الحدث- محمد غفري
أجمع خبراء ومختصون في الشأن الاقتصادي الفلسطيني، أن الظروف الراهنة سواء الاقتصادية أو السياسية لا تشجع على إنشاء بنك مركزي فلسطيني، وإنما الإبقاء على سلطة النقد كما هي عليه.
جاء ذلك في وقائع ورشة عمل عقدها ونظمها الاتحاد العام للاقتصاديين الفلسطينييين في مقر الاتحادات والمنظمات الشعبية في رام الله، وتحدث فيه كل من الخبير المالي والاقتصادي د. جمال السلقان، والمحلل الاقتصادي د. نصر عبد الكريم، لمناقشة مسودة قانون البنك المركزي الفلسطيني المقترحة من قبل محافظ سلطة النقد.
وقال رئيس الاتحاد العام للاقتصاديين الفلسطينيين نبهان عثمان، في حوار خاص مع "الحدث"، على هامش ورشة عمل عقدها الاتحاد، اليوم الثلاثاء، في مدينة رام الله، لنقاش مسودة قانون البنك المركزي الفلسطيني وتداعياته، إنه طالما هناك صلاحيات لسلطة النقد متوفرة وموجودة، فلا حاجة لإنشاء بنك مركزي، لوجود آثار سلبية كثيرة له على السياسات الاقتصادية والمالية، خاصة أنه ليس لدينا سيادة اقتصادية ولا سيادة سياسية.
وأضاف عثمان، أن الاحتلال الإسرائيلي سيعيق كل شيء، وإصدار عملة فلسطينية غير وارد إطلاقاً في ظل الاحتلال.
وأكد أن توصيات المشاركين في ورشة العمل سترفع إلى الرئيس محمود عباس، من أجل الأخذ بها.
وقال د. جمال السلقان إن القانون المقترح ليس له أي مبرر من النواحي القانونية والاقتصادية أو النقدية، لأن قانوني سلطة النقد والمصارف يفيان بكافة المتطلبات التي تقتضيها الضرورة الاقتصادية والقانونية وليس هناك ثمة فراغ يوجب إصدار قانون يستبدل سلطة النقد ببنك مركزي، بل على العكس فإن بقاء اسم المؤسسة كسلطة نقد يعطيها مرونة أكبر من حيث اتساع نطاق الخيارات أمامها حاليا وفي المستقبل، بحكم أن الاسم ذو طبيعة محايدة، ويسمح بالتالي للسلطة النقدية ممارسة مهام مجلس العملة أو ما يعرف بـ "Currency Board" الذي قد يكون خيارا مفضلا في المستقبل عند التقرير بماهية سياسة ونظام سعر الصرف الذي ستتبناه فلسطين، بالمقارنة مع خيار "البنك المركزي" الذي يحدده القانون المقترح، فإن هذه المرونة ستتلاشى لأنه يحدد هوية المؤسسة وسعر الصرف على نحو واجب بحكم القانون، وهذا له مخاطر كبيرة على الاقتصاد الفلسطيني.
وأضاف السلقان، أن هناك شروطاً مهمة لإصدار النقد الوطني، أهمها وجود اقتصاد مستقل وقوي بدرجة معقولة قادر على إنتاج ميزان مدفوعات قوي ومستدام يضمن توفير قدر كافي العملات الصعبة كإحتياطي للعملة الوطنية المصدرة، ومن الشروط أيضا وجود مالية عامة فلسطينية تضمن عدم تحويل الدين إلى نقود ما يرهق الاقتصاد الوطني بضغوط تضخمية تستدعي تخيض قيمة العملة الوطنية وتآكل قيمتها الشرائية ما يطيح بوظيفة هذه العملة كوسيلة للتبادل التجاري وتغطية المدفوعات وكمستودع للقيمة.
وأشار إلى أنه من شروط إصدار العملة توفر الخبرات والكفاءات الوطنية لإدارة وتحديد سياسات سعر الصرف وهي معقدة، وكذلك وجود سوق مالي ونقدي متطورين يسمحان بإصدار وتداول الأدوات المالية على اختلاف أنواعها.
