يطمح المربّون والمدرّسون إلى أن يتخرّج طلابهم من المدارس ومدارج المعرفة بعد أن حقّقوا توازنا روحيا وبدنيا واجتماعيا واكتسبوا العديد من المهارات واتصفوا بالعديد من الصفات أهمّها؛ سعة الاطلاع، والرغبة المستمرّة في التعلّم، والقدرة على التفكير العميق والإنجاز، بالإضافة إلى الاهتمام بالقضايا المحليّة والعالميّة، والتّواصل بلغات عالميّة مختلفة، وإتقان فن طرح الأسئلة، والتمكّن من أدوات البحث الحديثة، وحسن التصرّف، واتخاذ القرار الصّائب في الوقت المناسب، والتحلّي بمبادئ إنسانية سامية؛ ومنها الإيمان الراسخ بحق الاختلاف وقبول وجهات نظر مغايرة.
أزعم أنّ هذه أهمّ ملامح المتعلّم في مختلف الأنظمة التربوية، ولكن لتحقيق هذه الملامح والصفات والمهارات لا مناص من شحذ أذهان التربويين والمدرّسين والتذكير بأنّ من أهمّ غايات التعلّم "الفهم" أي أن يستوعب الطالب ما يدرس مع القدرة على استخدام ما فهمه ونقله من المجال الذي درسه إلى مجالات أخرى.
وليستقيم "الفهم" لا بدّ من إعادة النظر في أولوياتنا الصفيّة بترسيخ ثقافة التفكير في مدارسنا. ولكن كيف يمكن أن نعزّز ثقافة التفكير في صفوفنا؟
تختلف أولويّات المدرسين داخل الصف، فيرى أغلبهم أنّ هدوء الطالب وهدوء الصفّ علامتان على نجاح المدرّس والأمر خلاف ذلك تماما.
يطرح المدرّسون في أثناء اليوم الدراسي قرابة ٤٠٠ سؤال على الطلاب وهو ما أثبتته الدراسات. ولكن لا تتجاوز مدة التفكير للإجابة عن السؤال خمس ثوان ليعقب المدرّسون على الإجابة بـ(صحيح) أو (خطأ).
لترسيخ ثقافة التفكير يجب إعادة النظر في اللغة المستخدمة في صفوفنا وفي مدارسنا، هذه اللّغة لابد أن تدفع الطالب إلى التفكير؛ فعوض أن أعتبر إجابة الطالب خاطئة أسأله ما الذي جعلك تعتقد أن هذه الإجابة صحيحة؟ وعندها أضعه في وضعية تأمل جديدة ليعيد التفكير في الإجابة ثمّ أشجّع الطالب على أن يقول: " كنت أعتقد أنّ ............. ولكنّني الآن أعتبر .........."
كما أن العديد من المواد ومنها الرياضيات تتعدّد فيها المداخل إلى الإجابات الصحيحة أحيانا، ومنها يكتشف الطالب أنّ الإجابة الصحيحة يمكن أن نهتدي إليها من زوايا مختلفة.
لابد أن نخصّص للطالب حيّزًا زمنيًّا أطول للتفكير في الصفّ. وقد يتعلّل المدرسون بطول المنهج وضيق الوقت وهذه حجة واهية فالمدرّس لا يدرّس منهجا وإنّما يرسّخ مهارات، وخلافه ردّ.
منذ تسعينيّات القرن الماضي سعى الباحثون رون ريتشهارت ومارك تشورش وكارن موريسون وهم يمثلون فريق بحث في مشروع هارفرد إلى جعل التفكير مرئيا. وقد صمّموا خارطة "للفهم" متجاوزين هرم "بلوم". ويتحقق الفهم حسب ما خلصوا إليه بأنواع من التفكير وباستخدام مجموعة من الروتينات الصفيّة.
تشجّع روتينات التفكير الصفيّة الطالب على طرح الأسئلة وتطوير قدرته على الملاحظة والمشاهدة، وتحديده للفكرة الرّئيسة، وتمثّله للخاتمة في كل نصّ أو مع أيّ محفّز بصريّ أو سمعيّ مدروس. وربط ما يدرسه الطالب بمعارفه السابقة أو واقعه بمختلف مشكلاته مع تدريبه على التحليل والتفسير والاستدلال والتفكير بوجهات نظر مختلفة ومن زوايا متعدّدة.
أفرد فريق البحث لهذه الروتينات كتابين بعنوان:
“Making thinking visible” و” The Power of Making Thinking Visible”
لقد تمّ عرض ما يناهز عشرين روتينا في الكتابين السابقين. وهي روتينات مقسمة تقسيما ثلاثيا: روتينات لترسيخ تعامل الطلاب مع بعض، وروتينات للتعامل مع الأفكار، وأخرى للتعامل مع الأفعال.
وتتجاوز روتينات التفكير المعنى البسيط للنشاط أو التكليف ليتحوّل الروتين الصفّي إلى ثقافة تفكير تراعي جميع مستويات الطلاب في الصفّ وتدفع الجميع إلى التركيز والمشاركة لتحقّق الفهم.
ومن أشهر هذه الروتينات، روتين See/Think / Wonder أي ما أراه، وما أفكّر فيه، وما أسأل عنه. ومنها أيضا روتين Connect/ Extend/ Challenge أي ربط النص بمعارف الطالب السابقة، والإضافة الحاصلة بعد الاطلاع على النصّ، والتحدّيات التي واجهها الطالب في فهم النصّ.
إنّ المربّي الذي يطمح إلى تعزيز التفكير الإبداعي والنقدي في صفّه عليه أن يجعل لغة التواصل بينه وبين طلابه لغة تحثّ على التأمّل وطرح الفرضيات
" ماذا لو ....؟"، ويطرح أسئلة دافعة على النقاش ليتدرّب الطالب على المناظرة والحجاج المنطقي المقنع. كما أنَّ على المدرّس أن يوازن بين حيّز الوقت الذي يتحدث فيه والوقت الذي يعبّر فيه الطلاب عن آرائهم ويشاركون في الصفّ.
ومثلما أوعز رون ريتشهارت في كتابه Creating culture of thinking فإنّ من أهم الطرق لخلق ثقافة التفكير ليس معرفة ما نتوقع من الطالب، بل معرفة ما يتوقعه الطالب منّا، وذلك بتوفير النمذجة الشفوية والمكتوبة للطالب قبل التقييم، وصقل مهاراته لتحقيق المخرجات النهائية، واستغلال الفضاء المدرسي بمختلف المرافق الموجودة فيه للتعلم وعدم الاقتصار فقط على الصف، كذلك خلق فرص تعلّم جديدة وواقعية.
تضمن روتينات التفكير التوازن بين مختلف مهارات اللغة من كتابة ومحادثة واستماع وقراءة ومشاهدة وتقديم، وحريّ بالقائمين على التربية في بلداننا العربية التشجيع على تعزيز التفكير الإبداعي والنقدي وتجاوز ثقافة التذكّر والاسترجاع.