الجمعة  22 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الإنسان ثقافة وسلوك| بقلم: د. غسان عبد الله

2022-04-14 06:00:07 PM
الإنسان ثقافة وسلوك| بقلم: د. غسان عبد الله
د. غسان عبد الله

مدخل 

يمكن اعتبار الثقافة ممارسة للأخلاق والقيم، وفي الحد الأدنى الدفاع عنها والالتزام بها، وأضعف الإيمان إسنادها بكل ما يؤتى المثقف من عزم.

يعيش  المجتمع الفلسطيني، ومنذ فترة ليست بالقصيرة، حالة يمكن وصفها بسرعة ردة الفعل والانفعال الزائد حيال حدث/ أحداث معينة، إذ لم تترك هذه الحالة متسعا كافيا كي يتم التركيز على صناعة الحدث، بدلا من صناعة وتداول الأخبار، والتي غالبيتها غير مؤكد، بشتى الوسائل المتاحة. 

حتما هناك عدة عوامل وراء ذلك منها الهامش الواسع والمتاح في وسائل التواصل الاجتماعي، والذي تطور في الآونة الأخيرة بشكل كبير جدا دون رقابة ذاتية أو الالتزام بقواعد وأصول وأخلاقيات صناعة الخبر ونشره، الأمر الذي أتاح للطرف الآخر، شحن سهامه ووسائل إعلامه المحمومة وبعض من الطابور الخامس لنشر الإشاعات والأخبار الزائفة بغية تعميق الخلافات والانقسامات وبث الفتن بين فئات الشعب المرابط.

ناهيك عن تعدد مصادر وأشكال الصدمات النفسية التي تلقاها مجتمعنا وبكل فئاته الطبقية، ولا يزال يتلقاها، دون التفكير مسبقا بالنتائج المترتبة على هذا السلوك الاندفاعي كردة فعل حيال أحداث/ حدث.

صحيح كان للاحتلال الإسرائيلي دور في صناعته، وقد تكون للضغوط النفسية  Personal Stressors، ولجائحة كوفيد COVID-19 Pandemic، وللظروف  العامة  (اعتقالات، إغلاقات، إغتيالات...) التي تسببّت في المزيد من الضغوطات النفسية Background stressors، إلا أن نمط الصدمة المقصودة هنا والناجمة عن الاقتتال الداخلي، وبنسبة متزايدة، وهي وليدة سلوك ذاتي أقدم عليه البعض، بقصد أو غير قصد ودون وعي وإدراك مسبق للنتائج الوخيمة المترتبة عليها. 

أتحدث هنا، عن الصدمة الناجمة عن المبالغة والتهويل في نشر وتداول الإشاعات والأخبار غير المؤكدة، أما بخصوص نوعية هذه الصدمة، هل هي قصيرة المدى أم طويلة المدى، سيكولوجيا وواقعيا، ومدى حدتها، كونها وليدة الذات وليست بسبب إيذاء سببه طرف خارجي وإن كان الاحتلال الإسرائيلي هو المسؤول الأول والأخير عن كل مآسي شعبنا، دون الانتقاص من المسؤولية الفردية أو الجماعية  للتخلص من براثن هذا الاحتلال. 

أجتهد هنا لتوقع بعض الانعكاسات السلبية لهذه الصدمة: 

  • البدء بالتشكيك، إن لم يكن فقدان الثقة بالقدرات الذاتية والجماعية مع غلبة الاعتقاد بتفوق قدرات  الطرف الآخر. 

  • تأثير سلبي على قدرة الفرد بالشعور بالسعادة والقدرة على الانخراط بالعمل المنتج.

  • اهتزاز في العلاقات الاجتماعية سواء داخل الأسرة أو وسط أفراد المجتمع .

  • محاولة الامتناع عن حضور/ المشاركة أو الذهاب إلى مناسبات اجتماعية لها طابع الترفيه (Recreation events).

مقترحات للخروج / التخفيف من حدة اّثار هذا الحدث الصادم (Traumatic event).

بداية، مهم جدا ذكر أنه إذا ما لم تبذل جهود للتقليل من اّثار هذه الصدمة، فقد تتطور الحالة إلى ما يعرف بـ اضطرابات ما بعد الصدمة (Post Traumatic stress disorder- PTSD)، وقد تزداد الأمور سوءا إذ ما وجدت اضطرابات أخرى مثل الاكتئاب والقلق والرهاب الدائم.  

لن يتمكن الجميع من التخلص من حدة الآثار السلبية بنفس المقدار والمستوى والسرعة، إذ أن هناك عوامل لها دورها الهام في ذلك، مثل:

  • مدى التجارب السابقة المشابهة التي عاشها الفرد في حياته وقدرته على تطوير مهارات المرونة الذاتية (self- resilience ).

  • منسوب الإيمان لديه بضرورة العمل الجماعي الوحدوي، ومدى تعلقه بروحانيات وقيم أخلاقية من شأنها إعادة رفع تقدير الذات لدى الشخص (self- steam) والعمل على مواجهة التحديات اليومية دون محاولة الخنوع ( submission) أو التجنب (Avoidance) أو الانعزال (disassociation).

