طالت الأزمة اللبنانية بتداعياتها جميع المواطنين والمقيمين، غير أنها كانت صعبة جدا على اللاجئين الفلسطينيين، الذين يعتبرون من أكثر الفئات الاجتماعية تأثرا بها، نظرا لانعدام الخيارات أمامهم، وتزامنها مع ضغوط سياسية واقتصادية كبيرة تشن في أكثر من اتجاه، خاصة تجاه وكالة الغوث، التي ما زالت تتعاطى مع ما يحصل في لبنان باعتباره أمرا طبيعيا، ولم تتخذ من الإجراءات ما ينسجم مع تحذيرات تقاريرها ومع مواقف المسؤولين الدوليين الذين زاروا المخيمات في لبنان مؤخرا وتعرفوا على حقيقة الكارثة وفي مقدمتهم أمين عام الأمم المتحدة..
قد لا نختلف كثيرا مع القائلين بأن الحكومة اللبنانية معنية بدعم مواطنيها أولا وبتوفير المقومات الحياتية لهم، وهذه مسلمة لا نقاش فيها، ولم يطرح أحد مساواة اللاجئين الفلسطينيين مع المواطنين اللبنانيين، لكن هناك قضايا إنسانية يجب على الدولة اللبنانية الاستجابة لها انطلاقا من مسؤولياتها الإنسانية والأخلاقية وحتى القانونية.. وطالما أن اللاجئ والمقيم مطالب بالالتزام بأحكام القانون وبمترتبات النظام العام، فإن واجب الدولة ومؤسساتها المختلفة التعاطي مع المتواجدين على أرضها على قاعدة الحقوق والواجبات، ومن أجل الحفاظ على الأمن الاجتماعي باعتباره حزمة متكاملة لا يمكن فصل عنصر عن بقية المنظومة، بعناصرها السياسية والأمنية وأيضا القانونية والاقتصادية والاجتماعية.
لن يدخل اللاجئ الفلسطيني في تنافس مع المواطن اللبناني ومزاحمته على لقمة عيشه، فهذا أمر لم يطرح من قبل أي مسؤول أو إطار فلسطيني، ولا يطالب اللاجئ بأن تكون مؤسسات الدولة اللبنانية وسيطا أو طرفا في تأمين فرص العمل له، بل إن كل ما يريده اللاجئ هو الحماية القانونية، وهذا ينبغي أن يكون أيضا بديهية انطلاقا من طبيعة وبنية الاقتصاد اللبناني القائم على المبادرة الفردية. ورغم أن الشعبين الشقيقين وفي مراحل مختلفة، تقاسما الخبر والماء، وتشاركا المعاناة، إلا أن هناك من لا يريد أن يتعلم من تجارب ودروس التاريخ، ويسعى بشكل دائم إلى العودة بجمهوره إلى مرحلة الحرب الأهلية في لبنان والدور الفلسطيني فيها، علما أن الفلسطيني ما زال قادرا على استحضار التاريخ ليقدم ما في جعبته عن دور هذا وذاك.
نقول هذا الكلام وأمام أعيننا اوضاع اقتصادية صعبة يعيشها اللاجئون الفلسطينيون نتيجة عوامل وأسباب عدة، نطرحها من باب المسؤولية الوطنية التي تضغط على الجميع وتتطلب تعاونا وتنسيقا لبنانيا وفلسطينيا، وربما دوليا، لمعالجة صحيحة آن الأوان لتطرح على طاولة البحث المشترك، وعدم الهروب من حقيقة أن هناك استهدافا سياسيا واقتصاديا واضحا للاجئين الفلسطينيين، وهذا أمر برسم الهيئات والأطر الفلسطينية المختلفة، ونجاح هذا الاستهداف سيضرب بالصميم مصالح الطرفين الفلسطيني واللبناني، بما فيها مصالح أصحاب الثقافة العنصرية الذين يعتاشون بشكل يومي على معاداة الفلسطيني.. ولا نبالغ في القول إن هناك حربا تشن على الفلسطيني وتتوزع أطرافها على قوى محلية تتقاطع مصالحها السياسية والاقتصادية مع مصالح قوى خارجية، وقد لا نحتاج كثير عناء كي نؤكد ذلك:
- الإجراءات التي اتخذتها الحكومة اللبنانية في أوقات سابقة، حتى لو كان بعضها لم يدخل حيز التطبيق العملي، البطاقة التمويلية، إلا أنها تعاطت مع اللاجئين الفلسطينيين بشكل تمييزي.. حتى أن عددا واسعا من البلديات، ورغم أن بعض المخيمات يقع في محيطها، استثنت الفلسطينيين من تقديماتها الإغاثية والاقتصادية..
