كمرجعية عليا لمنظمة التحرير ومكانة أعضائه، مقارنة بالمجلس المركزي. الأمر الذي سيفتح أبواب الصراع على الشرعية على مصراعيه، وهنا سيكون مقتل منظمة التحرير والفخ الذي ينصب لمستقبلها.
قد يقول البعض أن هذه ليست المرة الأولى التي يجري فيها مثل هذا الفرز والاستقطاب ومخاطر الانشقاق؛ حيث سبق وتشكلت جبهة الرفض، وتحالف القوى العشر وكان مصيرها الفشل. كان ذلك يحدث في ظل إصرار قوى المنظمة ورئاسة الوطني على الالتزام باللوائح والقوانين التي تنظم عملها، وفي ظل مكانة المنظمة العليا في ضمير ووجدان الفلسطينيين، الذين التفوا حول المنظمة في الوطن باعتبارها عنوانًا لوحدتهم، وقائدة لنضالهم الوطني وممثلّا شرعيًا وحيدًا لهم. وكذلك في الشتات حيث كانت مركزًا للدفاع عن مصالحهم و أملهم بالعودة. أما اليوم، فهذا الواقع قد تغير، ويكاد دور ومكانة المنظمة لا يُلحظان، سيما في ظل فشل برنامجها السياسي للتسوية، وإصرار المتنفذين والمهيمنين على قرارها، على رفض إجراء أي مراجعة لهذا المسار، الذي يكاد يعصف بالحقوق الوطنية وبقدرة الناس على الصمود والبقاء في مواجهة التغول والعدوانية التي يمارسها تحالف جيش الاحتلال ومستوطنيه الإرهابيين ضد شعبنا وأرضه وكل مصادر رزقه وحياته. وظيفة مثل هذه المراجعة تتمثل أساسًا في الإقلاع عن سياسات الإقصاء والهيمنة والتفرد واستعادة الطابع الائتلافي الذي يُعيد للواجهة مركزية الوحدة الوطنية كقانون أساس لمرحلة التحرر الوطني، التي للأسف يجري تغييبها بالكامل عن وظيفة وبُنية النظام السياسي ومضمون أهدافه الوطنية وارتباط ذلك بمتطلبات البناء الديمقراطي ومكانة المواطن والشعب في هذه العملية بمجملها، وبما يشمل أي حكومة نحتاج.
لن يغيب عن البال أن مشروع حركة حماس للسيطرة على التمثيل الفلسطيني كبديل لمنظمة التحرير لم يختفِ يومًا، بل كان يتراجع أو يتقدم بالقدر الذي يكون واقع ومكانة المنظمة في أوساط التجمعات الفلسطينية والقطاعات الشعبية ودورها الكفاحي متقدمًا أو متراجعًا. وبالتأكيد فإن واقع ومكانة المنظمة الراهنين، بما في ذلك ما يجري من إصرار وتمادي لتفكيك بنيتها المتقادمة، بديلًا عن التجديد الديمقراطي لهذه البنية كي تستعيد مكانتها الشعبية ودورها الوطني أولًا، وتقطع الطريق على كل من يحاول المسّ بشرعيتها الإقليمية والدولية ثانيًا. الأمر الذي يفتح شهية حماس، ومن يدور في فلكها، لاستكمال مشروعها، وهذه المرة من خلال احتمال خطر الانزلاق نحو مجلس وطني "بديل أو إنقاذي" فذلك سيان. والخطير أن عوامل الصراع على الشرعية باتت أكثر نضجًا، خاصة في ظل استمرار قيادة المنظمة على مصادرة حق الانتخابات التشريعية والرئاسية وللمجلس الوطني في الوقت ذاته. أكثر من ذلك فإن تركيبة المجلس المركزي الجديد، وتأكيدًا على ضمان الموالاة، قد ألغت عضوية رؤساء لجان التشريعي التي ظلت قائمة حتى الإعلان عن حلّه، وإسقاط عضوية رؤساء لجانه من عضوية المركزي ليصبح مجلس اللون الواحد. أليس هذا سببًا، أو لنقل حجة إضافية، للقوى التي ما زالت خارج المنظمة للاندفاع نحو مشروعها الأساسي بإنشاء تشكيلات بديلة؟
من الواضح تمامًا أن هذا المشهد الاستقطابي سيُعمّق حالة الانقسام، وستكون شرعية أطرافه مرتبطة تمامًا في بازار الابتزاز الاسرائيلي لانتزاع المزيد من التنازلات التي تضع القضية الوطنية في خطر جدي، الأمر الذي يطرح علينا جميعًا، ومجددًا، سؤال ما العمل للخروج من هذه الحفرة الجهنمية التي حفرناها بأيدينا؟ فهل ما زال هناك متسع لإصلاح النظام السياسي في إطار المنظمة والسلطة، هل هناك فرصة لوقف الانقسام والعودة لإرادة الشعب، هل هناك إمكانية لنهوض وطني جدي يرتكز على تيار وطني ديمقراطي علماني عريض يعيد بناء الحركة الوطنية ومؤسساتها الوطنية الجامعة؟ وما هو برنامج وبُنية هكذا تيار ومن هي قواه الاجتماعية المحركة وأدواته الكفاحية ومكانة المواطن وحقوق الإنسان في أولويات عمله؟ وقبل ذلك لماذا أُجهضت كل المحاولات التي كانت تتلمس الطريق نحو مثل هذا التيار وكيف يمكن إعادة بناء الأمل مجددًا بإمكانية نجاح مثل هذه المبادرات؟ هذا ما يتطلب فتح نقاش علني محترم وشفاف، حوله وحول غيره من القضايا التي تهم الناس وتحفزهم على المشاركة، وليس دفعهم إلى قارعة الطريق والمضي في تدمير مقومات صمودهم، وتخريب مؤسسات المجتمع كما يجري في جامعة بيرزيت هذه الأيام دون اكتراث حقيقي من حكومة السلطة أو المنظمة، أو كما جرى ويجري في العديد من قضايا انتهاك الحريات وحقوق الإنسان، والتمادي غير المسبوق في قضايا الفساد.