رغم محاولات أنظمة التطبيع العربية إظهار أن عملية "تطبيعهم التتبيعي" مع الدولة الاستعمارية الصهيونية، عدوة العرب الأولى، هي محاولة لدرء الخطر الأمني الإيراني عن المنطقة، الذي يراه فقط الإسرائيليون وحلفاؤهم من المطبعين العرب؛ تبدو القضية الفلسطينية غائبة أو مغيبة. ورغم أن كل حكومات عدوتنا الإسرائيلية قد حاولت تغييبنا، بدءا من ترويج عبارات "لا شريك للسلام في الجانب الفلسطيني"، و"لا يوجد ممثل شرعي جامع للفلسطينيين يمكن الحديث معه"، يظل الفلسطيني حاضراً.
والسؤال الذي يؤرق الإسرائيليين منذ بن غوريون إلى بنيت هو: لماذا يظل الفلسطيني موجوداً، ولماذا هو موجودٌ على أرض بالكاد يمكن أن تكون صالحةً لعيشه؟ والسؤال الأصعب، هو كيف يمكن التعامل مع هذا الفلسطيني، الذي يُشكل وجوده مشكلة وجودية بالنسبة للإسرائيلي؟ هل عبر القمع والتهجير والاغتيال والأسر؟ أم عبر مبادرات السلام؟ أم عبر الحلول الاقتصادية؟ أم عبر إطلاق عنان المخيلة الاستعمارية بفرض حالة من التخيل العام بأن الفلسطيني غير موجود؟
منذ أسطرة إنشاء الدولة الصهيونية، يحتل التخيل حيزاً مهماً في الذهنية الاستعمارية الصهيونية، بدءا من افتراض تشكيلهم لجماعة قومية دينية لها خصوصيتها التي تُتيحُ لها تشكيل قومية تؤسس دولة خارج سياق العالم الأوروبي، مروراً بتخيلهم لوجود أرضٍ خالية لا شعب لها يمكن إقامة تلك الدولة عليها، وصولاً إلى إعادة إدخال هذه الدولة في المخيلة الغربية باعتبار أن "الدولة اليهودية ضرورية للعالم" على حد تعبير ثيودور هرتسل، الذي اعتبر أن تحقق نبوءاته وخطة عمله لإنشاء وإقامة دولة لليهود هي "خيالٌ سياسي" قابلٌ للتحقُّق إذا ما تبنته الأجيال الصهيونية القادمة.
وما نراه اليوم من تعاضد وتكاتف عند التقاط الصور ما بين وزراء خارجية دول "التطبيع التتبعي" العربي مع وزير خارجية مُتبّعهم، هي خطوة في اتجاه تحقُّق هذا "الخيال السياسي"، وذلك عبر اللعب في مساحة صناعة المُتخيل في العقل العربي، من خلال إدخال "إسرائيل" إلى مخيلتهم باعتبارها ضرورية لمواجهة عدوهم المشترك إيران. فبعد أن كانت إسرائيل عدوة العرب، وبعد أن كان استقرار المنطقة لا يتحقق إلا عبر حل القضية الفلسطينية، نجحت إسرائيل في قلب مخيلة أنظمة التطبيع العربية بجعل القضية الفلسطينية قضية ثانوية يمكن أن تكون على رف العلاقات الإقليمية المشتركة إسرائيلياً وعربياً حتى يتم التخلص من الخطر الإيراني، باعتباره المسألة الإقليمية الأهم التي تُشكل تهديداً لشرق أوسط مستقر ومزدهر وجديد. ليس هذا فحسب، بل إن الأمر لم يعد يتوقفُ عند المخيلة، بل تحويل الأفكار التي تدور في هذه المخيلة إلى أفكار متحققة ومعبرٍ عنها، بل وتُعبر إسرائيل عنها، ولتصبح "إسرائيل" الراعية الرسمية لدول التطبيع العربي، فتعمل على رفع كفاءاتها العسكرية، والترويج للسلاح والطاقة وعقد الصفقات التكنولوجية معها وتقديم النصح الزراعي لها.
هذا كله يقلبُ آية بن غوريون في كتابه "محادثاتي مع القادة العرب" (My Talks with Arab Leaders)، عندما شبه إسرائيل خلال لقاء جمعه بقادة عرب وبريطان وإسرائيليين في نفس الشهر قبل أكثر من ثمانين عاماً (عام 1939)، بالمرأة العاقر التي أصبحت فجأة حُبلى ويُريدُ لها الجميع أن تتوقف عن الصراخ في لحظة المخاض، كي يتمكن الجميع من النوم وخاصة العائلات السعيدة. اليوم في صحراء بن غورين، أصبح العرب، وعوائلهم السعيدة، من يطلُبُ من إسرائيل أن تستمر في الصراخ وأن تستمر في مخاضها من أجل إنجاب عربٍ وشرق أوسط جديدين، بل وأن تستمر في اللعب في ساحةِ متخيلاتهم السياسية.