قضية الشيخ جراح واحدة من قضايا الصراع المركزية في الصراع مع المحتل في وحول حسم السيادة على مدينة القدس، والتي يسعى المحتل للسيطرة والإجهاز عليها، في إطار الخطة الممنهجة لحكومة وبلدية الاحتلال، لإقامة قوس من الكتل الاستيطانية، يربط البؤر الاستيطانية في تلك المنطقة الممتدة من حي جورة النقاع كبانية أم هارون إلى حي الشيخ جراح الشرقي كرم الجاعوني ومن ثم أرض مشتل فخار السلام التي جرى تجريفها والاستيلاء عليها، مع بيتي محمود صالحية وشقيقته اللذين جرى هدمهما في تلك المنطقة، وبما يؤمن الربط والتواصل بين كل البؤر الاستيطانية هناك، مع قصر المفتي الذي سيتحول إلى كنيس يهودي ضخم بعد السيطرة عليه، و"فندق شبرد" الذي أقيم مكانه بؤرة استيطانية، يجري توسيع وحداتها من 28 وحدة إلى 56 وحدة استيطانية، ويتجه هذا المشروع صوب مبنى وزارة داخلية الاحتلال في واد الجوز، حيث مشروع واد السيلكون، والمستهدف تجريف وهدم حوالي 200 ورشة وكراج لتصليح السيارات ومحلات تجارية، ومن ثم الذهاب باتجاه مشفى "هداسا" الشرقية، والجامعة العبرية، حيث سيكون هناك عدد من المشاريع الاستيطانية وإسكانات لطلبة الجامعة العبرية، بعد مصادرة 111 دونماً من أراضي قرية العيسوية.. أما من الجهة الغربية، فسيتم وصل البؤر الاستيطانية مع شارع رقم "1" ومحو الخط الفاصل بين القدس بقسميها الشرقي والغربي.
المحتل يعتمد مع المقدسيين في إطار الحرب الشاملة التي يشنها عليهم، خطة واستراتيجية ممنهجتين تقومان على الإنهاك وتشتيت الجهد، بحيث ينقلهم من معركة إلى أخرى، أو أكثر من معركة في آن واحد، معركة الطرد والتهجير القسري والتطهير العرقي، مع معركة "مجازر" الحجر واللتان تلتقيان وتصبان في نفس الهدف، تغيير الواقعين الجغرافي والديمغرافي في المدينة لصالح المستوطنين، وتثبيت رواية يهودية تلمودية توراتية مصطنعة على حساب الرواية الحقيقة لأهل وسكان المدينة الأصليين.
ضمن هذه الاستراتيجية واستفادة من دروس هبة الشيخ جراح الأولى، هبة "كرم الجاعوني"، والتي تحولت بفعل الاشتباك الشعبي الواسع والمتواصل ونجاح المعركة الإعلامية في اختراق الفضائين الإعلامي والثقافي العالمي، عبر نشطاء وسائل التواصل الاجتماعي والصفحات الإلكترونية، في تحويل قضية الشيخ جراح إلى قضية عالمية، فضحت وعرت دولة الاحتلال كدولة فصل عنصري، تمارس سياسات "الأبارتهايد" والتطهير العرقي، كما عبرت عن ذلك مؤخراً الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية "أمنستي" "انياس كالامار"، تلك السياسة المعبر عنها في الاستيلاء على مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية، القتل خارج القانون، تشديد القيود على التنقل والحركة، هدم وتجريف المنازل، منع منح حقوق الإقامة والمواطنة.
الاحتلال بدأ بالتعامل مع قضية الشيخ جراح وغيرها من قضايا مدينة القدس، ضمن ما يعرف بسياسة القضم التدريجي، بهدف إجهاض وإنهاك المقدسيين وتشتيت جهدهم، ومنع حصول اشتباك شعبي واسع ومتواصل، عبر منع إقامة أي خيمة تضامن واعتصام، أو اعتصامات وتجمعات مفتوحه، وبما يقلل من حجم ردود الفعل الدولية وإدانتها لما يجري ويرتكب من أعمال قمعية وتنكيلية وطرد وتهجير، ترتقي إلى مستوى جرائم الحرب.
