الحدث الثقافي- فراس حج محمد
سؤال اللغة هو السؤال الأهم في الشعر، فالذي يحفظ اللغة ويديم استعمالها ويجدد حضور مفرداتها هو الشعر، والأمثلة على هذا كثيرة، ويكفي للتدليل على ذلك أمثلة من قبيل الشاعر الروسي ألكسندر سيرغييفتش بوشكين الذي ارتبط اسمه باللغة الروسية، فليس هو أبا للأدب الروسي فقط، بل أب للغة الروسية أيضا ومحييها، والشيء نفسه يقال عن الشعراء الكبار كوليم شكسبير والمتنبي والفرزدق، وغيرهم. لذلك تجد هؤلاء الشعراء ارتبطوا بلغاتهم وزخرت المعاجم بالشواهد الشعرية من قصائدهم التي تحتفظ بالألفاظ بسياقاتها الطبيعية. ولولا أن القرآن الكريم كتاب ديني بالدرجة الأولى لكان له هذه المهمة، إلا أن اللغويين بعقبريتهم في النظر إلى طبيعة القرآن جعلوا الشعر أولا قبل القرآن الكريم في مسائل اللغة وفسروا القرآن بالشعر، وسبق أن تحدثت في هذه النقطة في غير مقال، فلا أريد العودة إليها.
إذاً المعول عليه الأول في الشعر هو الألفاظ، ودلالاتها، ووهج استخداماتها الشعرية، وبعث جزء من المعجم من مرقده، فما المعاجم سوى بنوك ألفاظ مجمدة، يأتي الشعر ويعيد تلك الألفاظ إلى الحياة، فلا حياة للفظ دون سياقه اللغوي الثقافي، وأعلاها توهجا هو السياق الشعري. هذه الفكرة راودتني وأنا أقرأ ديوان الشاعرة ندى أبو شاويش المعنون بـ "أنثى البنفسج". وظلت تحوم في رأسي وأتابعها من أول نص في الديوان إلى آخر جمله فيه، فما الجديد الذي في هذا الديوان؟
لا شك في أن صنعة الشاعر اللغة أولا وأخيرا، وليس المضمون كما يظن البعض، فالمضمون تجده خارج السياق الأدبي برمته؛ تجده في عناوين الأخبار، وفي عروض الأزياء، وفي تقارير المشافي وحوادث الطرق، وفي أحاديث الجيران واستغابات النساء. لا يعول على المضمون في التجربة الشعرية، لأنه بدهيّ، فلا لفظ دون مضمون، وإنما كيف جاء المضمون وما هي ألفاظه. هنا يكمن الشعر، والشعر بهذا يعرف ويقاس.
اعتمدت لغة ديوان "أنثى البنفسج" على لغة مقدودة ببراعة من لحم اللغة المعجمية لتعيد بعثها في النصوص، وهذا لا يعني بحال من الأحوال غرابة الألفاظ المستخدمة، إنما تلك الألفاظ التي تصدمك وأنت تجدها عادية خارج الشعر وإذا بها شعرية في سياق النصوص الشعرية في هذا الديوان، مع تآلف إيقاعيّ سلس ومتناغم، لغة فيها من الرقة والعذوبة ما في المرأة والوردة من جمال وجاذبية.
