انشغل الرأي العام خلال الأيام الماضية بقضيتين ذات حساسية عالية، أولهما قضية وفاة الطفل سليم نواتي من غزة، والذي كان مريضًا بالسرطان، والثانية هي قضية مستشفى خالد الحسن للأورام، وارتباطها بأموال التبرعات المالية والأرض التي كان قد تبرع بها حسيب الصبّاغ لجمعية الرعاية الطبية العربية، والتي كان من المفترض أن يشيد المستشفى على جزء منها وقد قام الرئيس عباس في حينه بوضع حجر أساسه.
بخصوص قضية وفاة الطفل، يشير "الاتحاد العالمي للدفاع عن الأطفال- فلسطين" في بيان خاص إلى أن ملابسات قضية الطفل نواتي وفق المتابعة و التحقيقات التي قام بها الاتحاد "تستدعي بصورة فورية إجراء مراجعة شاملة لكافة بروتوكولات التحويل للعلاج في الخارج ما بين وزارة الصحة ومقدمي الخدمات، بحيث تأخذ بعين الاعتبار الحقوق الصحية للمرضى كأولوية قصوى"، كما أشار البيان إلى شهادة عم المريض" مرافقه" حول رفض مستشفى النجاح إدخال المريض الذي كان يبدو أنه في حالة الخطر الشديد، وفقًا لحديث أحد أطباء المستشفى نفسه ،ذلك رغم موافقة المستشفى المسبقة على استقباله، وأن تأخير سلطات الاحتلال لإصدار تصريح خروجه من غزة قد ساهم في انتشار واسع للورم وتدهور حالته الصحية ، وجعلته في حالة طارئة كانت تستدعي التدخل الفوري لإنقاذ حياته، الأمر الذي لم يتم، فكانت وفاته صرخة الضحية التي تعكس حجم الفشل وصراع المصالح.
مستشفى النجاح يبرر رفضه لإدخال الطفل المريض "وهو بحالة الخطر"، بأنه يعود لأسباب تراكم ديون مالية ضخمة للمستشفى على الحكومة، وهي تصل كما تشير التقارير المعلنة إلى حوالي أربعمئة مليون شيكل، خلال المرحلة الماضية. هذا الخلل الفادح، والذي يكشف من ناحية أخرى حجم التحويلات التي كان ينفرد بها مستشفى النجاح تحديدًا في مرحلة الحكومة السابقة، كما أنها تظهر طبيعة العجز المالي المتراكم، وإهمال الحكومة لمعالجة ملف الديون المتراكمة، سيّما للمستشفيات الفلسطينية، كما للقطاع الخاص بما فيها شركات ومصانع الأدوية، وهذا كان واضحًا أكثر من مرة في العجز و الأزمة المالية اللتين كانتا تواجهان مستشفيات القدس. ولكن الأخطر في هذه القضية، هو المسكوت عنه في واقعنا الذي يتآكل يوميًا، وهو أن أيًا من هذه المستشفيات لم يكن ليجرؤ على رفض إدخال الطفل سليم النواتي لو كانت عائلته أو عشيرته من سكان الضفة الغربية، خاصةً إذا كان يقف خلفه عشيرة كبيرة سواء كانت حزبية أو عائلية، وهذا ما تؤكده العديد من الحالات في مستشفيات مختلفة، والتي كانت تصل حد الاعتداء على طواقم العاملين. بينما عشيرة هذا الضحية، للبيروقراطية والفساد الإداري، بعيدة في القطاع المحاصر من اسرائيل ومن الانقسام والإهمال معًا.
أما في قضية مستشفى خالد الحسن للسرطان، فإن عدد من المتبرعين لإنشاء مستشفى خالد الحسن، والتي بلغت وفق التصريحات الرسمية حوالي 12 مليون دولار وعشرة ملايين شيكل، "هذا بالإضافة ليوم أو يومين عمل التي اقتطعت من رواتب موظفي القطاع العام"، قد أدلوا بتصريحات و مواقف معلنة تؤكد بأن مصير هذه الأموال غير معلوم، وأن تمثيل المتبرعين في مجلس إدارة جمعية إنشاء المستشفى كمشفى حكومي، لم يتم تنفيذه خلال السنوات الخمس الماضية، بخلاف ما ورد في المرسوم الأول لتأسيسها. هذا بالإضافة إلى التناقضات التي برزت من جهات رسمية بعضها يشير إلى تغيير دور الجمعية عبر مرسوم خاص تَحوِّلت بموجبه مهمة الجمعية من إنشاء مشفى حكومي للسرطان، فإن مهمة المؤسسة، أصبحت "المساهمة في إنشاء و/أو تطوير مستشفى خاص و/أو أقسام متخصصة بعالج أمراض السرطان في الدولة في المستشفيات العامة أو الخاصة"، وهو ما جعل مسألة إنشاء المستشفى خيارا أو احتمالا من بين مجموعة احتمالات يمكن تنفيذه من عدمه، من خلال استخدام (أو) بين كلمتي إنشاء أو تطوير. بل وذهب المرسوم لأبعد من ذلك إلى تضمين خيار إنشاء أقسام في مستشفيات قائمة أصلًا ، أي التخلي نهائيًا عن فكرة إنشاء مستشفى حكومي لهذا الغرض، دون توضيح مصير الأموال التي تم جمعها حتى تلك اللحظة، في وقت أن بيان وزارة الصحة يقول "أن الأموال موجودة في حساب خاص، ولكن مشروع انشاء المستشفي فقد تم تجميد العمل به، لعدم التمكن من الحصول على التمويل الكافي"، ودون توضيح كيف ستتم متابعة هذا الأمر. هذا كله بالإضافة إلى أن مؤسسة "بكدار" كانت قد تعاقدت فور الإعلان عن المشروع مع شركات خاصة لإعداد مخططات وحفر الأرض ودفعت لها مبالغ باهظة بلغت عدة ملايين، لمشروع مستشفى اقتصر على يافطة حجر الأساس وبات مصيره ومصير أموال المتبرعين والأرض الذي سبق وتبرع بها حسيب الصباغ لإنشاء مثل هذا المستشفى، وغيره من المرافق الحيوية الصحية منها والتعليمية و المجتمعية، كله مجهولًا، ولا يعرف عنها أحد بما في ذلك كبار المتبرعين لهذا المستشفى.
