على الرغم من أن عنوان هذا المقال، مشابه لعنوان كتاب الرئيس محمود عباس " طريق أوسلو"، الا ان الموضوعين مختلفين في الفرضيات، وفي سبل معالجتها اثباتا او نفيا.. كتاب عباس يتحدث عن رؤيته لتسوية الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، عندما كان خارج دائرة اتخاذ القرار، ويتحدث أيضا عن تفاصيل كواليس المفاوضات، التي أدت لإتفاق أوسلو بعد فترة قصيرة من توقيعه، اخذا بعين الاعتبار ان الطبعه الاولى منه صدرت في العام 1994، عندما كان حبر التوقيع على اتفاق اوسلو لم يزل غير جاف، وعندما كان سقف توقعات قادة منظمة التحرير مرتفعا جدا الى ما سيؤول اليه هذا الاتفاق، الا ان موضوع مقالتنا هذه، هي المواقف السياسية المبكرة جدا لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية لتسوية الصراع مع اسرائيل ، عندما كان الكفاح المسلح كان لا زال في أوجه، والسعي للاتصال بالولايات المتحدة لهذا الغرض، كما أن المقال، لا يعالج ما آلت اليه القضية الفلسطينية، خلال اكثر من ربع قرن على توقيع اتفاق أوسلو، ولكنه محاولة لتتبع الطريق التي قادت اليه..
مخطئ من يعتقد بأن إتفاق أوسلو كان وليد لحظته، إذ سبقته مقدمات على امتداد نحو عقدين قادت اليه ، ففي حزيران عام 1974 عقد المجلس الوطني الفلسطيني مؤتمره في القاهرة، وأقر ما عرف بـ "برنامج النقاط العشر"، والذي تخلت فيه منظمة التحرير الفلسطينية، عن مبدأ اقامة الدولة الفلسطينية على كامل ارض فلسطين التاريخية، الذي نص عليه ميثاقها الوطني .
برنامج النقاط العشر نص في احدى مواده، على اقامة "سلطة وطنية" على اي أرض فلسطينية "محررة" دون اعتراف هذه السلطة بإسرائيل، ولإختبار مرونة البرنامج وقع ياسر عرفات على بيان مشترك مع مصر وسوريا في ايلول 1974، أشار الى استعداد منظمة التحرير للدخول في مفاوضات مع اسرائيل، ما دفع بالجبهة الشعبية للانسحاب من المنظمة، وهذا ما فتح الطريق لعرفات لحرية التصرف، باستخدام البرنامج للسعي لإقامة علاقات مع الولايات المتحدة..
عضو مجلس الامن القومي الامريكي "وليام كوانت"، الذي كان من الداعين لإقامة علاقة مع القيادة الفلسطينية التي وصفها "بالمعتدله" في منظمة التحرير، قال في كتابه "عشرة اعوام بعد كامب ديفيد" Ten Years after Camp David إنه دعا وزير الخارجية الأمريكي "هنري كيسينجر" الى فتح قناة اتصال رسمية بالمنظمة، وقال " إن من شأن هذه القناة دعم التقارب بين منظمة التحرير والاردن، وتمنح الدعم "للمعتدلين" في المنظمة.. أنه من الواضح ان عرفات يرغب بالعمل بإتجاه تسوية سياسية"، الا ان دعوة كوانت هذه لم تلق أذانا صاغية من هنري كيسينجر واسرائيل.
