تميزت سنوات السبعينيات و الثمانينيات بإزدهار ثقافة العمل التطوعي، وانتشارها على نطاق واسع. فبالإضافة لنشطاء العمل السياسي والمجتمعي الذين تميزوا بأداء أدوارهم الكفاحية من منطلق الانتماء الوطني وتنفيذ واجباتهم بصورة تطوعية، وإطلاقًا ليس كما بات يعرف لاحقًا ببدعة "التفرغ الحزبي" أو العمل الاجتماعي الرسمي، وقد تنافست الأطر الجماهيرية في تلك الحقبة لتنفيذ أيامًا للعمل التطوعي، سيما المؤسسات والأطر الصحية، كما انفردت الأطر الشبابية في تنفيذ حملات تطوعية لتنظيف شوارع ومؤسسات المخيمات والاحياء الفقيرة في المدن بما كان يشمل حملات نظافة للمستشفيات، و قد انتشرت هذه الثقافة في تطوير تقاليد العونة التي تركزت على مدار سنوات الاحتلال في نجدة المزارعين سيما في موسم قطف الزيتون والذي بات تقليدًا شعبيًا للتضامن مع الاهالي في القرى و البلدات المهددة بالمصادرة والاستيطان، سيما تلك الواقعة في المناطق المصنفة "ج" وخلف الجدار، ولعل ما يمكن تسميته ب"حرب الزيتون" تشكل عنوانًا لإرهاب المستوطنين على القرى و الحقول الزراعية، مستهدفةً أشجار الزيتون التي باتت تشكل رمزًا للصمود وعنوانًا لمعركة البقاء الفلسطيني المتجذر في أرض هذه البلاد منذ آلاف السنين ؛ ولعل هذا ما يفسر استهداف المستوطنون لهذه الأشجار ليس فقط لدلالاتها التاريخية و رمزيتها، بل و باعتبارها أيضًا مكون رئيسى للمتطلبات الاقتصادية خاصة الزراعية لقدرة الأهالي على البقاء رغم شراسة التحديات .
ناصرة توفيق زياد نموذج للتطوعية
و لعل من عايشوا تلك الحقبة، يذكرون جيدًا تلبية المئات إن لم يكن الآلاف لنداءات القائد التاريخي توفيق زياد بالانضمام لمخيم اسبوع العمل التطوعي الذي كانت تنظمه بلدية الناصرة، ليس فقط لتأكيد التضامن مع ناصرة زيّاد أو كرد فلسطيني موحد لمواجهة التمييز العنصري الذي كانت تتعرض له هذه البلدية المناضلة بقيادة جبهة الناصرة وغيرها من البلديات العربية، سيما لدور رؤساء المجالس البلديات في الداخل الفلسطيني لترسيخ يوم الأرض كعنوان وطني يوحد الشعب الفلسطيني في معركته ضد الاحتلال والعنصرية، بل وكذلك للنهوض بهذه الثقافة وتعميمها كأداة شعبية شكلت دومًا رافعة تُميِّز الكفاح الوطني ضد الاحتلال و الاستيطان و سياسات القمع والتمييز ، ولعل شعبنا ما زال يحتفظ في ذاكرته قادة العمل التطوعي إبان المرحلة الذين كانوا دومًا رموزًا للصمود والمقاومة الشعبية بأدوات مختلفة، كان أبرز هؤلاء و الذين استحقوا مكانتهم في الذاكرة الوطنية، وفي مقدمتهم المناضل حيدر عبد الشافي و المناضلة سميحة خليل و المناضلة يسرى البربري والمهندس ابراهيم الدقاق، و غيرهم من عشرات و مئات القادة الذين ما زال بعضهم يقوم بواجبه بصمت بعيد عن الاعلام والصراعات السياسية الانقسامية التي تطيح يوميًا بمكانة الكفاح الوطني و الشعبي و في مقدمته العمل التطوعي بمختلف ميادينه .