- العديد من الدول المانحة تعمل ومنذ أعوام على تسييس مساعداتها، وهي تركز دعمها "الإنساني" باتجاه مؤسسات المجتمع المدني العاملة في الوسط اللبناني، وتتجاهل حقيقة أن الأزمة تنعكس على جميع المقيمين، وأن المجتمع الفلسطيني يحتاج، كما اللبناني، إلى الدعم المعيشي والحياتي، لأن ما يقدم من قبل المؤسسات العاملة في الوسط الفلسطيني لا يكاد يساوي شيئا مقارنة بالاحتياجات الكبيرة جدا.
- ولأن أطرافا لبنانية نافذة ومؤثرة في القرار اللبناني، تصر على التعاطي من اللاجئين الفلسطينيين بشكل استخدامي يفتقد إلى الحد الأدنى من الحس الإنساني، وتقدم اعتبارات المصالح السياسية والطائفية على الاعتبارات القانونية والإنسانية، بل تسعى لتطويع المؤسسات الرسمية لصالحها.. والنماذج على ذلك تكاد لا تحصى..
إضافة إلى ذلك، وحين طرحت مشاريع قوانين على البرلمان اللبناني عام 2010، انقسم البرلمان، كما القوى اللبنانية، بين مؤيد ومعارض وصامت، إلى أن خرجت التعديلات القانونية بصيغتها المعروفة التي ما زالت أسيرة أدراج وزارة العمل. وفي حينها، كان واضحا أن تلك التعديلات، وبالطريقة التي أقرت فيها، وضعت كي لا تنفذ، ما يطرح مشكلة جدية ليس بين اللاجئين الفلسطينيين وقوى طائفية لبنانية فقط، بل ومع بعض المؤسسات الرسمية التي تتخذ من بعض الثغرات القانونية حجة وذريعة لزيادة التشدد في التطبيق القانوني وبشكل استنسابي مقصود..
ويمكن الاستشهاد بثلاثة نماذج حدثت على مستوى وزارة واحدة فقط هي وزارة العمل، لنتيقن أن هناك من يتعمد استهداف الفلسطينيين في إجراءاته، حيث برز الاختلاف واضحا بين عدد من الوزراء، سواء في نظرتهم إلى الوجود الفلسطيني أو في طريقة تطبيق القوانين المتعلقة بهذه الوزارة:
الأول، حين أصدر وزير العمل الأسبق شربل نحاس مراسيم تنفيذية للتعديلين القانونيين اللذين أقرهما البرلمان اللبناني بشأن منح العمال الفلسطينيين حقوقا محدودة جدا، قام الوزير الذي خلفه، سليم جريصاتي، بإلغاء هذه المراسيم.. ولعل الاستغراب هو أن الكتل النيابية التي صوتت مع القانون لم تكلف نفسها عناء الاستفسار عن سبب هذا الإجراء من قبل وزير رفض تطبيق قانون لمجلس النواب، بل لم تعمل على الطعن فيه أمام الهيئات القضائية المعنية، ما يعني أن هذه المسألة ليست على درجة من الأهمية التي تستحق المتابعة بالنسبة لكل هؤلاء!