وحول معطيات الاقتصاد الفلسطيني إزاء هذه الشروط والمتطلبات، قال السلقان إن الاقتصاد الفلسطيني يستهلك أكثر مما ينتج ويعاني من عجز تجاري مزمن يقارب الـ 5 مليارات دولار، ما يضطر اللاعبين الاقتصاديين في فلسطين إلى الاقتراض أو الاعتماد على منح الآخرين، كما أن أرقام الدين العام تشير بوضوح إلى خلل مستدام في إدارة الموازنة العامة للحكومة ووصول الإقراض المحلي للحكومة إلى الحد الأقصى الذي يسمح به قانون الدين العام.
وتطرق إلى الفاقد الذي يخسره الاقتصاد الفلسطيني من خلال استعمال الشيقل كعملة رسمية، مبينا أن مقدار العجز التجاري المقارب لـ 5 مليار دولار يتم حقنه للاقتصاد الفلسطيني بالعملة الصعبة القادمة من الخارج ببشكل هبات وقروض وتحويلات ثم نقوم بشراء الشيكل من بنك "إسرائيل" بالجزء الأكبر من هذا المبلغ لتمويل العجز التجاري مع إسرائيل، ما يعطي الاقتصاد الإسرائيلي دعما كبيرا من جراء استقرار العملة الصعبة لديه، في حين يخسر الاقتصاد الفلسطيني أي ميزة في هذا السياق، ما جعل إسرائيل المستفيد الأكبر من ميزة "السينيوريج" الناتجة عن استخدام الشيكل في السوق الفلسطيني، كعملة رئيسية بمقادير مساوية للفرق بين عوائد استخدام الشيقل وتكلفة إصداره بالنسبة للبلد المصدر "إسرائيل"، مقترحا أن يتم الشروع بخطوات للحد من هذه الخسارة، لافتا إلى وجود متسع لذلك وبدون اصدار عملة فلسطينية (لعدم توفر الامكانيات لذلك)، وهذا أكثر أولوية من تحويل سلطة النقد الى بنك مركزي.
وتقدم السلقان بمجموعة أفكار لإجراء إصلاحات هامة في سلطة النقد، بما في ذلك إعادة دراسة نسب الإحتياطي الإلزامي المطبقة على البنوك العاملة في فلسطين وعلى جميع العملات، وقال إن بقاء الوضع على ما هو عليه يعني أن سياسة نقدية انكماشية تطبقها سلطة النقد في حين أن المطلوب هو التوسع وتشجيع الائتمان، وتحدث باسهاب عن امكانيات إصلاح ما يسمى ب "بشباك الخصم" الذي يمكن للسلطة النقدية ممارسته.
وبخصوص القانون المقترح أوضح أن القانون يعطي صلاحيات واسعة للمحافظ ويجعله بمنآى عن مراقبة ديوان الرقابة الادارية والمالية ورقابة المجلس التشريعي ويتخطى قانون مكافحة الفساد الذي يلزم كل من يعمل بالخدمة العامة على تقديم إقرار بالذمة المالية لديه ويجعل المحافظ مشرعا ومنفذا ومراقبا وشخصاً فوق القانون، بل أن مجلس الإدارة المقترح وفق القانون لن يكون لديه اي سلطة فعلية على أداء المحافظ وعليه أن يكتفي بما يعلمه به المحافظ.
وقال السلقان إن التحول لبنك مركزي لن يخدم توجهات فلسطين في المحافل الدولية بتحولها لدولة، بل على العكس سيضر به لأنني أخشى من أن يثير هذا القانون سخرية المراقبين الدوليين، وسيكون بإمكان البعض بعدها القول أنظروا إلى مؤسسات هذه الدولة التي ستطبع عملة وطنية بلا أي مقومات وبدون أي خبرة.
من جانبه، أكد الخبير الاقتصادي نصر عبد الكريم، أن إنشاء بنك مركزي ليس أولوية في هذا الوقت، وقد نكون بحاجة لذلك في وقت لاحق، لأنه لا يشكل دعامة للاقتصاد الفلسطيني في ظل وجوده، وغيابه لا يشكل عائقا، وبالتالي وجود بنك مركزي من عدمه لا يتعدى سوى دلالة رمزية سيادية في ذهن البعض ولن يحمل قيمة اقتصادية كبيرة، وسلطة النقد تقوم بوظائفها وبنفس الدور.
وقال عبد الكريم لـ"الحدث"، "العوائق أمام الاقتصاد الفلسطيني وإدارته نابعة من أمرين، الأول هي الاتفاقات الموقعة مع إسرائيل والقيود التي وضعت على سيادة السلطة، والثاني الأمر الواقع الذي يفرضه الاحتلال الإسرائيلي يوما بعد يوم".
