يومًا بعد آخر تتضح الاستراتيجية الأمريكية البريطانية، ومن خلفها أوروبا، في ورطة الحرب في أوكرانيا، لجهة استنزاف روسيا وإحكام الحصار عليها اقتصاديًا، في محاولة مستميتة لمنع صعودها في المعركة على مستقبل النظام الدولي الجديد، ومتطلبات تحوله نحو نظام متعدد الأقطاب. ويوميًا تتضّح من طبيعة هذه الحرب التي تأخذ طابع الحرب العالمية الثالثة لجهة أهدافها وأدواتها على الأرض الأوكرانية، أن ثمنها المباشر هو التضحية بمستقبل أوكرانيا، فهي بالنسبة للولايات المتحدة مجرد دورية الاستفزاز والاحتكاك المتقدمة في الخاصرة الروسية، وللأسف فقد سلّمت الحكومة الأوكرانية بهذا الدور الذي فتح الباب، ليس فقط بأن تصبح أوكرانيا الميدان العسكري لتلك الحرب الكونية، بل ولتقسيمها إن لم يكن لتشظّيها.
خارطة العلاقات الدولية تتموضع بحذر نحو النظام الدولي الجديد، الذي تستميت فيه الولايات المتحدة لحماية مكانتها وحيدة على رأس هذا النظام، وإبقاء القدرة على الانفراد والتحكم بقواعده، ويبدو أن الخاسر الأكبر دوليًا في هذه المعركة الكونية هي أوروبا ومصالحها، بعد أن أظهرت السنوات العشرين الماضية، سيّما في عهد ترامب وخروج بريطانيا من عضوية الاتحاد الأوروبي، مدى الحاجة لأوروبا الموحدة مع روسيا، حيث تترابط معها مصالح أوروبا الاقتصادية، سيّما الغاز والتبادل التجاري، والجيوسياسية المتداخلة في شرق ووسط أوروبا، أما الدول العربية فهي خارج التاريخ، رغم محاولات بعض دول الخليج التململ لقراءة مستقبل خارطة مصالح العلاقات الاقتصادية منها والسياسية، رغم النوافذ والأبواب المشرعة نحو استمرار حاجتها للبقاء في الخندق الأمريكي.
غنيّ عن القول أن الصين هي الدولة الأكثر قدرة على المناورة بين قذائف هذه الحرب، وهي تعلم أنها المستهدفة فعليًا في حال نجحت الولايات المتحدة في عزل وإضعاف روسيا. كما أنه من الواضح أن إيران وتركيا هما الدولتان الإقليميتان الأكثر قدرة على الاستفادة من هذه الحرب، وبالتأكيد أن قوتهما الاقتصادية والعسكرية وقدرتهما على استثمار موقعهما الجيوسياسي يساعد هذين البلدين على أكبر قدر من المناورة، فتركيا العضو في الناتو لم تقطع خيوط اتصالاتها مع موسكو أو كييڤ، بل وتحاول أن تقوم بدور الوساطة العلنية أحيانًا ومن خلف الستار أحيانًا أخرى، أما إيران فإنها قريبًا ما ستفوز بالعودة للاتفاق النووي، والذي فجأة لم يعد "بعبع" اسرائيل أو "خطرًا وجوديًا" عليها، كما دأبت اسرائيل على الترويج لذلك في سعي منها لتهميش القضية الفلسطينية ومكانتها في جدول أعمال الاهتمام الدولي، وقد نجحت في ذلك إلى حد بعيد، والاستفراد الميداني بالشعب الفلسطيني وأرضه، رغم تنامي الرأي العام خاصة في أوروبا لصالح عدالة القضية الفلسطينية، الأمر الذي يظهر مدى فشل الدبلوماسية الرسمية الفلسطينية.
رغم العلاقات الاستراتيجية الثابتة التي جعلت إسرائيل ومنذ نشأتها مكونًا أساسيًا للأمن القومي الأمريكي وكذلك البريطاني، فإن اسرائيل التي تضع مصالحها فوق أي اعتبار أو مصالح أخرى، تدرك مدى حاجتها ليس فقط للعلاقات الروسية أو الأوكرانية كل على حدة، بل، فهي استراتيجيًا لا تريد أن تغلق أمامها أبواب احتمالات التغير الجاري في علاقات وتموضع قواعد النظام العالمي الجديد، فإسرائيل تربطها بالصين والهند، ودول أخرى نأت بنفسها عن التذيّل لموقف الإدارة الأمريكية من الحرب، علاقات تبادل تجاري وتكنولوجي واقتصادي، بل، وفي مجال الصناعات العسكرية والأمنية، وقد نمت هذه العلاقات بصورة ملفتة في السنوات الأخيرة.
