بعد مرور العاصفة لا أحد يتذكر جدياً ما جرى فيها باستثناء خبراء الأرصاد الجوية، حتى أن الناس ينسون الابتهالات والصلوات والأدعية التي احتموا بها
يعتمد رجل السياسة والصحة والاقتصاد وغيرهم على ذاكرة السمك الشعبية من أجل تمرير الموبقات التي يفعلها دون أن ينتبه أحد إلى ما جرى. سرعان ما ننتقل من موضوع إلى موضوع جديد فيموت القديم في الذاكرة والاهتمام والوعي على السواء.
اليوم يخيم على القرية الكونية هم واحد رئيس اسمه حرب أوكرانيا وما يتصل بها من أزمات اقتصادية وإنسانية يمكن أن تصل في خطورتها حداً يجعل بعض سكان رام الله البعيدة عن أوروبا بآلاف الأميال يهرعون إلى البقالات الكبيرة والصغيرة لابتياع المعلبات خوفاً من آثار الحرب التي قد تؤدي إلى تبخر الطعام من الكرة الأرضية على الرغم من إقرار النصف الشمالي من كرتنا التعسة بأنه يتلف ثلث الغذاء المنتج كل عام بسبب الاستهلاك التبذيري.
قبل سنتين تقريباً وصل "كورينا" على حد الهفوة التي وقعت فيها في حينه وزيرة الصحة الفلسطينية إلى مناطق السلطة الفلسطينية دون أن يكون ذلك مفاجئاً لأحد. كان كورونا قد بدأ في الزحف داخل فلسطين التاريخية مثلما أشارت مصادر إسرائيلية منذ بعض الوقت، لكن الجهات الفلسطينية لم تغلق مجالها "السياحي" في وجه الحركة لأسباب قد تكون اقتصادية أو سياسية، وهذا بدون لبس يعني أن فرصة دخول الفيروس كانت واسعة تماماً.
ارتبك الناس وهاجوا وماجوا وأصيب قسم منهم بالذعر وانتشرت الأقنعة والكمامات الجادة والهزلية. أما الأطفال فسرت بينهم موجة فرح عارمة نتيجة لقرار الطوارئ بتعطيل المدارس شهراً كاملاً، تلاه تعطيل للفصل كله ثم عطل أخرى جميلة أثلجت قلوب الأطفال ومنهم ولدي الصغير إنليل الذي انتقل إلى حب المدرسة بعد أن كان يمقتها على نحو حاسم لا لبس فيه.
شرع الناس فوراً في إعداد عدتهم "المعتادة" لمواجهة الأزمات والمخاطر المتصلة بالفيروس المرعب. ومثلما بدا لجزء لا بأس به من أبناء شعبنا وأمتنا قبل أشهر من وصول كورونا إلى ربوعنا أن كورونا ابتلاء من الله للصين بسبب خطاياها المتصلة باضطهاد المسلمين الإيغور حلفاء أمريكا وتركيا الذين يجاهد جزء منهم في سوريا ضد الدولة، هكذا ظن هؤلاء أنفسهم بأن هذا الفيروس جند من جنود الله، وأن الله تعالي هو الأقدر من بين الفرقاء جميعاً على مواجهته. وإذا كان هذا جميلاً من حيث المبدأ لأنه خفف من ذعر المواطنين عن طريق التوكل على الله والاستناد إلى حمايته وقوته التي لا شك فيها، إلا أنه ارتد عكسياً نتيجة اعتقاد الجمهور أن التجمعات الاجتماعية والدينية والترفيهية في الأفراح وبيوت العزاء والمساجد والكنائس والمقاهي والمطاعم ليست خطيرة ما دام الله هو السبب الأوحد لما يحصل. جزء منا لم يهتم بفعل الأشياء البسيطة من قبيل تعقيم اليدين بالكحول أو حتى غسل اليدين بالماء والصابون. "لحسن الحظ" لم يكن لذلك كله أي تأثير يذكر مقارنة بجيراننا/أعدائنا المتفوقين علينا في كل شيء. بالطبع لم يكن السبب واضحاً في حينه، لكننا نعرف اليوم أن القليل مما يفعله المرء كان يمكنه أن يسهم في مقاومة الفيروس العجيب.
