السبت  23 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

يومٌ واحدٌ لا يكفيها| بقلم: عبد الله لحلوح

2022-03-21 12:12:08 PM
يومٌ واحدٌ لا يكفيها| بقلم: عبد الله لحلوح
عبد الله لحلوح

يحتفلُ الأبناءُ في الواحد والعشرين من آذار من كل عامٍ بعيد الأمّ، ويرى بعض المحتفلين أن هذا اليوم مقدسٌ مبارك، ففيه تتنزلُ الرحمات، وتُغسلُ الذنوب والسيئات، وتتضاعفُ فيه الحسنات. وهو ليس كذلك مطلقًا، فربما يكون هذا اليوم من الأيام النَّحِسات، إذا ما صاحبه فجورٌ وتسابقٌ في المعاصي، وكيل الاتهامات، ومن السنةِ للسنةِ هديَّةٌ بِثَمَنٍ بخسٍ يُتَحدَّثُ عنها حولًا كاملًا، فأين البِرُّ في ذلك؟ وأين الرحمات التي ستتنزلُ على الأبناءِ، وقد خصُّوا كلَّ رعاياهم بكلِّ العطاءِ طيلةَ العام، ونسوا أو تناسوا راعيَتَهم الأولى، ليتذكروها في هذا اليوم المُستحدَث، والطارئ على أجنداتهم؟!
يُفاجئني الفضاءُ الأزرق والأحمر والأخضر بسيلٍ من التهاني، والعبارات المسلوخة من هنا وهناك، وكلُّها عباراتٌ وأشعارٌ وحِكَمٌ، ومن فنون القولِ ما صلح منه وما لم يصلح، تُحيّي الأُمَّ في يومها، أو في عيدِها، وتباركها، وتدعو الله أن يطيل في عمرها، وأن يحفظها ويبقيها تاجًا على رؤوسِ أبنائها، ويتحوَّلُ الأبناءُ من ذوي الخبرةِ في العقوق، إلى أصحابِ فضيلةٍ عَزَّ نظيرها، فتبارك الله أحسن الخالقين!
إنَّ تقديرَ الأمِّ واحترامها، وتقديسها وإجلالها، لا يكون، ولن يتحقق بالعبارات الرنانة، ولا بالأشعارِ المكرورة، ولا باستعراضاتِ الصورِ التي التُقِطَت للأمِّ وابنها وهو يمنُّ عليها بوجبةٍ فاخرة في أحد المطاعم، ولا تلك الصور التي يُظهِرُ متنُها الابنَ وهو يُقبِّلُ يدَ أُمِّهِ أو رأسَها صبيحةَ عيدٍ بعد أن وضع في يدها قطعةً ورقيَّةً من العيارِ الثقيل، ليشعرَها بأنَّه وليُّ نعمتها، ورجل المعجزات، لتكونَ أُمُّه في تلك الصورِ هامشًا جمهورُهُ أبناء القبيلة، ويكون الهدفُ المعلنُ والخفيُّ واحدًا، أنِ اغدوا على حرثِكُم يا قوم، فقد ظفِرْتُ بصورةٍ لو تكالبتُم جميعًا عليَّ لما استطعتم أن تنقموا من بِرّي بها شيئًا، ولو كان بعضكم لبعضٍ ظهيرا.
الأُمُّ يا سادةُ يا كرام، يومٌ واحد لا يكفيها، وحديثٌ مبتورٌ عنها على مساحةٍ ضيقةٍ على الشاشات لا يجزيها، وإن طابق القولَ فعلٌ حقيقيٌّ. فكيف إذا كان الكلامُ عسلًا، والفعلُ والعياذُ باللهِ، لا يمت للقولِ بِصِلة؟ فهناك من يتجرَّأُ على أُمِّهِ قولًا وفعلًا، وهناك مَنْ يَختلِقُ كلَّ أسبابِ التعاسةِ في حضرتها، فلا يتركُ مناسبةً لِبَثِّ همومه وسمومه أمامها إلا وأبدع، ولا يرى بابًا مغلقًا من أبوابِ الشرِّ أمامها إلا وفتَحَه، ولا بابًا من أبوابِ السعادةِ مفتوحًا إلا وأغلقَه، ثمَّ يتحوّلُ في حضرتِها إلى راوٍ وقاصٍّ و(مَسْرَحْجِيٍّ) وبطلٍ للحكايات والملاحم، وهو الضحيةُ دائمًا، وربما زوجته كذلك، أما أخواتُهُ فهنَّ الغادراتُ اللئيمات، وإخوانه القطّاعون العاقّون الخاسرون، لِيُدْخِلَ أُمَّهُ( التي دعا أو سيدعو لها في عيدها بالخير وراحة البال) في ميمعةِ الصراعات، فتظهرُ شخصيَّةً ثانويةً فاعلة، بل ربما تكونُ مُؤلِّفًا ضمنيًّا للنص، أو راويًا آخرَ مُتلَبَّسًا؛ فهي السبب في كل هذا الصراع، ولولاها لما حدث هذا وذاك، فهي التي وقفت مع ابنها فلان ضدَّ فلان، وهي التي وافقت على الذهابِ عند فلانٍ قبل ستة أعوام، في حين أنها رفضت زيارته ودعوته الكريمة لحضورِ عيدِ زواجه وامرأتِه المصون المسكينة الحنون، وهي كذلك التي أعدَّتْ قبل عامين وجبةً أصليةً تراثيةً فخمةً لأحد أبنائها، بينما تظاهرت بأنها لا تملكُ شيئًا حينَ زارَها هو بعدَ غيابٍ عنها دام ستة شهورٍ وسبعة أيامٍ وساعتين. فلماذا الكيلُ بمكيالين؟ ويتعالى الحوارُ الخارجيُّ، ويصحبه استرجاعاتٌ وحواراتٌ مسرودة على ألسنةِ أشخاصٍ نحن لا نعلمهم، الله يعلمُهم، وبالتأكيد ذلك الابن المحب لوالدته البارّ بها. وتأتي لحظةُ التنويرِ بدمعةٍ ثمَّ رجفةٍ ثمَّ شهقةٍ، فغيبوبة لا تصحو الأمُّ منها إلا بعدَ عيدٍ آخر، ثمَّ نقول: إننا نحبُّ أُمهاتِنا.
إنَّ حُبَّ الأُمِّ لا يكون بالهدايا، ولا بالمال والعطايا، وإنما باعتزالِ ما يضرُّها ويضيرها من القول والفعل، وبتجنُّبِ إثارةِ الزوابع أمام عينيها، بل بكتمِ الغيظِ والحزنِ، وإخفاءِ الألم أمامها، وبثِّ التفاؤل والمحبةِ في حضرتها، وتنزيهِها عن كلِّ ما يمكن أن يجعلها تنام ليلتها-إن استطاعت إلى ذلك سبيلا- حزينةً دامعة. وعندئذ. اكتب ما تشاء، وقل ما شئت من الكلام الجميل في حقِّها، فلن تجزيها، وإن زرعتَ لها قلبَكَ حدائقَ من الوفاء، ولكنك تحاول. وذلك أضعف الإيمان.
اللهمَّ لا تُرِنا في أُمّهاتِنا مكروهًا، ولا تحرمْ طفلًا من أُمِّه، ولا تفجع قلوبَ الأمهاتِ بأبنائهنَّ صغارًا وكبارا. وكل عامٍ وأُمهاتنا بالخيرِ كُلِّهِ، ورحم اللهُ من اختارهنَّ إلى جواره.