اتخذ محمود عباس بصفته رئيسا لمنظمة التحرير، ورئيسا للسلطة الفلسطينية، في شباط 2022 قرارا بقانون، بإدراج منظمة التحرير ودوائرها ومؤسساتها كافه، ضمن دوائر السلطة الفلسطينية، وبهذا اطلق رصاصة الرحمة عليها، بعد 28 عاما من موتها السريري، إثرتوقيع اتفاق اوسلوعام 1993، ومنذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا لم تكن اكثر من ختم بيد القيادة، لتمرير او تبرير مواقف سياسية بغض النظر اتفق الفلسطينيون عليها ام اختلفوا..
وكانت جامعة الدول العربية، قد أسست منظمة التحرير في العام 1964 ، لتكون نظاما رسميا عربيا على غرار الانظمة الإعضاء فيها ، بهدف إعتراض المجموعات الفلسطينية المسلحة، التي كانت تعمل تحت الارض، كحركة فتح والقوميين العرب وغيرهما، الا انه تحت وطأة هزيمة النظام العربي الرسمي في حرب حزيران 67 ، بدأت حركات المقاومة بالظهورللعلن، ونظر اليها الجمهور العربي آنذاك كبارقة أمل لتحقيق النصرعلى إسرائيل، وما رفع من سقف التوقع هذا ، تمكن حركة المقاومة الفلسطينية بالتعاون مع الجيش الاردني، من الحاق الهزيمة بالجيش الاسرائيلي في معركة الكرامة عام 1968.
وفي اواخر ستينيات القرن الماضي ، سيطرت فصائل المقاومة (بقيادة فتح) على منظمة التحرير، وصعد ياسر عرفات الى أعلى السلم القيادي فيها خلفا لأحمد الشقيري، وأحدثت قيادتها الجديدة تغييرات في تركيبتها وهياكلها تغيرا جذريا، رافق ذلك تغيرا في شكل تمثيل قاعدتها الاجتماعية الشعبية، بالإعتماد على الفصائل المسلحة، وعلى المنظمات المهنية والشعبية للعمال والنساء والطلاب والمعلمين والكتاب، كما نسجت قيادات الفصائل الممثلة في المنظمة ، علاقات وطيدة بدول كروسيا والصين وباحزاب يسارية في الغرب.
وبخروج منظمة التحرير من لبنان بعد الاجتياح الاسرائيلي له في العام 1982 ،بدأ تأثيرها وقوتها بالضعف تدريجيا ، الا انها ما لبثت أن استعادت قوتها السياسية على الساحتين العربية والدولية، بفعل الانتفاضة الفلسطينية الاولى في العام 1987، هذه الانتفاضة التي تعد الحدث الابرز في تاريخ الشعب الفلسطيني منذ ثلاثينيات القرن الماضي، والتي فاجأت اسرائيل بنفس الدرجة التي فاجأت بها منظمة التحرير.
وعكس تشكيل القيادة الموحدة للانتفاضة وهياكلها على الارض آنذاك تركيبة منظمة التحرير، وحملت بياناتها الشهرية وادبايتها الاخرى اسم المنظمة، وحتى أن اسمها كان يتردد في الهتافات في المظاهرات ويخط أيضا في الشعارات على الجدران في الاراضي المحتله، بحيث اصبحت المنظمة العلامة التجارية المسجله سياسيا للانتفاضة اقليميا وعالميا.
حدثان هامان وقعا بعد اقل من عام على تفجر الانتفاضه، الأول، إعلان ملك الاردن الحسين بن طلال في تموز 1988عن فك الارتباط الاداري والقانوني مع الضفة الغربية، منهيا بذلك ما كان يعرف بالخيار الأردني، و توجهت منظمة التحرير إلى ملء الفراغ السياسي والقانوني الناشئ عن فك الارتباط، ترافق ذلك مع الدعوة إلى مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط، إلا إنها ووجهت برفض الإدارة الأمريكية لمشاركة المنظمة في عملية السلام، واشترطت قبولها بقرار مجلس الأمن 242 و"نبذ الإرهاب". أما الحدث الثاني، فكان الاعلان عن وثيقة استقلال فلسطين، في دورة المجلس الوطني الفلسطيني، المنعقد في الجزائر العاصمة في 15 تشرين ثاني 1988، الامر الذي اعتبر محاولة لاستثمار منظمة التحرير للانتفاضه في مرحلة مبكرة جدا لم تكن قد ضربت جذورا عميقه في الارض.