من نافلة القول إن البشرية ترتد إلى مستوى ما قبل ديني، أي إلى مستوى الأسطورة كلما واجهت مشاكل/كوارث/أمراض/أزمات لا يمكن للعلم البشري أو العقل الإنساني أن يواجهها بنجاح. ينطبق ذلك حتى على المواجهات العابرة أو المؤقتة مثل حالة فيروس كورونا الذي بدأ ينحسر في كل مكان تقريباً بعد أن تمكنت الصين، في وقت مبكر، بالطرق العلمية أو بالصلاة أن تقنع المقدس بأن يوقف الابتلاء الذي لحق بها. لكن العرب كانوا سباقين دون شك إلى الاستعانة بالمقدس دون سواه. كيف لا وأطباء العالم وقفوا حائرين أمام المرض المرعب الذي لم يشهد معظم الأحياء له مثيلاً من قبل! ليس بيننا من عاش في مكة في القرن التاسع عشر عندما داهم الطاعون البلاد وقضى على نصف سكانها وعلى آخرين لجأوا إليها من أماكن أخرى لتحميهم من الموت الأسود الذي لا علاج له.
هكذا قررت طائفة من المعلمات والمهندسات وربات البيوت أن تواجه كورونا بالأدعية والقرآن. ركزنا على تأنيث الفعل لأن السيدات أكثر انتماء للأسرة من الرجال، وهن من يبادر إلى تسييج المنزل وحمايته من الخطر في مقابل أنانية الذكور الذين يؤمنون على الأغلب مثل الإناث بأهمية الأدعية في مقاومة الكورونا وغيرها من المخاطر لكنهم لا يجدون الوقت الكافي للأسرة بحكم هموم الملذات الخارجية التي لا تفارق خيالهم وعقلهم أبداً.
حصلت مواجهة "أسطورية" للفيروس تذكر تماما بمواجهة الكنعانيين والسومريين والبابليين للأمراض. مثلاً كتبت إحدى السيدات: "اللهم إن هذا الوباء قد غدا من حولنا وأمره بين يديك، فحل بيننا وبينه بلطفك وسترك وعفوك ورحمتك واحفظ بلادنا من شره وبلائه." من الواضح أن هذه السيدة قد تقمصت موقف الحضارة العراقية التي كانت تعد مظاهر الطبيعة كلها جزءاً لا يتجزأ من حرب كبيرة يمكن أن تهدف إلى معاقبة البشر أو تهذيبهم أو ردعهم...الخ. وبهذا المعنى فإن الفيضان أو المرض هو أداة أو سلاح في يد الآلهة أو الشياطين الكبار لينغصوا حياة البشر. لكن ما لفت نظرنا أكثر في هذا الدعاء هو أن هذه السيدة الفلسطينية لم تتنبه إلى هذا الموقف عندما كان الكورونا يقتحم العراق وإيران والأردن والكويت ...الخ. وهو ما يوحي بأنها لا تنسجم مع روح الدعاء الإسلامي بالتزامها الضمني بتوجيه الدعاء في نطاق الإطار السياسي الفلسطيني عوضاً عن أن يوجه الدعاء في سياق إسلامي واسع مثلاً.
ومن بين الأدعية التي ملأت صفحات التواصل الاجتماعي خلال دقائق من الإعلان عن وصول كورونا:"اللهم إنا نعوذ بك من البرص ونعوذ بك من الجنون ونعوذ بك من الجذام ونعوذ بك من سيء الأسقام." من الواضح أن الجمهور الذي تداول هذا الدعاء كان يبالغ تماماً في تصنيف فيروس كورونا الذي هو بالطبع فيروس أشبه بالإنفلونزا ولا يمكن مقارنته بالأوبئة المرعبة التي كانت تجتاح بلادنا من قبيل الطاعون أو الكوليراً. لكن الدعاء كأنما ينظر إليه باعتباره من "سيء الأسقام" مما خلق ذعراً مبالغاً به في تعاطي الجمهور مع المرض.
