بقلم: أنور الخطيب
منذ التقينا على الهواء مباشرة عبر أثير صوت فلسطين قبل عامين تقريبا، والإعلامي الشاعر الجميل أحمد زكارنة يسعى بكل الوسائل (المشروعة)، لترتيب زيارة لي إلى فلسطين، وليس (العودة) إليها، حتى ظننته رئيس اتحاد الكتاب الفلسطينيين، أو وكيل وزارة الإعلام الفلسطينية، أو مسؤول لمّ شمل المبدعين الفلسطينيين، ففرحته كانت تفوق فرحتي كلما لاحت في أفق الوطن المأسور فرصة أو بصيص أمل، فرحته تفوق فرحتي لأنه كما كتب صديقنا الشاعر الفلسطيني المقيم في الأردن محمود مرزوق: (تُصبحُ الأوطانُ أضيقَ عليكَ كلّما كبُرَ عمركَ وقَصُرتْ خطواتُك).
ولا يزال صديقي أحمد يسعى بين الغربة والوطن، ويطوف على المؤسسات والاتحادات والوزارات والمتاحف، حتى يطعمني الله (حجاً مبرورا وسعيا مشكورا) لوطن أرسمه على كفّي، واسرب نبضه عبر الشرايين لكل من أصافحه. ويبدو أن مساعيه ستتكلل بالنجاح، فقبل أيام قليلة طرق باب فضائي الإلكتروني وزف لي بُشرى إمكانية تحقيق الأمنية فـ(أحرمت)، وبدأت أجري تدريبات لأعصابي وأنا أقف أمام رجل الحدود الصهيوني، وتدريبات لقلبي كي لا يخذلني حين يفاجؤه أوكسجين فلسطين، وأدرب عينيّ على احتباس الغصة حين أخطو الخطوة الأولى، وأحافظ على رزانتي وأنا أسير في شوارع المدن والقرى والأزقة، فلا أنصب (دبكة) مع عابري الطريق واصحاب الدكاكين وتلاميذ المدارس والفلاحين وشرطة وطني وعمال البناء وقاطفي الزيتون، ولا أعانق من أعرف ومن لا أعرف، لكنني لم أدرب نفسي حتى الآن على الصمود حين أزور قريتي “شعب” في قضاء عكا، ولا أبكي كالأطفال على صدور أبناء وبنات (خالاتي وأخوالي)، فأنا ليس لي (أعمام)، فقد عاش أبي ورحل وحيدا، لكنني سأستعيد خريطة الأرض التي تركتها جدتي، وعروق الزيتون وأمكنتها وأعدادها، وسأقف في المكان ذاته الذي وقفت فيه أمي تنظر إلى بيتها الذي مر على فراقها له في ذلك الوقت أكثر من خمسة وثلاثين عاما، والذي تحول إلى ركام، داهمتها صورتها وهي صبية.. فأغمي عليها.
قلت بأنني أحرمت وبدأت تدريباتي النفسية والجسدية، ولكنني بيني وبين نفسي كنت أحيك مؤامرة على ذاتي، وسأخذلها عامدا متعمّدا ومتناسياً كل التدريبات والاستعدادات، ولا أعلم إلى أي مدى يمكن أن أعتقل ساقيّ وأعرقل جنونها فوق الطرقات، ولست أدري إن كان باستطاعتي النوم بعد هذه اليقظة الطويلة، لأنني حتما سأكون كرجل وُلد في سجن انفرادي معتم، وقضى فيه ستين عاما، ووُضع في الضوء فجأة. أتساءل الآن إن كان سينبت لي جناحان في تلك اللحظة المقدسة، وأتساءل عن المدة التي سأبقى فيها (محرما)، وتنهال التساؤلات حتى تصل إلى قصيدة كتبتها حين بشّرني صديقي أحمد لأول مرة (بالجنة)، فكتبت له:
(هل قلت لي يا صديقي.. سيحملني الله إليها ثم يحملها إلي.. وسنلتقي ذات دمعة في الطريق المؤدي
إلى رحمها..!)..
