كان أبي قبلَ أن يغرق في الحُلُم
فسيحاً كالموسيقى،
يُعطي الذكرى بلا مقابلٍ،
يهزمُ جزيرةً كاملةً من الأشواك
في يومٍ بلا تاريخ.
كان الطلقة الأولى للحب في بلادٍ
لا أحد فيها يُحبُّ أحداً.
*****
كلما وقفت أمام قبر أبي متأملةً في تفاصيل التربة المحيطةِ به وتغطيه، وتفحصتُ الحجارة التي تلتف كقلوب صغيرة حوله، تستعيدُ حواسي حياتها، فأرى ما أراهُ كأنما لا أراه أو له بُعدٌ آخر، فالتربةُ لونها مختلف، أقربُ لأن تكون ذهبيةً، والحجارةُ تبدو مصقولةً بشكل ملفتٍ وكأنما تضيء لتصبح قادرة على عكس وجه والدي وابتسامته، ولا أفهم كيف تعكس هذه الحجارةُ وجه والدي. تنتابني مشاعرُ من الهلوسةِ بأني لو التفتُ خلفي سأرى أبي واقفاً هناك ليلفتَ انتباهي إلى أني أبحثُ عنه في المكان الخطأ.
هل أستطيعُ أن ألتفتِ إلى الوراء في لحظةِ الانعكاس تلك فأجد أبي أمامي، وماذا لو كان واقفاً هناك فعلاً، هل هذا ممكن؟ هل هذا يعني نفياً لبديهية أن الميتين يرحلون عن عالمنا فعلاً؟ وماذا كنتُ لأفعل حينها؛ هل كنتُ سأبكي خائفةً من أنه سيرحلُ ثانيةً، أم كنت سأفرحُ وأتحدّثُ إليه وأرضى بكوني قد جُننت؟ أكوام من الأسئلة تبدأ بالتراكم بعضها فوق بعض بجانب القبر، فأصبح قادرةً على رؤيتها أمامي، وفوقها سؤالٌ كبيرٌ: ما معنى هذه النهاية، ولماذا النهايةُ بهذه الطريقة، أو ليس من أبدع كل الجمال بهذا القدر من الجمالِ بقادر على أن يجعل النهايات جميلةً أيضاً؟ لماذا يكونُ الموت هو الخيارُ الوحيدُ للنهايات، ولماذا يكونُ نهائياً وقطعياً بهذا الشكل؟ ولماذا الموتُ مفردٌ وجمع، هل لأنه موت الواحد والكثيرين هو تجميعٌ لجسد هذا الشيء الذي هو الموت؟ ولماذا علينا أن نموت ليكون الموتُ موجوداً؟ وإن كان وجود الموتِ ضرورة إلهيةً ألا يمكن أن يكون موجوداً مثل السماء أو الأرض أو الشمس يُقدم خدماته للبشر أو يُعاقبهم دون أن يأخذ منهم أجسادهم وأرواحهم ووجودهم، هل يمكنُ أن يكون معطاء وليس سارقاً ولصا؟
ماذا لو أننا، فعلياً، لا نفهمُ الموت؟ ماذا لو كانت هنالك افتراضات أخرى، بأن هنالك رحلةٌ ما بدأت في مكان آخر على كوكبٍ آخر مع أناس آخرين، هل هنالك كوكبٌ يعيشُ فيه من يموتون في عالمنا، وكي يكون بإمكانهم السفرُ إليه عليهم أن يتحللوا من أجسادهم، ويتركوها عندنا بينما يأخذون شكلاً آخر لربما ضوءا أو سحابةً أو ريحاً، ليكون بمقدورهم الوصول إلى ذلك الكوكب، والعودة إلى زيارتنا عندما يشتاقون لنا ونشتاق إليهم؟
هذه هي الطريقةُ التي نؤمنُ بها، ونواسي أنفسنا بها، بأن الميتين في مكانٍ آخر، نسميه أحياناً جنة، ونسميه ناراً، ونسميه تناسخاً، ونسميه ما نسميه، لكننا نريدُ أن نؤمن مثل إيمان العجائز، دون أن ترهقنا الأسئلة، بأنهم في عالم أفضلٍ من عالمنا الصعب.
الموتُ، هو شكلٌ من أشكالِ الفَقد، والفقد أصعبُ من الموت، لأنه لا يُعبرُ عن حالة مادية مباشرة فقط، بل يعبر عن حالة شعورية، وعن حالة من الكسر التي علينا أن نتعايش معها مدركين صعوبة عملية الاسترداد منها. وبينما نحن مضطرون للاستمرارية والفّقْدُ مصاحبٌ لنا، فإننا نحمل خصائص الفقد في استمراريتنا على ظهر أيامنا وسنيننا، ليصبح الفَقْدُ علامةً فارقة في أرواحنا وأجسادنا، فتدوم استمراريةُ الفّقْدِ بسببنا، ننتمي له وينتمي لنا وبسببه ننتمي لعوالمنا وأحباتنا.
أفتقدُك أبي.
*****
كان أبي قبل أن يّغرَق في الحُلُمِ،
يُحب قريته المسلوبة،
ويزرعُ في كل بيتٍ جديدٍ
جزءاً منها.
كان أبي هادئا، يُحب أغنيةً
صباحيةً:
"سلملي عليه، وقِلله إني بسلِّم عليه،
بوسلي عينيه، وقلله إني بوِّس عينيه،
إنت، يا اللي بتفهم عليه،
سلِّملي عليه
سلم."