ولا يعتقد عبد الكريم، أن البنك المركزي الفلسطيني في حال إنشائه يستيطع إصدار عملة فلسطينية، لأن أهم شرط في العملة أن تحافظ على القيمة، فعندما تكون العملة ذات قيمة واستقرار ومحمية، ويتقبل الناس على شرائها وتأخذ بها، لكن إذا كانت العكس يتهرب منها الناس، وتصبح هامشية، لذلك الظروف المحيطة غير مهيئة لإصدار عملة تكون قادرة على أن تحفظ القيمة.
ورداً على سؤال مراسل "الحدث" حول أبر الملاحظات عن النصوص القانونية التي جاءت في مشروع قانون البنك المركزي، تحدث عبد الكريم موضحاً، أن هذه النصوص بحاجة إلى تدقيق، لأن بعضها يخدش الاستقلالية لصالح الرئيس والسلطة التنفيذية ولا يعطي دور كبير للتشريعي، كذلك الحوكمة منقوصة وتحتاح إلى إعادة صياغة وتوزيع الأدوار في داخل البنك وخارجه، وأيضا هناك ضعف باتجاه الرقابة والمساءلة للقائمين عليه في تأدية، مؤكداً "هذه المسائل الثلاث يجب أن نعيد النظر فيها في كل بند من البنود، وتناقش بروح إجابية، حتى يتم التوصل إلى بنود في حال الاستمرار في إنشاء البنك المركزي".
ومن المقرر أن يتم رفع مشروع قرار القانون بشأن البنك المركزي إلى الرئيس محمود عباس حتى يصادق عليه، لكن أمين عام المجلس التشريعي حسن خريشة، قال إن القانون أعطى الرئيس حق إصدار قوانين بمراسيم رئاسية عندما تحمل صفة الضرورة التي لا تحتمل التأجيل.
لكن خريشة أكد لـ"الحدث"، أن هذا القانون لا توجد به صفة الضرورة ويحتمل التأجيل إلى أي وقت، مضيفاً أن هناك الكثير من القوانين التي أصدرها الرئيس كمراسيم معظمها في الجانب الاقتصادي والاستثمار، وأستغرب أن من يدعون إلى انعقاد المجلس التشريعي، يعملون على استصدار قوانين بمراسيم رئاسية، وهو ما يغيب دور المجلس التشريعي وعودته للإنعقاد.
على الجانب الآخر، يرى عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير محمود إسماعيل، أن إنشاء بنك مركزي فلسطيني، هو موضوع مفصلي أساسي في التوجه إلى بناء الاقتصاد الفلسطيني من أجل فك الارتباط بالاقتصاد الإسرائيلي المتمثل في اتفاقية باريس الاقتصادية.
وأكد إسماعيل، "أننا حصلنا الآن على دولة شبه عضو في الأمم المتحدة، ونعمل للحصول على دولة فلسطينية مستقلة، لذلك يتوجب علينا أن نبدأ العمل على بناء الاقتصاد الفلسطيني والمؤسسات الحكومية حتى تكون جاهزة للدولة المستقلة وعاصمتها القدس".
ويحوي مشروع قرار قانون البنك المركزي الفلسطيني، على 77 مادة، سيتم رفعها إلى الرئيس من أجل المصادقة عليها، وبالتالي تتحول صلاحيات سلطة النقد إلى البنك المركزي الفلسطيني بما فيها إصدار عملة مستقلة.
وتركزت المشاركات خلال ورشة العمل من الخبراء وأعضاء المجلس التشريعي والشخصيات رسمية، على انتقاد المواد القانونية التي جاءت في مشروع القانون، أو على الفكرة أساسا المتمحورة حول إنشاء البنك المركزي.
عضو الوفد الفلسطيني المفاوض في اتفاقية باريس د. محمد أبو قوقش، عارض بدوره فكرة إنشاء بنك مركزي وعملة فلسطينية معتبرا إياها كارثة اقتصادية، لأن الوضع الراهن غير مهيأ لذلك، ونحن لسنا بحاجة إلى مؤسسات جديدة.
وقال إن الرئيس الراحل ياسر عرفات كان يصر على إصدار عملة فلسطينية، لكنه كان من الشخصيات التي رفضت ذلك إبان عمله مستشارا للرئيس الراحل.