الثاني، عندما تسلم الوزير كميل أبو سليمان، من حزب القوات اللبنانية، وزارة العمل عام 2019، كان أول إجراء على طاولته هو طرح خطة طالت العمالة الفلسطينية وقضت بإيقاف العديد منهم عن العمل حتى يستحصلوا على إجازات عمل. وفيما رأى الوزير بهذه الإجراءات "تطبيقا للقانون"، رأى وزراء عمل سابقون أنها غير قانونية وتتناقض مع نصوص التعديلات القانونية، رغم أن مجلس الوزراء شكل لجنة لدراسة هذا الأمر بعد الاحتجاجات الواسعة التي شهدتها المخيمات، إلا أن هذه اللجنة لم تجتمع ولو لمرة واحدة نتيجة انقلاب المشهد، بعد التحركات الشعبية اللبنانية التي أدت في وقت لاحق إلى استقالة الحكومة..
الثالث، عندما أصدر وزير العمل الحالي مصطفى بيرم قرارا إداريا سمح بموجبه، واستنادا إلى الصلاحية التي يمنحها له القانون، حقوقا محدودة للعمال الفلسطينيين.. وهذا الإجراء لم يرتب أي أثر قانوني، وأبقى على الشروط التي يفرضها قانون العمل، إلا أن البعض حمّل هذه الخطوة المحدودة، شكلا ومضمونا، أبعادا سياسية وقانونية بشكل مبالغ فيه لدرجة الجنون.. تلا ذلك تقديم الرابطة المارونية لطعن أمام مجلس شورى الدولة الذي أصدر قرارا قضى بوقف مفعول قرار وزير العمل..
رغم كل ذلك، فقد أكدت تجربة السنوات الماضية أن الحالة الفلسطينية في لبنان مارست سياسة وطنية مسؤولة، وصمدت في وجه كل الضغوط التي حاولت زجها في الصراع اللبناني، ومن قبل أطراف عدة، وفي بعض الأحيان دفع الفلسطيني أثمانا باهظة للحفاظ على موقفه، غير أن القوى السياسية المحلية، ورغم أن عددا واسعا منها يقدرون للفلسطيني في مجالسهم الداخلية سياسة النأي بالنفس، إلا أن هذا التقدير لم يترجم بسياسات عملية تعزز هذا الموقف الفلسطيني، وما زالت الخارطة السياسية والطائفية للقوى الحزبية في لبنان على حالها في نظرتها إلى الحقوق الإنسانية.. ويمكن تقسيم المجموعات اللبنانية في تعاطيها مع الموضوع الفلسطيني إلى أربع:
الأولى هي التي تنطلق في تعاطيها مع الوجود الفلسطيني في لبنان من منطلق طائفي، وهي موجودة في مؤسسات السلطة البرلمانية والتنفيذية وعلى مستوى المؤسسات الأمنية والعسكرية والقضائية وفي أجهزة الإعلام والنقابات.. وعادة ما تتخذ موقف العداء الدائم من كل قضية إنسانية محقة خاصة باللاجئين الفلسطينيين.. وهذه الفئة ورغم خلافاتها الكبيرة التي تصل إلى درجة التناقض بحكم خياراتها السياسية، تكاد لا تتفق على قضية واحدة إلا قضية العداء للفلسطيني وحقوقه الإنسانية وأحيانا وجوده، ودائما ما تذهب في نقاشاتها إلى مراحل الحرب الأهلية التي شاركت فيها جميع قوى السلطة في لبنان، لكن الطرف الوحيد الذي لا زال يدفع فاتورتها هم اللاجئون الفلسطينيون..
الثانية موجودة أيضا في مؤسسات السلطة وأجهزتها المختلفة وتتعاطف مع القضايا الإنسانية للاجئين، لكنها لا تتخذ من الإجراءات المباشرة ما يترجم هذا التعاطف إلى واقع تشريعي وقانوني يراعي الواقع الخاص للاجئين الفلسطينيين، وهي تعطي الأولوية للتحالف مع بعض مكونات المجموعة الأولى، حتى وإن كانت تقر أنها تبالغ في موقفها من فلسطينيي لبنان، لكن بالإجمالي العام هي ليست مستعدة لفتح معركة سياسية من أجل إقرار ما يتيسر من حقوق الفلسطينيين، والدليل على ذلك أنه عندما أقر قانون منع اللاجئين الفلسطينيين من التملك في لبنان كان التصويت بإجماع الحضور، سواء المعادين للحقوق الفلسطينية أو المتعاطفين معها..