لقد تشكلت من هذه اللغة صور شعرية لها طزاجتها وفرادتها التي لا تخفى على القارئ الذي تستوقفه كثير من الصور، وهي كثيرة جدا مبثوثة في النصوص، أمثل عليها بهذه الصورة المركبة التي تشكلت من عدة بناءات لغوية، كل وحدة منها صورة أيضا، وجاءت بسلاسة واضحة المعنى غير معقدة:
أرى ظل المارة بانعكاس أخيلة نوافذي
كانت تغوي الستائر
أرسلت قبلات المرايا على أشباح البرد
أرى أرملة من بيتها الزجاجي
حبلى بالقناديل
أنجبت خيمة على صراط العهد (ص69)
ففي كل سطر من هذا المقطع صورة مصنوعة بحدس جمالي واضح الرؤى، فلو أعاد القارئ المقطع وتأمل كل جملة لرأى ما فيها من صور متعامدة متوافقة سلسة بهية المعنى غير غامضة، ومن هذه السلاسة تتولد دهشة الشعر في هذا الديوان، فأنا بشكل شخصي أنحاز إلى هذا النوع من الشعر الذي يفتح جرح شاعره وقارئه على حد سواء دون أن يؤلمه، ودون أن يقف الغموض حائلا بين الشعر وذات الشاعر والقارئ، مع احتفاظه بأدبيّته العالية، فلا هو مباشر فظّ، وليس هو أيضا منغلقا حادّا. إنه مشغول بمنطقة ما بين الحدس والفكر ليستطيع التأثير وأن يتابع حياته في نفس كل من يقرأه، وبذلك يحترم إنسانية القارئ وعقله، إذ يرتفع وترفّع عن السذاجة والبساطة والسطحية في العبارات المصوغة.
من سيقرأ "أنثى البنفسج" عليه أن يتأمل كثيراً من الصور التي فيها هذه الجدلية اللافتة المصنوعة من العاديّ المعروف التي ترفعه الشاعرة إلى مراقي الشعر لعل ربة الشعر ترضى، ولعلها رضيت بذلك رضى تاما. فما الشعر إلا لغة وصورة وأسلوب، وهذا ما سأوضحه فيما يأتي بخصوص الأسلوب أيضاً.
يومئ الديوان أيضا إلى أمرين آخرين أحب أن أضيء عليهما لهما علاقة بالأسلوب، أما الأول فهو تقنية كتابة الشاعرة للقصيدة، وهذا محض توصيف لا يحمل أي نوع من أنواع التقويم، وإنما يشير إلى كيفية كتابة الشاعرة لنصوصها.
يظهر من خلال مفتتح القصائد أن الشاعرة تبدأ النصوص بجمل عادية، ثم تبدأ اللغة بالتصاعد نحو الشعري والغرق في لحظة الكتابة، على ماذا يدل هذا؟ في أغلب الظن أن الشاعرة تتقصد كتابة الشعر، ولا يأتيها الإلهام كما يدعي الشعراء الآخرون، فهي تذهب إلى القصيدة تستمطر اللحظة واللغة وتبدأ بحياكة الشعر، إن صناعة القصيدة هنا أشبه ببدء لاعب الأكروبات ألعابه وحركاته التي تحمل هاجسا من المخاطرة والمغامرة، يبدأ بطيئا عاديا ثم تأخذه اللحظة فيدهش كل من يراه ويستولي على حواسه وعقله. الشاعرة ندى أبو شاويش تفعل الشيء نفسه. هذا أيضا يشير إلى أن لها طقوسا للكتابة ولا تسمح لربة الشعر أن تفترسها أو تسيطر عليها، إن لها وعيا حقيقيا يحركها نحو الكتابة الشعرية، معتمدة على أن السطر الأول في الشعر ليس "هبة الغيب" كما يقول محمود درويش وإنما هو اقتناص واستحضار، وفي هذا شبه كبير بعمل الساحرات المدربات اللواتي لا يسمحن لأحد أن يسيطر على لحظاتهن في العمل، ربما وجد القارئ هذا الملمح قويا في نصوص الديوان: "نقيض حوار"/ ص12، و"كأن لا صدى لذاتي"/ ص58، و"أشجان نادل الحانة"/ ص69، وهذه مجرد أمثلة عشوائية، ومثلها الكثير في قصائد الديوان. وربما لا أكون مبتعدا عن الحقيقة لو قلت إن كل نصوص الديوان تبدأ بهذه الكيفية.