ومع هاجس الخوف من القيادة البديله، الذي كان يساور قيادة منظمة التحرير تاريخيا، فرضت المنظمة هيمنتها على الانتفاضه بكل مفاصلها وتفصيلاتها، وتدخلت في نشاطاتها اليومية وبياناتها ومواقفها، ولعل اخطر هذه التدخلات، كان منع القيادة الموحدة من ادانة اجتياح العراق للكويت في العام 1990في بياناتها، ناهيك عن إغداق المنظمة المال للاراضي المحتله دون آليات ضبط أو أولويات في الصرف ما شرع الابواب أمام الإفساد والفساد.
وبعد مؤتمر مدريد في تشرين اول 1991، ثم مفاوضات واشنطن، تجلى عجز منظمة التحرير بفقدانها ضبط ايقاع الانتفاضه مع المفاوضات، بمعنى عدم الاستفادة من قوة الانتفاضه على الارض في تلك المفاوضات، بل وابعد من ذلك فقبل التوقيع على اتفاق اوسلو قررت قيادة المنظمة وقف الانتفاضه دون شروط ، وتخلت عن الاسرى في السجون الاسرائيليه الذين كان من الممكن اطلاق سراحهم لو اصرت على تضمين ذلك في الاتفاق.
وبعد تأسيس السلطة الفلسطينية بعد توقيع اتفاق أوسلو، بدأت الهيئات الشعبية الذي تتشكل منها منظمة التحرير بالتآكل، كإتحادات المرأة والعمال والفلاحين والطلاب، فلم يبق منها الا الأسماء والميزانيات فقط ، كما تآكلت الفصائل، وتمكنت حركة حماس (غير العضو في منظمة التحرير)، من الحاق الهزيمة بحركة فتح ، كبرى فصائل المنظمة في انتخابات المجلس التشريعي عام 2006، فيما انكمشت فصائل أخرى ولم يبق منها سوى مكاتبها السياسية والميزانيات التي يصرفها لها الصندوق القومي.
وكشفت دورة المجلس الوطني في العام 2018 عن مدى تغييب وضعف منظمة التحرير، حيث أستدعي المجلس بقرار فردي على عجل، ولم يتم احترام مؤسسات المنظمة باتخاذ قرارات لم تنفذ، يضاف لذلك اغراق المجلس باعداد غير محددة من الاعضاء، دون التحقق من عضويتهم، وعدم دعوة أعضاء منهم شخصيات لها تاريخ في منظمة التحرير..
ولعل الخطيئة الكبرى التي ارتكبها المجلس الوطني في تلك الدورة، تفويض صلاحياته للمجلس المركزي، دون معرفة اعضاء المجلس الوطني، كيف اتخذ هذا القرار لعدم عرضه على اللجنة القانونية. هذا القرار فتح الطريق للمجلس المركزي في دورته التي عقدها في شباط 2022 لإنتخاب اعضاء جدد في رئاسة المجلس الوطني، واعضاء جدد في اللجنة التنفيذية للمنظمة وغيرها من القرارات، وكأن المجلس المركزي في مرتبة قانونية اعلى من المجلس الوطني وليس العكس..
وكان المجلس المركزي تم تشكيله في العام 1977 ، ومنذ ذلك التاريخ عقد 31 دورة كانت آخرها في شباط 2022، وكان المجلسان الوطني والمركزي يعقدان قبل أوسلو جلسة او اثنتين في كل عام، وكانت مؤسسات المنظمة آنذاك فاعلة تشهد حوارات جادة وتباينات وصلت إلى درجة تعليق عضوية فصائل لعضويتها في اللجنة التنفيذية على خلفية سياسية، دون التشكيك بالمنظمة ووحدانية تمثيلها..
لا اعتقد انه سيتم إزالة منظمة التحرير من الوجود على المدى المنظور بل ستبقى ختما بيد من يتفرد باتحاذ القرارات في المنظومة السياسية الفلسطينية، تستدعى عند الحاجة لتبرير وتمرير سياسات ومواقف تصب في مصالح الطبقة الأقليه الحاكمة ، وليس في مصلحة الشعب الفلسطيني.