بالطبع شرع جزء من الجمهور في تقديم الوصفات المفيدة في تجنب المرض ومن ذلك ذكر الله والصلاة على رسول الله على نحو مستمر، وذلك لأن حركة اللسان تستجلب اللعاب مما يجعل الحلق رطباً، وهو ما يغني عن السوائل –بحسب هذا الفهم- ويقي المرء من مخاطر هذا العدو الخطير.
ومثلما أشرنا أعلاه فإن فكرة الغضب الإلهي لتفسير الفيروس قد انتشرت على نطاق واسع بالترافق مع فكرة أخرى فحواها إن الله جلت قدرته يعاقب الناس بإبعادهم عن بيته. ولذلك تمحور أحد الأدعية حول ذلك: "اللهم ارفع غضبك عنا ورد المسلمين إلى بيتك رداً جميلاً". وانطلاقاً من ذلك فإن الخوف من الكورونا لا مسوغ له باعتبار أنه إنما يصيب من يريد الله لذلك. وربما يصيب تحديداً العصاة والفاسقين والكفار. وقد ذهب بعض الناس مثلما هو متوقع إلى توضيح الفوائد الجمة للفيروس والمتمثلة في ردعه للمظاهر الفاسقة والخليعة من قبيل السهر في المطاعم والكوفي شوبات...الخ.
في السياق أعلاه كتبت إحدى السيدات: "كيف نخاف من فيروس كورونا وعمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: لو نزلت صاعقة من السماء ما أصابت مستغفراً. استغفروا". هناك إصرار واضح على اقتراح سببية لا علاقة لها بالسببية العلمية تختصر ما يحصل في الواقع في سبب واحد هو الله وتختزل الوقاية في التقوى والاستغفار والدعاء...الخ. ولا بد أن العلاج يدور حول الطريقة نفسها.
نتوهم أن هذه الطريقة في التفكير تشكل دائماً خطراً مزدوجاً قد يسهم في زيادة الخسائر الناجمة عن أي مرض من ناحية، وهناك الخطر الدائم لتقويض فرص التفكير العاقل المستند إلى قواعد المنطق وأصول إنتاج المعرفة في فروع العلم المختلفة عن طريق الاكتفاء بفكرة السبب الواحد أو الفاعل الواحد "الأشعرية/الغزالية" التي تهيمن على عقل البسطاء من المحيط إلى الخليج، وتستخدم على نطاق واسع لتفسير الظواهر المختلفة إن تكن سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو صحية بغض النظر عن كونها فردية أو جماعية.
للإنصاف يجب علينا أن نقر بأن "الغرب" قد هول المرض تهويلاً أمضى وأشد في سياق الترويج للصناعات الدوائية التي حققت أرباحاً هائلة بفضل بيع اللقاحات وصلت إلى حد أن نصف مبيعات شركة فايزر العملاقة في العام الماضي كانت بفضل اللقاح، أي أنه ساهم في مضاعفة مبيعات الشركة العملاقة لتصل إلى أكثر من 80 مليار دولار. كما يقول الفلسطينيون وعرب آخرون" "صحة وعافية على قلوبهم".
نحن في المشرق مارسنا التطعيم على نطاق واسع دون التخلي عن الأدعية والصلوات. وهذه هي طريقتنا في المواجهة. وكما تعلمون: في المواجهات الكبرى، إن يكن في المرض أو الكوارث الطبيعية، أو مواجهة عدو خارجي سياسي، تتجلى قدرة الانتماء الجمعي الواعي على مواجهة العدو ودحره. ربما لهذا السبب لم يخطر ببالي أن الصين كانت تواجه أية مخاطر جدية. لقد أثبتت الصين في التجارب المختلفة في مواجهة الأزمات السياسية والصحية والاقتصادية وغيرها أنها تعرف كيف تنسق جهود أبنائها الشجعان الأذكياء لدحر العدو. ربما يجدر بنا أن نفكر هنا في فلسطين وباقي بلاد العرب بالطريقة ذاتها خصوصاً أن لدينا أعداء سياسيين أشد خطراً من كورونا بألف مرة.