صحيح بأن العلاقات التركية - الإسرائيلية مرت بتقلبات وعدم استقرار، وكانت هناك حروب شعارات و"بروبغندا" وصخب إعلامي أكثر منها أردوغان، لكي يستميل مشاعر العرب والمسلمين، وليبدو الزعيم الملهم القائد للعالمين العربي والإسلامي والأب الروحي لحركة الإخوان المسلمين، التي من أجلها استعدى مصر والسعودية والإمارات، وشكل الداعم الرئيسي لها في العدوان على سوريا، وفتح لها العاصمة التركية لكي تمارس استثماراتها وأنشطتها المالية والسياسية والإعلامية وأنشأ لها محطاتها الإذاعية الخاصة، وأفرد لها مساحات واسعة في الفضائيات التركية، لكي "تردح" وتحرض وتهاجم ليل نهار تلك الدول، وتنظر وتستقطب للإسلام السياسي، وتشيد بالخليفة أردوغان و"بطولاته" و"مآثره" و"غيرته" على الإسلام ودعمه للشعب الفلسطيني، ولأننا في العالمين العربي والإسلامي، نبني سياستنا على موقف أو شعار كما نبني القصور على الرمال المتحركة، متناسين بأن السياسة تبنى على المصالح، وبأن تركيا دولة أطلسية وعلاقاتها بإسرائيل تتقدم على العلاقة مع حركة الإخوان المسلمين وبالمعنى الأوسع والأشمل على العلاقة مع العرب والمسلمين.
ولنعد للتاريخ لكي نستحضر الغرام التركي- الإسرائيلي، فتركيا هي أول دولة إسلامية اعترفت بدولة الاحتلال في آذار / 1949، وهي العاصمة الإسلامية الأولى التي استضافت رئيس وزراء الاحتلال آنذاك بن غوريون عام 1958، ليبحث مع رئيس الوزراء التركي عدنان مندريس "تفاصيل التنسيق والتعاون ضد العدو المشترك"، وكان آنذاك مصر وسوريا المدعومتين من قبل الاتحاد السوفياتي، اليوم التاريخ يعيد نفسه لكي يصفع بقوة وجوه العرب والمسلمين وفي المقدمة منهم القسم التائه والمضلل والمغرر به من شعبنا الفلسطيني، الذي يصدع رؤوسنا ليل نهار بالخليفة أردوغان ومآثره وبطولاته ودعمه للشعب الفلسطيني وحبه للأقصى والقدس.
وقبل الغوص في التفاصيل، لا بد من القول بأن من "هرول" لتطبيع علاقاته وإعادتها إلى وضعها الطبيعي مع دولة الاحتلال، هو أردوغان وأركان حكومته، مرة متصلاً بصديقه هيرتسوغ معزياً بوفاة والدته، وأخرى مستفسراً عن صحة وزير خارجية دولة الاحتلال لبيد بعد إصابته ب "جائحة" كورونا، وكذلك شكر صديقه هيرتسوغ له لتدخله الشخصي في الإفراج عن الزوجين الإسرائيليين على خلفية اتهامهما بالتجسس على تركيا، وكذلك شكره على كشف المخابرات التركية لشبكة مزعومة من "الجواسيس" الإيرانيين كانت تعد لاغتيال أحد رجال الأعمال الإسرائيليين الأتراك.
رغم كل ذلك قالت دولة الاحتلال بأنها حذرة في إعادة علاقاتها مع أنقرة، فأردوغان لا يمكن الوثوق به فهو يرقص على كل الحبال، ولكن يبدو بأن الظروف قد نضجت، بحيث بات أردوغان لا يحتمل البعد عن "المحبوبة"، فالوضع الاقتصادي في تركيا بات على درجة عالية من الصعوبة، الليرة التركية تفقد 40% من قيمتها وتضخم يرتفع إلى 32 %، ولذلك لا بد من الانتقال سريعاً من ضفة إلى أخرى، فالعرش والمصلحة أهم من أي حلفاء وأصدقاء، وخاصة بأن أردوغان هو من حول الحكم في تركيا من برلماني إلى رئاسي جامعاً كل السلطات بيديه بعد فوزه في انتخابات حزيران/2018 .
في الوقت الذي كانت فيه العلاقات الاقتصادية والتجارية بين تركيا و"إسرائيل" تتطور وتنمو باستمرار، كانت العلاقات السياسية تمر بالعديد من الأزمات، فأردوغان كان يريد الاستمرار في خداع وتضليل العرب والمسلمين بأنه القائد الذي يتخذ مواقف متشددة من دولة الاحتلال والتطبيع معها. واستخدم كل "البروباغندا" والصخب الإعلامي من أجل "الضحك على ذقونهم"، لدرجة أننا لحالة العجز التي نمر بها فلسطينياً وعربياً صرنا نرفع صورة في شوارعنا ومحلاتنا التجارية وفي مسيراتنا واعتصاماتنا، والبعض منا بلغ منه الحماس مبلغه ليشبه هذا الأردوغان بصلاح الدين والفاتح للقدس… وهنا في هذه المقالة سأسرد عليكم حول عاطفتنا حادثة في فترة السبعينات كان الأسرى الفلسطينيون في سجن رام الله المركزي يستعدون لخوض خطوة نضالية للمطالبة بحقوقهم، ووقف عمليات قمع وتنكيل إدارة السجن بهم.