إسرائيل التي كادت أن تجد المسافة تتباعد بينها وبين إدارة بايدن في هذا الملف، فجأة تحاول بلورة دورها المستجد الذي يعطيها هامشًا واسعًا من المناورة، وذلك بالتنسيق مع الولايات المتحدة والدول الكبرى في أوروبا سيما"فرنسا وألمانيا وبريطانيا"، كوسيط ليس فقط بين روسيا وأوكرانيا، بل فهي تحاول تقمص دور الوسيط بين روسيا والغرب أيضًا، وتعيد محاولة تقديم دورها الهارب من التاريخ، فاسرائيل دولة الاحتلال الكولونيالي العنصري الأخير في هذا الكون تدرك تماماً أن الوجه الآخر للحرب التي يخوضها الغرب ضد روسيا مستعينة في حربها الإعلامية بمفردات القانون الدولي ورفض الاحتلال وقتل المدنيين، كلها جرائم حرب دولية ترتكبها اسرائيل يوميًا وقد وثّقتها العديد من منظمات حقوق الإنسان الأكثر احترامًا ومكانة في العالم، وآخرها التقرير الشهير لمنظمة "أمنيستي". والسؤال الكبير الذي يبدو من الصعب تمريره على الرأي العام الدولي هو: هل يستطيع نفتالي بينيت، المستوطن والغارق في عنصريته حد رفض رؤية الفلسطيني أو استعداده للحديث مع القيادة الفلسطينية، أن يتقمص دور الحمل كي يلعب دور الثعلب الوسيط؟! المحزن أن جميع الأطراف الدولية،بما في ذلك المتخندقة على جانبيّ هذه الحرب، تتجاهل هذا الدور الاستعماري الذي تمارسه اسرائيل وتقدم لبينت تلك المكانة كالتزام منها لحماية وضمان مستقبل اسرائيل وأمنها، بغض النظر عما ستؤول إليه هذه الحرب أو طبيعة العلاقات الدولية لأي نظام دولي ستسفر عنه.
اسرائيل التي تقدم نفسها وسيطًا للسلام بين أوكرانيا وروسيا، وبين روسيا والغرب في محاولة للتموضع فوق ما تواجهه من اتهامات آخذة في التبلور تدريجيًا، وهي ما تزال تواصل استغلال انشغال العالم في الحرب الأوكرانية، لترتكب المزيد من جرائم الحرب ضد المدنيين الفلسطينيين، فلا يكاد يمر يوم واحد دون أن ترتكب فيه إسرائيل المزيد من جرائم قتل للمدنيين الأبرياء والتغول في سياسات التوسع الاستيطاني ومصادرة الأرض وهدم المنازل وتوفير الحماية الشاملة لجرائم ميليشيات المستوطنين الإرهابيين، فهل يجرؤ المستوطن نفتالي بينت أن يلاحق "أبناء حيّه" الاستيطاني الذين يمارسون جرائمهم اليومية ضد المزارعين وعائلاتهم ومزروعاتهم وبيوتهم الآمنة؟! وهل تجرؤ أوروبا على مساءلة بينيت نفسه وهي تتعامل معه كوسيط لوقف الحرب؟!
صحيح أن إسرائيل التوسعية هي أكثر من يُجيد القدرة على إعادة التموضع في الساحة الدولية، واستثمار انشغال العالم بالحرب، ولكن السؤال الأهم هو ماذا تفعل القيادة الفلسطينية لفضح وعزل هذا الدور العنصري و الاجرامي الذي يتعيّش على الأزمات والحروب الدولية ؟!
قد لا تكون القيادة الفلسطينية، سيما في ظل انهيار وتفكك الوضع العربي ومأزق العلاقات الفلسطينية العربية، قادرة أن تنافس اسرائيل في ساحة العلاقات الدولية، ولكنها إن حسمت أمرها بامتشاق صوت الحق والقانون الدولي الذي بدأ يعود له بريقه حتى من أفواه مُنْتَهِكِيه في هذه الأيام، ستكون قادرة على الأقل، وبكل سهولة، على نزع قناع ازدواجية المعايير عن نظام القطب الواحد، ونزع القناع عن وجه العنصرية الإجرامي لحكام تل أبيب، ولعل الخطوة صفر في هذا الاتجاه هو ما حفيت ألسنتنا ونحن نردده، والمتمثل بضرورة العمل الجاد والمخلص لإعادة بناء البيت الداخلي، وتمتين وحدته وبنيته الديمقراطية والائتلافية، باستنهاض كامل طاقة شعبنا الفلسطيني في مقاومته المشروعة من أجل العودة و الحرية والاستقلال .
ومن حقنا، وحال الانقسام والفئوية مستمر على ما هو عليه منذ ما يزيد عن خمسة عشر عامًا، وبكل ما يولّده هذا الانقسام من مخاطر على مستقبل قضيتنا؛ ليس فقط أن نسأل ونطالب بالوحدة والديمقراطية واحترام إرادة الناس، بل فقد بات من حق كل مواطن فلسطيني أن يُسَاءِل بل و يَتَهم جميع المهيمنين على المشهد الوطني على تورطهم في لعبة الانقسام و تماديهم بالاحجام عن القيام بما هو مطلوب و هو في متناول أيديهم، وهم الذين يكررون صباح مساء أن اسرائيل هي الوحيدة المستفيدة من الانقسام وحالة الضعف في الوضع الفلسطيني، فمن هو الذي يفيد اسرائيل يا سادة إن لم تكونوا أنتم وفقط أنتم؟! فمن غيركم يصنع الانقسام، ومن غيركم يستثمر حالة الوهن الناجمة عنه، لخدمة مصالحه الفئوية والخاصة على حساب المصالح الوطنية العليا والتضحيات الكبرى التي قدمها شعب فلسطين ؟!