ومع ذلك، واصل مسؤولون أميركيون ضغطهم على كيسنجر، عقب الخطاب الذي ألقاه ياسر عرفات في الأمم المتحدة في تشرين الأول/نوفمبر 1974، إذ كتبَ السفير الامريكي لدى لبنان "ماكمورتري غودلي" رسالة لوزارة الخارجية في واشنطن قال فيها إنه "مهما كان وجودها مزعجا أو سلوكها بغيضا، فإن منظمة التحرير الفلسطينية باتت حقيقةً واقعة، وتتمتع بتعاطف وتأييد طيف واسع من الرأي العام الفلسطيني والعربي في جميع أنحاء المنطقة، وان الحوار معها سيساعد واشنطن في تحديد مدى ملائمة المنظمة كشريكٍ في المفاوضات، وسيعمل على دعم المعتدلين داخلها، حتى لو كانت قناة الحوار معها غير رسمية وسرية "
أما السفير الأمريكي لدى لبنان "ويليام بوفوم"، فقد كتب في رسالة لوزارة الخارجية عام 1974"إن هناك زيادة كبيرة في المؤشرات التي تدل على سعي قيادة فتح للبحث عن إمكانيات الاتصال المباشر بالمسؤولين الأمريكيين. وقد تزامنت هذه المساعي مع محاولات حذرة من جانب ياسر عرفات ونائبه صلاح خلف (أبو إياد) لإظهار استعدادهما لحضور مؤتمر جنيف، وفي ذات الوقت فإن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية كانت مضطرةً إلى "تهدئة المخاوف" في صفوف مقاتليها من أن إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة لا يعني التخلي عن أهداف المنظمة بعيدة المدى"
وعلى مدار عامي 1974 و 1975 ، قادت إيماءت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وتأييد القادة العرب بعض الدبلوماسيين، ودبلوماسيون أمريكيين للدعوة إلى فتح قنوات اتصال رسمية مع المنظمة. واعتبر القائم بالأعمال في السفارة الأمريكية ببيروت "روبرت هوتون" في مذكرة لهنري كيسنجر في شباط/فبراير 1974، جاء فيها "أن ياسرعرفات وصلاح خلف معتدلين في وجهتي نظرهما بشأن التوصل إلى تسوية نهائية مع إسرائيل، وأن هدف منظمة التحرير المتمثل في إقامة دولة ديمقراطية علمانية على كامل ارض فلسطين لا يعني أنها تنظر إليه كإمكانية عملية قابله للتحقق على المديين القريب و البعيد"
وفي ايار 1975 زار السناتور الديموقراطي "هوارد بيكر" بيروت، بمرافقة موظفين من لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس، والتقى بشخصيات فلسطينية بارزة، من بيهم البروفيسو في جامعة جورج تاون "هشام شرابي"، والمسؤولان في منظمة التحرير الفلسطينية شفيق الحوت ونبيل شعث، قبل أن يلتقي بإجتماع منفصل مع ياسرعرفات... بيكر سأل عرفات عن "الشرط الاساسي لتحقيق تطلعات الفلسطينيين" ، ورد الزعيم الفلسطيني " "إن برنامج النقاط العشر للمجلس الوطني ينص على أن للفلسطينيين الحق في إقامة سلطة فلسطينية على أي أراضٍ يمكن تحريرها أو أي شيء يمكن دفع اسرائيل للتخلي عنه حتى وإن كان قطاع غزة ."
ورغم سعي ياسرعرفات للظهور بمظهر المعتدل، الا ان موقف هنري كيسنجر لم يتغير، وواصل جهوده لإبرام اتفاق فك ارتباطٍ ثانٍ بين إسرائيل ومصر، متجاهلًا سوريا ومنظمة التحرير، ووقعت الولايات المتحدة على مذكرة تفاهم سريه مع إسرائيل نصت " على عدم اعتراف واشنطن بمنظمة التحرير، او التفاوض معها، ما لم تعترف بحق إسرائيل في الوجود، وأن تقبل قراري مجلس الأمن رقم 242 و338"
ومع اشتداد القتال في الحرب الاهلية في لبنان، حظيت منظمة التحرير الفلسطينية بفرصه أخرى، لإثبات قيمتها لدى واشنطن، وذلك بتوفير حركة فتح الحماية للسفارة الأميركية، وللمساكن الخاصة بالمسؤولين الأمريكيين في بيروت، وأشرف "علي حسن سلامه" على عملية اجلاء الدبلوماسيين الأمريكيين من لبنان، بعد إغتيال السفير الأمريكي" فرانسيس ميلوي"، ورغم ذلك لم تتمخض المساعدة التي قدمتها منظمة التحرير الفلسطينية في إجلاء السفارة الأمريكية عن أي مكاسب ساسية تذكر، باستثناء دعوة مبعوث الرئيس الأمريكي جيرالد فورد في لبنان "تالكوت سيلي" إلى إنشاء دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة كوسيلةٍ لإنهاء الحرب الأهلية اللبنانية.