إدارة مصلحة السجون الإسرائيلية وأجهزة قمعها استعدت لقمع الأسرى، وكان من بين القوة المكلفة بالقمع سجان عربي درزي يدعى حمدان، في مسرحية وتمثيلية قال بأنه دمه عربي، ولن يشارك بقمع أبناء شعبه… وأثناء قيام قوات القمع الإسرائيلية باقتحام غرف الأسرى، والأسرى يتصدون لقوات القمع وقذفها بكل ما يقع تحت أيديهم من مواد، كانوا يهتفون "دمك عربي يا حمدان"، وحمدان هذا تكشفت التحقيقات مع عدد من المتعاونين مع أجهزة أمن الاحتلال،على أنه من يقوم بتجنيد آخرين مع مخابرات الاحتلال.
وأنا أعتقد بأن الأمور لا تحتاج إلى "جهبذه" وألمعية لتفسير سلوك أردوغان وحزب عدالته وتنميته، والذي يجب أن لا نأخذ الشعب التركي بجريرته، فهذا الشعب بطبعه منحاز لفلسطين وقضيتها ولقدسها وأقصاها، ولكنا دعونا نعود الى ما قبل أيار /2010، وقدوم السفينة التركية مرمرة لفك الحصار عن قطاع غزة وتقديم المساعدات الإنسانية لأهلها، والتي هاجمتها قوات البحرية الإسرائيلية وقتلت عشرة من ربانها.
ورداً على العملية العسكرية التي نفذها جيش الاحتلال على قطاع غزة في 27/ كانون أول/2008 ، في منتدى "دافوس" الاقتصادي في 30 كانون ثاني/ 2009، خاطب أردوغان شمعون بيرس رئيس دولة الاحتلال آنذاك قائلاً "إنكم قتلة ومجرمون تتقنون عملية القتل جيداً" ومن ثم انسحب من المنتدى.
وعند عودة أردوغان لتركيا احتشدت الحشود لاستقباله مهلله وقائلة "حللت أهلاً، بطل دافوس".
عندما وقعت الإمارات اتفاقيتها التطبيعية في أيلول /2020 مع دولة الاحتلال، أطلق أردوغان بحقها عبارات قاسية واصفاً تلك المشيخة وقادتها بالخونة، حيث قال "إن الإمارات خانت القضية الفلسطينية في سبيل تحقيق مكاسب ضيقة"، وأنه سيعمل على سحب سفير تركيا من أبو ظبي وتجميد العلاقات معها، ولكن في أواسط عام 2020، وجدنا أردوغان يسعى للمصالحة مع السعودية ومصر والإمارات التي هاجمها بقوة، في إطار سعيه للتطبيع مع إسرائيل، حيث زار ولي العهد الإماراتي في شهر تشرين ثاني/2021 أنقرة واستقبله أردوغان استقبال الأبطال، وسبقه في زيارة انقرة مستشاره للأمن القومي الشيخ طحنون بن زايد، ومن ثم قام الرئيس التركي بزيارة الى دولة الإمارات، في النصف الثاني من شباط/2022، منقلباً على كل اتهاماته للإمارات بالخيانة والتطبيع وبيع القضية الفلسطينية.
زيارة هيرتسوغ في التاسع من الشهر الحالي لتركيا، أتت في ساق متصاعد نحو عودة العلاقات التركية – الإسرائيلية إلى طبيعتها كعلاقات استراتيجية، لا تقتصر على الجوانب الاقتصادية والتجارية والتعاون في مختلف المجالات والميادين، بل تصل إلى إقامة علاقات تعاون عسكرية استراتيجية، ولعب تركيا دور مركزي في نقل الغاز الإسرائيلي عبر البحر إلى تركيا ومن ثم إلى أوروبا كبديل عن الغاز الروسي، بحيث يستفيد من ذلك أردوغان اقتصادياً، وكذلك توفير الغاز لدولته، ومستقبلاً ستلعب تركيا إلى جانب إسرائيل دوراً كبيرا في الضغط على النظام السوري ومحاصرته من الشمال والجوانب لفك علاقته مع طهران وقوى المقاومة وروسيا.
والعلاقات المتطورة والعائدة لطبيعتها بين تركيا وإسرائيل، ستلقي بظلالها على علاقة حماس بتركيا، حيث سيتم إغلاق مكاتب الحركة ونقل جزء كبير منها لخارج تركيا، ومنعها من القيام بأية أنشطة هناك لا عسكرية ولا حتى سياسية.