الثالثة موجودة في البرلمان اللبناني، لكنها بعيدة عن مؤسسات الدولة اللبنانية، وهي مجموعة تنتمي إما إلى أحزاب أو مستقلين وتؤيد بدون تحفظ إقرار الحقوق الإنسانية، وتعبر عن مواقفها صراحة في منابرها ومواقفها السياسية، لكنها لا تملك من الأوراق ما يمكنها من فرض مواقفها بتشريعات قانونية، رغم أن هذه الفئة صوتت في السابق مع قانون منع الفلسطيني من التملك..
المجموعة الرابعة هي خارج إطار مؤسسات الدولة، وتتوزع على أحزاب ومؤسسات مجتمعية وشخصيات سياسية وفكرية ونقابية وتؤيد الحقوق الإنسانية الخاصة باللاجئين الفلسطينيين، لكن هذه المواقف لا إمكانية فعلية لترجمتها على مستوى مؤسسات الدولة، غير أنها مهمة جدا في توسيع دائرة الدعم السياسي والشعبي اللبناني للحقوق الإنسانية وأيضا في خلق حالة من الوعي والتفهم الشعبي اللبناني لأوضاع الفلسطينيين وخصوصيتهم في لبنان.
ويمكن ملاحظة حقيقة أنه ومنذ أن أقرت الحالة الفلسطينية في لبنان سياسة النأي بالنفس، يلاحظ أن هناك مسارا انحداريا في تعاطي المؤسسات الرسمية مع الملف الفلسطيني في لبنان، ولعل السبب في ذلك هو طبيعة الخارطة السياسية والنيابية اللبنانية والتي عادة ما يقع الفلسطيني ضحية انقساماتها.. فبعض القوى السياسية الطائفية مثلا تتحالف مع قوى سياسية من طائفة أخرى، وهذا ينطبق على ضفتي ما كان يعرف بـ قوى (14) و (8)، وبالتالي فإن على الفلسطيني أن يوحد جميع اللبنانيين إذا ما أراد الحصول على مجرد قرار إداري فقط وليس تشريعا قانونيا الذي لا يحتاج إلى إجماع لبناني، بل ربما إلى إجماع عربي ودولي، وأي رفض من كتلة برلمانية أو حزب ذا لون طائفي معين، فهذا يعني على الواقع أن لا إمكانية لتمرير أي قرار أو قانون، أي أن المطلوب من الحالة الفلسطينية أن توحد الشعب اللبناني ومجموعاته السياسية والطائفية والحزبية كي تتمكن من الحصول على الحد الأدنى من احتياجاتها الإنسانية.
نقول هذا الكلام ليس من زاوية إعادة النظر بالموقف الإجماعي الفلسطيني بتحييد الحالة الفلسطينية في لبنان وإبعادها عن الخلافات السياسية اللبنانية، بل من زاوية تقديم الحالة الفلسطينية باعتبارها تجمعا فلسطينيا، كما عليه واجبات تجاه الدولة المضيفة، فله أيضا حقوق ويجب أن تحترم.. أان عدم انحياز الفلسطينيين إلى تيار سياسي لبناني، يعني أن هناك قناة رسمية لبنانية هي المؤسسات المعنية (سلطات تنفيذية وتشريعية وقضائية)، لكن عندما تصبح المؤسسات الرسمية هي ذاتها موضع تجاذب وانقسام، فهذا يعني أن المشكلة هي لبنانية بالأساس، وبالتالي ليست هناك جهة رسمية يستطيع الفلسطيني التعاطي معها، وهذا ما يجعل من سياسة النأي بالنفس من قبل الفلسطينيين خالية من أي مضمون فعلي، ولا يمكن البناء عليها مستقبلا للوصول إلى مقاربات مشتركة تخدم مصلحة الشعبين الشقيقين.. وبالتالي وجب على جميع الوطنيين اللبنانيين والفلسطينيين البحث عن أشكال نضالية أخرى تستطيع اختراق جدار المنع والحصار الذي ما زال مرفوعا في وجه الفلسطيني منذ النكبة عام 1948.
*عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين