ربحت الولايات المتحدة معركتها في هذه المحطة. لقد تمكن بايدن العجوز تلميذ أوباما الشاب من جر الدب الروسي إلى حرب عبثية في أوكرانيا. ولا بد أن ثمار الحرب قد بدأت تتساقط في حجره قبل بدء الحرب بأيام. جمدت ألمانيا خط الغاز، و"اضطرت" أوروبا إلى الاصطفاف دون قيد أو شرط وراء الزعيم الأمريكي. بل إن بلداً صغيراً ومشاكساً ومدللأ يسمى إسرائيل قد وجد نفسه عاجزاً عن مواجهة التيار الجارف فأعلن وقوفه الحازم إلى جانب أوكرانيا على الرغم من أن ذلك قد يكلفه الكثير في حال غضب الدب الروسي وقرر أن يغير سياسته الناعمة تجاه الكيان العبري فيما يتصل بلبنان وسورية وفلسطين ذاتها.
على الرغم من ذلك نظن أن الصراع مع روسيا ليس إلا واجهة لما عبر عنه أوباما وترامب وبايدن نفسه مراراً وتكراراً. بل إن جوهر الصراع هو ما عبرت عنه هارفارد وبرنستون وكولومبيا وستانفورد وبيركلي منذ عقدين من الزمن: إن الخطر الذي تواجهه الولايات المتحدة بوصفهاً البلد المهيمن الوحيد منذ العام 1945 إنما يأتي من الصين. ولا بد من إيقاف التنين الصيني بأي ثمن. لكن الصين بحكمة وهدوء كلاسيكي معروف تواصل ألعاب الصعود بصبر لا ينفد.
نتذكر في هذا السياق الحرب الكبرى سنة 1914 ومراقبة الولايات المتحدة للصراع دون أن تحرك أصبعاً. ونتذكر العقدين التاليين اللذين شهدا تصعيداً هائلاً بين الدول الأوروبية. بدا وكأن بريطانيا تواجه تحدياً لهيمنتها من جهة ألمانيا. لكن بمجرد أن انجلا غبار الحرب الكبرى الثانية اتضح أن الحرب كانت في حقيقتها حرباً على خلافة بريطانيا. وبمجرد أن انتهى توقيع عقد استسلام ألمانيا، كان رئيس وزراء بريطانيا قد انتقل إلى دور التابع الصغير لوزير الخارجية الأمريكي. وفي السياق ذاته أصبح بلد بلد بمقدرات صغيرة نسبياً اسمه الاتحاد السوفييتي أكثر أهمية من بريطانيا في لمحة بصر.
الحرب الراهنة لن تربحها روسيا استراتيجياً حتى لو ربحتها على نحو كامل في ميدان المعركة. ما الذي سيجري في نهاية المطاف؟ تستقل جمهوريتا دونتسيك ولوغانسك عن أوكرانيا وتتحولان إلى مناطق نفوذ لروسيا؟ يسقط الحكم الموالي للغرب في كييف؟ ربما، وهذا أكبر ما يمكن أن تطمح إليه روسيا، لكن أوكرانيا ذاتها كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي مدة سبعين عاماً، ولم يؤثر ذلك في الصراع مع الغرب كثيراً أو قليلًاً. ولا بد أننا نعرف أن الولايات المتحدة كانت تهيمن على العالم هيمنة مطلقة وصلت إلى التحكم في سبعين في المئة من الناتج الكوني في السلع المختلفة، وكانت تسيطر على العلم والتقنية على نحو مطلق. من ناحية أخرى تظل الولايات المتحدة خاسرة جوهرياً حتى عندما "تربح" تشديد الخناق الاقتصادي على روسيا، لأن صورتها ستنهز تماماً بوصفها البلد المهيمن الذي لم يعد قادراً على تنفيذ هيمنته في أي مكان بعد فشله في فرض شروطه في سورية على سبيل المثال، وفشله في أزمة القرم 2014 وأخيراً فشله الراهن، إن حصل، في "حماية" أوكرانيا من الدب الروسي. وإضافة إلى هذا كله فإن الولايات المتحدة ستظل مشوشة تماماً ومنهمكة في المواجهة مع روسيا بما يسمح لبكين بتوسيع نشاطها في محيطها المباشر، وتعزيز حضورها وقبضتها في ساحات أخرى عالمية مثل إفريقية وأمريكا اللاتينية من بين مناطق أخرى.
هكذا تواجه الولايات المتحدة التحدي الحقيقي الأول من نوعه الذي تمثله الصين الصاعدة دون توقف. سوف يسعد الولايات المتحدة انجرار الصين إلى الصراع الحالي لعل ذلك يضغط على مواردها من ناحية، ويهز صورتها المسالمة من ناحية أخرى، مما قد يقود إلى ضرب التجارة الصينية مع العالم ككل ومع أوروبا على نحو خاص.
لكن الصين الذكية تسعى في هذه اللحظة إلى المحافظة على الحياد المسالم: الدعوة إلى ضبط النفس، والبحث عن حل سلمي للنزاع، واحترام استقلال أوكرانيا، واحترام مخاوف روسيا الأمنية فيما يتصل بوصول حلف الأطلسي إلى حدودها عن طريق الحكومة الموالية في كييف...الخ. من ناحية أخرى تبدو الصين صريحة في تحديد طبيعة الدور الأمريكي في الصراع، وفي هذا السياق اتهمت بكين أمريكا بصب الزيت على النار في أوكرانيا، والسعي المحموم لتفجير الأوضاع مع إرسال المزيد من الأسلحة والتهييج الإعلامي والدبلوماسي على حد سواء.
وقفت الصين على "الحياد" في أزمة شبه جزيرة القرم سنة 2014 وهذا على الأرجح ما سيحدث في الأزمة الحالية. الصين تدرك بطبيعة الحال أن روسيا لن تتعرض إلى أية مخاطر في سياق المواجهة الحالية باستثناء العقوبات الاقتصادية الموجعة دون شك. وفي هذا المجال لا بد أن الصين ستتمكن لاحقاً من تقديم يد العون بدرجة أو بأخرى عندما تسوء الأوضاع في روسيا. كما أنها ستستفيد من حالة الانفتاح المتواصلة على العالم لجني المزيد من الأرباح التي ستمكنها من دعم الحلفاء وردع الخصوم والمنافسين. ولسنا نجانب الصواب كثيراً إذا قلنا إن النظرة الاستراتيجية الصينية الحالية قد لا ترغب كثيراً في رؤية دولة روسية قوية جداً يمكن أن تكون عاملاً معوقاً في وجه الصعود الصيني المتواصل باتجاه قيادة العالم وإزاحة المهيمن الأمريكي عن عرشه.