الانتفاضة الكبرى النموذج الأقوى للعمل التطوعي
لقد كان للحركة الطلابية و لطلبة الجامعات سيما جامعة بير زيت دورًا محوريًا في ترسيخ هذه الثقافة، والتي تحولت ليس فقط لمجرد تراث اجتماعي أو أداة كفاحية، بل فقد رسَّمتها جامعة بير زيت كمتطلب جامعي ، سواء في الحملات التطوعية أو بعض أشكال الخدمة المدنية في مؤسسات الرعاية الاجتماعية والتنمية المجتمعية بأشكالها المختلفة. و قد ساهمت هذه الثقافة في سرعة استجابة الشباب والشابات، وانخراطهم في اللجان الشعبية التي كانت بمثابة الشبكة جماهيرية والبنية التنظيمية الميدانية للانتفاضة الكبرى 1987-1993، حيث غطت شبكة هذه اللجان باختصاصاتها المختلفة كمنظومة متكاملة جميع أحياء المدن والبلدات و المخيمات والقرى والخرب وظلت محافظة على طابعها الشعبي التطوعي ، و بهذا الطابع واتساعه ودقة تنظيمة والدافعية الذاتية للممارسة الوطنية من قبل عشرات آلاف المنخرطين فيها، والجمهور المحيط بها، تمكنت الانتفاضة الكبرى من لعب دورًا حاسمًا ليس فقط في فعاليات و أنشطة مواجهة قوات الاحتلال عبر لجان المواجهة و الحراسة ، بل وفي معالجة احتياجات الناس وايصالها حتى بيوتها، سيما في المناطق التي كانت تخضع لحظر التجوال أو التي كانت تحاصر وتعزل، وغير ذلك من العقوبات الجماعية التي مورست على نطاق واسع من قبل سلطات الاحتلال في محاولة لكسر شوكة الانتفاضة و المنتفضين، بما شملت أيضًا أشكال التمرد و مظاهر العصيان المدني التي ابتدعتها تلك الانتفاضة للخروج من احالة السيطرة و لاخضاع التي كانت تحاول ادارة الاحتلال المدنية فرضها بالقوة في حينه، والتي اشتملت على بعض مظاهر الادارة الذاتية لتسيير حياة الناس، بل وصلت في مراحل لاحقة لمحاولة بناء سلطة شعبية نواتها المجالس القطاعية المتخصصة التي تم تشكيلها في ذلك الوقت .
نشوء السلطة وانتكاسة العمل التطوعي
بالتوقيع على اتفاق اوسلو ونشوء السلطة الوطنية الفلسطينية، و التي لشديد الأسف منذ نشأتها افتقرت لرؤية وفلسفة للحكم تستجيب لطابع المرحلة، والتي اتسمت بتداخل مرحلة التحرر الوطني التي لم تكن قد أُنجزت، مع مرحلة البناء الديمقراطي التي تطلبتها الحالة الجديدة، و بدلًا من البناء على قيم وثقافة العمل التطوعي والكفاح الشعبي التي بلغت ذروتها في الانتفاضة الكبرى وبنيتها الشعبية التطوعية، فقد تم الاطاحة بهذه الانجازات العظيمة، ولعل حدة الاستقطاب في الخلاف الذي أحدثه أوسلو و مبالغة الانحيازات السياسية لمعسكر الموالاة للسلطة والاتفاقات التي نشأت بموجبها، أو معكسر الرفض ولا أقول المعارضة الذي خرج أو أُخرج من مسؤولية المشاركة في بلورة عملية الربط تلك ، ساهمت جميعها، و إلى حدٍ بعيد بأن تكون الانتفاضة بانجازاتها الاجتماعية والتنموية والتطوعية وببعديها المجتمعي والكفاحي الضحية الأولى لأوسلو كما خططت اسرائيل، والتي نظرت دومًا بقلق شديد ليس فقط للروح الكفاحية الجمعية التي ولدتها الانتفاضة، بل ولمنجزاتها البنيوية المجتمعية و الشعبية وما ولدته من نضج الهوية الجامعة للفلسطينيين في كل أصقاع المعمورة، والتي تشكل جوهر وأساس الكينونة التي ناضل الفلسطينيون وما زالوا لانتزاعها في سياق ممارسة وتجسيد حقهم الطبيعي في تقرير المصير بأبعاده المختلفة.
بهذا المعنى شكل نشوء السلطة الوطنية انتكاسة شاملة وضربة قاصمة لثقافة العمل التطوعي بدل أن تكون رافعة لها، و بنية مجتمعية تستفيد منها السلطة في تحمل أعباء إنجاز متطلبات مهمتي التحرير الوطني و البناء الديمقراطي للمؤسسات الوطنية وحاضنتها الشعبية . ولشديد الأسف حتى مؤسسات هيئات العمل التطوعي، كان قد تم إفراغها من مضمونها واحتواء دورها، وباتت كما غيرها من مؤسسات العمل الأهلي تتساوق في معظمها مع أجندات المانحين التي باتت تتعامل مع القضية الفلسطينية من منظور سلطوي في خدمة مسار التسوية الذي مع مرور السنوات، ليس فقط لم يعد قائمًا، بل و تراجعت خلاله حالة الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، ليس فقط بتنكر اسرائيل لحقوق الفلسطينيين، وفتات الاتفاقات المبرمة معهم ، بل و لإنكارها مجرد وجودهم ورفض التفاوض على عبثيته معهم، ولم يتبقى من هذه العلاقات سوى ما هو بحاجة اسرائيل به و بما يخدم أجندتها السياسية و الأمنية سيما ما بات يعرف بالتنسيق الأمني و ما تمنحه اسرائيل من فتات ما هو حق لهم وفق القانون الدولي واتفاقية جنيف الرابعة بل و ما ورد في بنود نقل الصلاحيات المدنية .