أما الأمر الثاني اللافت للنظر، وربما له علاقة بالأمر الأول، فهو وجود مقاطع مستقلة المعنى والتركيب داخل سياق القصيدة، يصلح كل مقطع منها أن يشكل نصا قصيرا جدا يمارس حياته النصية مستقلا عما سواه، ضمن ما يعرف بقصيدة "الومضة"، وتكثر هذه المقاطع في القصائد، وتتقطر وتتكثف حتى تصبح سطرا شعريا قصيرا دالاً، من مثل: "وحيدة أسمع الصدى المتقمّص صوتي"/ ص80، وكذلك قولها: "تلاشت ملامحي برؤياك"/ ص103. لعل هذا يومئ إلى قدرة الشاعرة على تكثيف المعاني في صور شعرية لها دلالتها في صنعة الإبداع، كما أنه ينبئ عن قدرة شعرية في كتابة القصيدة القصيرة جدا، كما كتبها الشعراء الكبار من أمثال سميح القاسم ومريد البرغوثي على سبيل المثال.
أظن أن ما يحيل إلى هذه التقنية في الكتابة هو ما وضحته في أمر الكتابة آنفا، فالشاعرة يسيطر عليها هاجس النص الطويل الذي تعمل على تركيبه أحيانا من عدة نصوص قصيرة، كأنها في مشغل أو ورشة، تعمل على نصوصها بحرفية وصناعة واعية تماما ومسيطر عليها ذهنيا، أعتقد أن تلك النصوص القصيرة كتبت مستقلة في لحظات شعرية معينة، وهذا لا يحمل أيضا أي مدلول في الصواب والخطأ، وإنما فقط محاولة الكشف عن الكيفية التي تبني بها الشاعرة بعض نصوصها وليس كلها.
إن هذه السمة من الكتابة الشعرية تقرّب الشاعرة من مفهوم "الشعر الصافي" الخالي من الزوائد اللغوية والثرثرة التي تفقد الشعر أهميته في وضوح الموهبة الشعرية، وبذلك تفكر الشاعرة بجد واجتهاد وبصيرة كيف يمكن لها أن تختصر المسافة للوصول إلى هذه المرتبة من الشعر الذي فكر فيها الشعراء العملاقة، وطمحوا أن يصلوا إليها، بل إن درويشا كان دائم التفكير بهاجس "الشعر الصافي"، ففي أحد حواراته تردد هذا المفهوم على لسانه مرات كثيرة.
إن الخبرة الشعرية لدى الشاعر- أي شاعر- تقول إن الشعر الحقيقي يختبئ في هذا المفهوم، وهو غير بعيد مثلا عن أشعار أمين نخلة، صاحب الشعر المقطر المصفى، إذ تجد أن لا شيء ينقصه، وأن أي إضافة تفسده، ولو كانت تغييرا في حرف أو ضبط إعرابي أو وقف.
إن ديوان "أنثى البنفسج" للشاعرة ندى محمد أبو شاويش إشراقة شعرية حقيقية أضاءت في سماء الشعر العربي والفلسطيني، لعلها ستتابع إشعاعاتها الشعرية، فتبحث في مناطق أخرى بكر، وتتأمل جملتها الشعرية أكثر وأكثر، ليكون لنهاية الديوان معنى شعري ينبئ عن قادم أسطعَ إشراقا وجمالا: "سأعود بعد الطوفان حمامة سلام/ وللحنين بقية"/ ص134.
لعلها بحسّها الشعريّ الجماليّ العالي تستطيع أن تتخلص من بعض ما يشوب شعرها ويعكر صفوه، لتكون شاعرة لها بصمتها المميزة في سياقنا الأدبي الثقافي، لتعود إلى القارئ وقد تماهت مع أعماقها، لتستخرج من لؤلؤها المكنون لتصنع منه عقدا فريدا يزيّن نحر الشعر، ليس فلسطينيا وحسب، وإنما على المستوى العربيّ أيضا.