في الحقيقة، إن هاتين القضيتين، وما يكشفانه من سوء فاضح في إدارة الأموال والممتلكات العامة، وغيرهما من قضايا الفساد الإداري والمالي التي يجري تداولهما في الرأي العام بين فترة وأخرى، دون استخلاص ما يكفي من العبر والدروس واتخاذ ما يلزم من الإجراءات، و دون تمكن الرأي العام من وضع حد لمثلها ،إنما تؤشر بمجملها إلى مدى تفشّي مظاهر التفكك المؤسسي وعدم الاكتراث بوجع ومعاناة الناس، على ضفتيّ الانقسام، وكذلك عدم إبداء أي اهتمام بالرأي العام الذي يثير مثل هذه القضايا بقوة، ولكنه سرعان ما يتحول بفعل هذا السلوك مثل القُربة المخروقة، بفعل غياب وتغييب أدوات الرقابة والمسائلة والمحاسبة البرلمانية، والتي تعتبر الضحية الأخطر للانقسام، الأمر الذي يظهر المشهد الانقسامي و كأنه اقتسام للبلد وتحصين كل منهما من المحاسبة، وبما يؤدي يوميًا إلى اتساع الفجوة بين هاتين السلطتين المتحكمتين بمصير الناس و بين الشعب الذي يدفع الثمن، ويراكم عوامل الاحباط والاحتقان المتفاقم والمتدحرج نحو الانفجار الداخلي، ما لم تتم المسارعة لوقف مثل هذه الكوارث
هذه الأوضاع المتدهورة إنما تكشف ما ولده ويولّده الانقسام من أثر مباشر على حياة المواطنين ومعاناتهم ومصالحهم ومعيشتهم اليومية ومستقبلهم الوطني، وكيف يجري التفرد في تقرير مصير البلاد وقضية الشعب دون أي اعتبار لرأي الأغلبية الساحقة من المواطنين، ودون أن يتّعظ المهيمنون على المشهد والمسيطرون، دون وجه حق، على مقدرات البلاد وحقوق العباد، بأن كل تجارب الشعوب التي كانت تتحكم بها أنظمة حكم مشابهة، انفجرت في وجه ما تعتبره ظلم بائن، فما بالكم بشعب يرزح تحت الاحتلال وتستفرد به أنياب جرافاته وجرائم جنوده ومستوطنيه.
إن ما يجري يظهر بوضوح مسؤولية أطراف الانقسام التي حولت البلد لإقطاعيات فئوية وشخصية، دون استثناء مسؤولية الأطراف الأخرى التي تدور في فلك الانقساميين حد التواطؤ و الشراكة في تداعياته، بما في ذلك تعيُّشها على فتات الفساد. الأمر الذي يظهر أن مسؤولية إنقاذ البلد من انهيار أو انفجار محتّمين، لا يمكن أن يتم بالتعويل على صحوة ضمير هذه الأطراف، بل باستعادة الشعب لزمام المبادرة و الدفاع عن مقومات صموده وبقائه على الأرض، وما يستدعيه ذلك من وحدة كل الوطنيين المخلصين لبلورة آليات شعبية فاعلة للمسائلة بعيدة عن ثرثرات النخب، وتربط بين غياب الوحدة والحكم الرشيد و بين استشراء الفساد وتدهور الأوضاع المعيشية للناس، وتكون في نفس الوقت قادرة على قيادة تحركات شعبية بوسائل سلمية و ديمقراطية يكفلها القانون الأساسي، لإنهاء هذه الأحوال الشاذة التي تعاني منها قضيتنا الوطنية واجبار القوى المهيمنة على المشهد التسليم لإرادة الناس ولمطالبها المعيشية و الوطنية ، وفي مقدمتها البدء بتنفيذ خطة فورية لإنهاء الانقسام وإنهاء كل أشكال التفرد والإقصاء والهيمنة على مقدرات البلد والقرار الوطني، عبر تشكيل حكومة وحدة وطنية انتقالية تعالج ملفات الفساد والحريات ومجمل تداعيات الانقسام، وتكون مرجعيتها القانون الأساسي وارادة الناس وتطلعها للتغيير، تمهيدً لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية، وفي الأثناء يجري العمل على مشاركة الجميع في القرار السياسي بتوسيع مشاركة كافة الأطراف السياسية و القوى الاجتماعية الحية سيما المرأة و الشباب في أطر منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها كائتلاف وطني جامع، وليس مجرد أداة لتكريس الهيمنة والتفرد والانفراد بالمصير الوطني من أي طرف كان.