  • قدرات الفرد على توظيف كل ما يمكن من أجل إيجاد بيئة نفسية اّمنة له وللمحيطين (Safe place) من خلال تقوية وتعزيز العلاقات الاجتماعية، الانهماك في عمل يفضي إلى نتائج إيجابية ملموسة، الابتعاد قدر الإمكان عن مصادر الأخبار الكاذبة ( Fake news).

  • الميل إلى استخدام/ الإصغاء إلى روح الدعابة والنكت، والاتعاظ  والتعلم من تجارب سابقة سواء له/ لها أو للغير. 

  • الحاجة  دوما إلى خفض سقف التوقعات.

مما يساهم في الميل إلى رفع سقف التوقعات لدى الشخص:

  • ألامل الزائد والأحلام الجامحة في التخلص من وضع مزر يعيشه سواء كان نفسيا، اجتماعيا، اقتصاديا أو سياسيا كحالتنا.

  • البحث عن خلاص من هذه الحالة/ الحالات بعد أن افترض بأنه وجد المخلّص له / المنقذ له، دون أي ثمن شخصي قد يدفعه أو أي مساهمة ذاتية، فنحن لدينا ارتباط تاريخي مع شخصية الفدائي المخلص، وما نظرتنا إلى السيد المسيح كمخلص للبشرية في عهده، إلا خير دليل. أضف إلى ذلك، ومنذ انطلاقة الثورة الفلسطينية، ارتبط الخلاص بشخصية الفدائي الثائر على الظلم والاحتلال.


 

تدرك الغالبية من مجتمعنا، أن هناك من يعمل، ومنذ أمد طويل، على تدمير مقومات نيل الحرية والاستقلال، بدءا بخصي الشباب وتحييدهم، غالبيتهم من الطبقة العاملة والحركة الطلابية والمثقفين وقيادات مؤسسات المجتمع المحلي، وما التسريع في زيادة عدد التصاريح الممنوحة  إلا أحد أشكال تقليص الصراع والمواجهة بين الشعب المحتل (بفتح التاء) وسلطة الاحتلال، إلا نموذجا لأسلوب التدمير هذا. 

شكل اّخر من أشكال التدمير يكمن في استهداف العملية التربوية التعليمية بطرق شتى ، لا متسع لتناولها هنا.

اسمحوا لي عرض، وباقتضاب، رؤية شخصية لمفهوم الإنسان المثقف السوي الذي نريد  إذ تسمو إنسانية هذا الإنسان المثقف، إذا ما اتسم بالآتي:

  • هو "وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى". 

  • الذي يعمل وفق ما يجب وليس وفق ما يحب. 

  • هو الذي يكون كالقهوة وليس كالحليب عند الغليان، فالأولى تترك أثرا ورائحة زكيّة في حين تترك الثانية منظرا تشمئز منه الذات البشرية.

  • هو الذي يكون كالبيضة وليس كالجزرة عند الشدائد، فالشدائد - غليان الماء يقوّي البيضة ويعمل على جعل الجزرة رخوة).

  • هو الذي لا يعتمد على ثقافة الإشاعة والتي باتت تتحكم وتنتشر كالنار في الهشيم.

  • هو الذي يقرّويعمل وفق قيم الاختلاف (الليل والنهار كلاهما مكملان لبعضهما البعض)، والتنوع (السهل والجبل)، والتعددية وحرية التفكير والتعبير. 

  • هو الذي يعمل بجد وبلا فئوية لإسناد ركائز الهوية الوطنية: الذاكرة والثقافة الإنسانية الوطنية. 

كيف لنا أن نكون هكذا!

اليوم، وفي ظل ما يشهده مجتمعنا الفلسطيني من تناحر واقتتال، للأسف طالت غالبية فئاته، نحن بحاجة إلى

  • تكمن أولى الخطوات في العودة إلى قيمنا السمحة والأصيلة: من خلال التثاقف مع الآخر الفلسطيني وتعزيز لغة ومهارات الحوار، كي تستقيم حياتنا وفق الفطرة السويّة، وذلك كون القيم والأخلاق هي التي يجب أن تبلور وجهة ومسار الإنسان ويكون سلوكه كاشفا لقيمه وأخلاقه.

  • توفير أجواء الاختلاف في الرأي واحترام الآخر مما يضمن التعددية في المجتمع ووأد الفئوية الضيقة ونهج الإقصاء الذي بتنا نعاني منه جميعا.   

  • تشكيل المجالس الشعبية لحماية والنهوض بالواقع التربوي التعليمي، وعلى كافة مستوياته.

  • تشجيع العمل التطوعي التعاوني الذي يضمن الاختلاط مع أبناء الشعب الواحد بغض النظر عن الجنس، الدين أو العمر، مما يتيح لنا التعرف على مشاعر، احتياجات، مخاوف ورغبات الاّخر.

  •  أعود إلى ضرورة تعزيز نهج الحوار وعلى كافة المستويات، بدلا من اللجوء إلى الاقتتال والأخذ بالثأر. هنا أرى مسؤولية كبرى على وزارتي التربية والتعليم العالي من خلال إقرار مواد إلزامية في منهاج التربية الوطنية ومساقات إلزامية في الجامعات والمعاهد حول التربية من أجل الحوار وتعزيز السلم الأهلي لأهميته الوطنية والتنموية، إضافة إلى توسيع الهامش أمام مؤسسات المجتمع المدني العاملة في مجال حقوق الإنسان والتعددية الفكرية.