البلديات و العمل التطوعي
اليوم وفي سياق هذه المراجعة لأهمية اعادة احياء العمل التطوعي، سيما ونحن على أبواب الاقتراع للانتخابات البلدية، و بعد ما سبقها من إطاحة بالحقوق الدستورية للمواطنين وحقهم في انتخاب ممثليهم، عندما جرى الغاء الانتخابات التشريعية، واستمرار الاصرار على رفض الانتخابات الرئاسية، وفي ظل احتمال سعى اسرائيل أوما تخطط له من محاولات يائسة لعزل الكيانية الموحدة التي يناضل الفلسطينيون من أجلها، فإن مسؤولية كبرى أمام الناخبين بشكل عام والبلديات المنتخبة بصورة خاصة ؛تتلخص بالاضافة لمهامها الخدماتية، مسؤولية بناء حواضن شعبية لدورها التنموي، سيما في ظل اصرار الحكومة على عدم الوفاء بالاستحقاقات والديون المطلوبة منها للبلديات، ليس لجهة عدم المطالبة بهذه الحقوق، ولكن لجهة عدم الاستكانة لمضمون هذه السياسة التي ستؤدي بالنهاية وضمن عوامل أخرى إلى تحويل البلديات لمؤسسات عاجزة عن القدرة في تحمل مسؤولية دورها في التنمية الكفيلة بتعزيز صمود المواطنين. إن هذا يتطلب، وبالاضافة للتصدي لكل أشكال الترهل الإداري الناجم عن الفئوية و المحسوبية ، و بالاضافة أيضًا لضرورة تفعيل مجالس الخدمات المشتركة ليس فقط بين بلديات الأرياف بل وبين البلديات الكبيرة نسبيًا، مثل بلديات رام الله و البيرة وبيتونيا ، أو بلديات محافظات الخليل و بيت لحم ونابلس، وبلديات مناطق الأغوار وغيرها، من أجل التخطيط المشترك لمشاريع كبرى عبر هذه المجالس المشتركة، والتي تتطلب التصدى لكل محاولات التفكيك الجهوية أو الفئوية أو الطائفية. و حتى لا تقف موازنات انجاز مثل هذه المشاريع بسبب تخلف الحكومة عن التزاماتها أو بفعل أجندات بعض المانحين و شروطهم، فإن الضرورة الوطنية تستدعي استلهام تجربة بلدية ناصرة توفيق زياد ، و ما كان قد سبقها ولو على نطاق أبسط من خلال تجربة بلدية البيرة برئاسة عبد الجواد صالح و الجبهة الوطنية وغيرها من البلديات في حينه، لتنفيذ عدد من المشاريع الصغيرة و المتوسطة وحتى الكبيرة منها من خلال استنهاض أساليب مبتكرة للعمل التطوعي، سيما في محاولة بلورة حلول عملية للمشكلات الحياتية والبيئية و مشاكل الطرق والمواصلات والازدحام، والتي يمكن البحث عن حلول حقيقية لها عبر شراكات وطنية ومساهمة شعبية وغيرها من الحلول الفعالة قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى، لتعيد بجوهرها الاعتبار لثقافة العمل الوطني وممارسة المسؤولية الشعبية والاجتماعية لمضمون وقيم المواطنة.
الحاجة لقانون ينظم الخدمة المدنية
وفي هذا السياق فإنني أعتقد بأنه آن الأوان لاستخدام كل الوسائل الديمقراطية والجماهيرية المشروعة لبلورة قانون ينظم الخدمة المدنية و إلزام السلطة باقراره، ورصد الموازنات اللازمة لتنفيذه كشكل من أشكال ممارسة السيادة التي تعيد الاعتبار للعمل التطوعي وبما يخدم في نفس الوقت هيئات الحكم المحلي ويمكنها من استيعاب الطاقة التشغيلية للذين ينطبق عليهم هذا القانون سواء خلال مرحلة ما قبل الدراسة الجامعية أو أثنائها أو كمرحلة تدريب وعمل مجتمعي في اطار الخدمة المدنية بعد التخرج . بهذه الروح يُمكننا شق طريق فعَّال لمعالجة الخراب الذي ألحقته سنوات التيه والانقسام ، وتدشين مرحلة بديلة تعيد بناء وترسيخ قيم ومفاهيم المواطنة والانتماء الوطني والمسؤولية الاجتماعية على حد سواء .