وبعد خروج المنظمة من لبنان في اعقاب الاجتياح الاسرائيلي له في العام 1982، وتموضعها في تونس ودول عربية اخرى، واجهت اسرائيل اكبر تحدي لها منذ نشوئها في العام 1948، تمثل باندلاع الانتفاضة الاولى في كانون أول / ديسمبر 1987 بقيادة قيادات وطنية محلية، وأحيت الانتفاضة من جديد خيار مواجهة إسرائيل بالتعبئة الجماعية اللاعنفية، على نطاق لم يسبق له مثيل منذ أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، غير أن منظمة التحرير الفلسطينية أثبتت عجزها عن استثمار النجاح المحلي والعالمي للانتفاضة الأولى، وقدمت قيادتها مصالحها الخاصة، على الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، بتطلعها إلى نيل تأييد الغرب وخاصة الولايات المتحدة، كما عبر عن ذلك إعلان الاستقلال في الجزائر في العام 1988 .
واتضحت تناقضات منظمة التحرير بما لا يدع مجالًا للشك في الفترة 1992-1993، عندما اضطرت قيادتها إلى الاختيار بين دعم الموقف التفاوضي للوفد الفلسطيني في واشنطن بقيادة حيدرعبد الشافي وحنان عشراوي، الذي أصر على الوقف الشامل لأنشطة الاستيطان الإسرائيلية، كشرط مسبق لترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي، وبين مفاوضات سرية مع إسرائيل في أوسلو أعطتها أقل من ذلك بكثير.
وعملا باتفاق أوسلو لعام 1993، اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل و"حقها في الوجود في أمن وسلام" في وثيقةٍ لم تأت على ذكر الاحتلال أو تقرير المصير أو إقامة الدولة أو حق العودة. ومن غير المستغرب أن العقود التي تلت شهدت تسارعا هائلا في وتيرة الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي والتدمير الفعلي لترتيبات الحكم الذاتي المنصوص عليها في الاتفاقات الإسرائيلية الفلسطينية العديدة، وربما الأهم من ذلك تلاشي حلم الفلسطينيين باقامة دولة مستقله او بقاءه مع وقف التنفيذ لسنوات لا يعلم الا الله عددها.
واليوم وبعد 29 عاما على توقيع اتفاق اوسلو واقامة سلطة الحكم الذاتي فإن قيادتها لا تزال متمسكه به، على الرغم من تعامل اسرائيل بتطبيق بنود منه بإنتقائيه، بأخذ ما يخدمها وترك ما هو في صالح السلطة الفلسطينيه على ندرته.
القيادة الفلسطينية لا تزال تبيع الوهم، وتمارس خداع الذات بترديد مقولات، مثل " دولة فلسطين" التي هي عمليا دوله على الورق، ومطالبة المجتمع الدولي بانقاذ حل الدولتين، ووقف الاستيطان وما الى ذلك من مصطلحات تعكس شعور"الضحية".
إن الطريق التي سلكها الرئيس ياسر عرفات لإستمالة الولايات المتحدة وكسب ودها عندما كانت منظمة التحريرفي اوج قوتها قبل نحو نصف قرن ، عاد الرئيس عباس لسلوكها ومنظمة التحرير في اضعف حالاتها.