ومن هنا شهدنا عدة عمليات قامت بها حكومة وبلدية الاحتلال لحسم الصراع في تلك المنطقة بأقل الخسائر وردود الفعل، وبما يمنع من تنامي وتصاعد حالة الغضب والاحتقان المقدسي إلى حد انفجار "المرجل" المقدسي الذي هو في حالة غليان إلى هبة أو انتفاضة شعبية شاملة، تتجاوز حدود مدينة القدس، هذا حدث في الاستيلاء على قطعة أرض مساحتها 4 دونمات وسبعمائة متر في مدخل حي الشيخ جراح الشرقي، من أجل تحويلها كموقف لحافلات وسيارات المستوطنين القادمين لزيارة ما يعرف بقبر " شمعون الصديق"، ولكي يكونوا رأس الحربة في الضغط على واستفزاز سكان "كرم الجاعوني" المهددة منازلهم بالاستيلاء عليها، وأعقب ذلك محاولة جس نبض وقياس ردة الفعل، بمحاولة السيطرة على بيت المسنة فاطمة السالم في القسم الغربي من حي الشيخ جراح، وقطعة الأرض أمامه، ومع فشل عملية السيطرة، ذهبوا مباشرة متسلحين بحجة وذريع خادعة ومضللة، لا تثير الرأي العام العالمي ضدهم، ألا وهي أنهم يريدون بناء مدارس للسكان العرب في تلك المنطقة، بالسيطرة على أرض مشتل "فخار السلام" وهدم بيتي محمود صالحية وشقيقته هناك، وبما يمنع من اشتباك شعبي واسع عبر إغلاق المنطقة ويسد ويقطع الطريق على ردود الفعل العالمية، أما ردود فعل أمة "هلا بالخميس"، فهي ليست بالحسبان، حيث ذهبت أغلب دول النظام الرسمي العربي المتعفن والمنهار، نحو تطبيع علاقاته مع دولة الاحتلال، وذهب البعض منها إلى ما هو أبعد من ذلك بإقامة علاقات وتحالفات أمنية وعسكرية استراتيجية معها، ولتصل الأمور حد توقيع معاهدات واتفاقيات دفاع عسكري وأمني مشتركة، كما هو الحال مع المغرب والبحرين.
ولذلك ما جرى منذ ثلاثة أيام في حي الشيخ جراح الغربي "جورة النقاع" من نقل لمكتب المتطرف ايتمار بنت غفير لمكتبه إلى تلك المنطقة ودعوة زعرانه وبلطجيته من المستوطنين إلى تلك المنطقة، وممارسة العربدة والبلطجة بحق سكان أهالي الحي والاعتداء عليهم، ومحاولة السيطرة على بيت المسنة فاطمة السالم والاستيلاء على قطعة الأرض التي أمامها، أتت لمعرفة وقياس ردة الفعل الشعبية المقدسية، والتي أكدت جماهيرها أنها تمتلك مخزونا نضالي لا ينضب، وخاصة بين أوساط ما بعد بعد كارثة أوسلو، والذين يؤكدون أنهم الطليعة في الجرأة وكسر حاجز الخوف والتصدي لزعران بن غفير وباروخ مارزيل وغيرهم من غلاة المتطرفين من المستوطنين.
هي جولة من الجولات و"بروفا" نحو جولات أوسع وأشمل، وربما تكون أكثر خطورة، ولذلك فالمواجهات والمعارك القادمة، تحتاج إلى رسم خطط ورؤى واستراتيجيات فلسطينية شمولية، لكيفية مواجهة مشاريع ومخططات الاحتلال الاستيطانية التهويدية في المدينة، بعيداً عن ردات الفعل والجّيشين العاطفي والمشاعري.. وكل القوى الفلسطينية عليها هي الأخرى أن تأخذ دورها في معارك حماية الوجود المقدسي في المدينة، وهي تعرف الدور الملقى عليها بعيداً عن لغة الشعار والبيان.