منذ أن بدأت تطفو على السطح الأزمة الروسية الأوكرانية، أجتهد كثير من الباحثين والمهتمين في توصيف الأزمة وأبعادها ودلالاتها على طبيعة النظام الدولي القائم ومستقبل العلاقات الدولية خصوصاً بين الدولة المهيمنة وهي الولايات المتحدة الأمريكية والدول العظمى أو الدول الباحثة عن الصعود إلى القمة مثل روسيا الاتحادية والصين الشعبية، خصوصاً، أن الأزمة الروسية الأوكرانية هي ليست نتيجة لخلافات تتعلق بقضايا ثنائية بين الطرفين، بمقدار أنها نتيجة لطموح روسي يتعلق بالمجال الحيوي الروسي وبطموحاتها المستقبلية للعودة كقطب فاعل في النظام الدولي.
هناك من اعتبر أن الأزمة، هي بمثابة بداية لعودة مبدا توازن القوى الذي يعتبر من أهم المبادئ التي استقطبت جهود كثير من الباحثين في السياسة الدولية واشغل حيزاً كبيراً من الدراسات والنقاشات حول بنية النظام الدولي وتأثير الأزمات التي يمر بها على مبدأ التوازن، وقد اختلف الباحثين في العلاقات الدولية مثل "مورغنثاو ومارتن وايت وأرنست هاس" في قبول المبدأ وتوصيفه، فمنهم من رأى أن هذا المبدأ هو الذي تسبب في أغلب الحروب، ومنهم من رأى فيه الضامن للسلم العالمي، بينما رأى فيه آخرين عباءة تخفى سياسات إمبريالية. والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم وفي ظل هيمنة أمريكية مطلقة، هل يمكن لروسيا الاتحادية تبني ممارسات ناجحة لإنتاج القوة ومحاكأة نموذج القوة المهيمنة المحتملة؟.
حتى الآن وفي هذا الوقت الذي تكتب فيه هذه السطور، فقد نجحت الولايات المتحدة بتجييش شبه عالمي ضد روسيا في سعيها للعودة للقمة وفرض شروطها، ولعل ما قامت به دول ما تسمى بدول العالمي الغربي ومن يقع تحت جناحها بفرض عقوبات وحصار اقتصادي ومالي وإعلامي ولوجستي ومعنوي، ربما الأول في التاريخ أو على أقل تقدير الأول منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، بالإضافة لقرار الجمعية العامة بأغلبية 141 صوت مع مقابل 5 رفض و35 امتناع، والذي دعا لانسحاب روسيا من أوكرانيا مؤشر هام وخطير بنفس الوقت على نهج الانسياق مع الولايات المتحدة. ولأن، مفهوم توازن القوى يرتكز على عنصرين أساسيين كما حدده "مورغنثاو" العنصر الأول مادي أي يتعلق بوجود تعادل حسابي بين مقدرات القوة العسكرية التي تمتلكها القوى الدولية والثاني إدراكي وهو المقصود والذي يتعلق بتوافر إدراك للقوى الدولية بأهمية وجود التعادل باعتباره الوسيلة المثلى للحفاظ على الأمن العالمي.
قراءة المواقف والإصطفافات التي ظهرت خلال الأزمة الروسية الأوكرانية، تشير إلى أن هناك رفضاً لمحاولة عودة مبدأ توازن القوى، بل أن هناك قبولاً عالمياً باستمرار الهيمنة الامريكية، على اعتبار أن الولايات المتحدة الامريكية حسب منظري العلاقات الدولية لن تلقى نفس مصير الدول التي هيمنت عبر التاريخ، وقد استندوا في ذلك إلى حجتين الأولى، أنه ليس بالإمكان موازنة القدرات العسكرية والاقتصادية الأمريكية، وأن الولايات المتحدة ليست مصدر تهديد، والثانية تقوم أساساً على فكرة الطبيعة الخيرة للهيمنة الامريكية، حيث أن هناك دول كثيرة تستفيد من هذه الهيمنة وان هناك ثقة كبيرة بالنوايا الأمريكية طالما هي دولة ديمقراطية (بحاجة لنقاش في مقال آخر).
حتى الآن يمكن القول أن الولايات المتحدة قد نجحت في جعل الغالبية العظمى من الدول المؤثرة تدور بفلكها، على اعتبار أن الولايات المتحدة مهيمن ليبرالي حميد لها فوائد كثيرة اقتصادية واستراتيجية، وأن الانحياز إليها أو ركوب الموجة معها هو خيار جذاب عندما يكون المهيمن دولة ناضجة وممأسسة وديمقراطية وهذا ما يجعلها مقبولة بالنسبة للآخرين، وبهذا الصدد يقول كلاً من "جون اكنبري وتشارلز كابشان"، بأن الطبيعة الديمقراطية الليبرالية للنظام السياسي الداخلي للولايات المتحدة يضفي الشرعية على الهيمنة الأمريكية ويطمئن الآخرين بمحاسنها.
فالأزمة الروسية الأوكرانية وما تبعها ومازال من مواقف، يمكن تعميمها نظرياً أن هناك قبولاً عالمية بالهيمنة الأمريكية، وأن هذا الواقع ما زال يخدم دول كبرى كثيرة بفعل استفادتها الاقتصادية والسياسية من وجود نظام دولي مستقر، وأن الحوافز والمكاسب التي يمكن الحصول عليها بفعل هذه الهيمنة تفوق أي محاولات لبناء توازن صلب مضاد للولايات المتحدة يتضمن جانباً من المخاطرة. فهل هذا يزيد من التحدي أمام الطموح الروسي ويصعب عليها مهمة البحث عن دور كقطب ثاني أو متعدد، هذا ما ستكشفه الأزمة الراهنة وقدرة روسيا على المواجهة الاقتصادية والسياسية في الفترة القادمة.