ثم كتبت له ضمن قصيدة طويلة نشرتها في ديواني الجديد (لست الذي في المرايا) وأهديتها له بالطبع لحفظ حقه في الدعوة، وحقي في العودة:
(هل تعلم ماذا فعلت؟ خطّت أنامل صوتك أغنية بحبر النجوم، وإني.. مذ رأيتك أسمع صوت ارتطام عيني بسور عكا..وأشهد انفلات قلبي إلى حدائق الله في رام الله.. وترقص الروح كآيةٍ في ساح “أقصاه”،
وأرقب ارتجاف يديّ أمي وهي تزيح الغبار عن صباها في “شعب”..وأدفعني، ألملم الحزن عن قبريّ أخي وأبي..كأنني الآن أنهي عذابات المسيح..أعيد موتانا إلى أرزاقهم في كروم العنب..)
وقلت له أيضا كأن الأمر بيده لا بيد (عمر):
(سآتي إذن.. فلا تخذل جنون عاشق.. ولا تُيتّم حلمَ شاعرٍ يكتب الليل بما تبقى من نهار.. لا تضيّق خطو غريبٍ يدرّب ظهره في المحطات على خلع الحقيبة..أنا يا صاحبي ممتلئ بالخطايا..ولي قامة مثقلة بالجروح تعجز في طقوس تمدّدها..ولي روح كلّما أنبتت نجمةً هدّدها الليل بضمّها إليه.. ولست أملك شرفة اشرب فيها قهوتي أو أمنح نجمتي حق اللجوء.. أو أقيم مأدبة للغرباء مثلي.. أنا يا صاحبي، لم أنم ليليتين على سرير واحد.. فلا وطنٌ يوحدني ولا أنا أتوحّد..هل قلتَ لي..سيحملني الله إليها وقد.. لا يحملني! هل قلتَ سأبقى أسير على الماء مثل ظلي الشقيِّ..في انتظار موجة من ساحل القلب
ونسمة من شاهق تتمرّد..؟ أنا الآن مضيء على كف الإله..صاهلٌ في رحم أمي..راقصٌ في ساحة الأصدقاء.. راعفٌ بليل الحبيبة..أمشي على درب نازحين أستعيد فوضى الحياة والموت..حبلَ سرةٍ جافٍ عالقٍ بجذع زيتونة، لن أهزَّها..وُلدتُ وانتهى أمر الخليقة لكن ما انتهى خلقي.. سأبقى هنا، في رئة العمر أضيف ملمحا لملامحي..وبعضَ عمرٍ لعمري.. سأبقى على كتف البلاد أسندُ رأسي الثقيلَ ولو مرةً على كتِفٍ يحتويني.. سأبقى هنا.. في ارتباك المعابر.. في ابتسامتي لعدوّي وهو عابس لعودتي..
في عيون الفراشات اللواتي احتضنّ أجنحتي..في دمعِ كلِّ من قابلته وسيودّعني.. في تلعثم الوجوه المسنّة التي سألتني: (ابن من أنت يا بنيّ؟ ابن “حاجّة” أو “نجيبة” أو “صفية” أو “مريم” أو “حليمة”!)..وكدت اصرخ: ابنهن جميعا..سأبقى هنا، في عيون صديقي الذي ارتكب الخطيئة.. إذ أعادني إليّ.. وأنا هنا غير أنا هناك.. كالفرق بين أن تكون حنونا وبين أن تكون الهلاك.. والحنون يدمن المكوث في رحمه وأما الهلاك.. فيكثر طرح أسئلةٍ في رُكب الروح... فمعذرة يا صديقي إن اخترت إدمان مكوثي.. وهربت من ضيافتك.. وسلّمت نفسي للتعب.. وأعني، للعدالة في “شعب”..)
ووعدت صديقي أحمد أن تكون هذه القصيدة أول ما سأقرأ لو رزقني الله (الحج) هذا العام.
صديقي أحمد: لا تدعني أطيل (إحرامي)، فأنا لا أحب القماش الأبيض، يذكرني بالاستسلام، و ا ل م و ت