عادةً ما يقعُ عددٌ من الجنودِ، أو من الناس العزل في الأسر عندما تقع المعارك وتقوم الحروب، وتُصنِّفُ هيئاتُ الأمم المتحدة وجمعيات حقوق الإنسان التي تنشط في مثل هكذا ظروف، أولئك الواقعين في الأسر على أنهم أسرى حرب، أو أسرى مدنييون، وينصُّ القانون الدوليُّ على أنَّ لكلٍّ حقوقه التي يجب أن يأخذها كاملةً غير منقوصة، مع أنَّ التاريخ الحديث لا يذكرُ في صفحاته أنَّ قانونًا كهذا قد طُبِّقَ بالفعل على الجنسِ العربيّ، فهذه القراراتُ تصاغُ وتكتبُ وتُطبعُ بحروفٍ غربيةٍ، وغالبًا ما يسنُّها الجلادُ الذي يلجأ إليها حسب الأمزجة القائمة بالضرورة على النفاق، وعلى منطق القوة لا قوة المنطق. لذلك فإنَّ أسرانا العرَبَ من الدرجة الثانية أو العاشرة بعد المئة في عُرْفِ الأنظمةِ الجلادة يظلّون بلا حقوق، إلى أن يأكلَ السجنُ من أرواحهم وأجسادهم، وإذا ما قُدِّرَ لهم الخروجُ من غيابات السجن فإنهم لا يخرجون إلا بأسقامِهم وعللهم التي رافقتهم خلف الجدران المظلمة.
هذه المقدمة يمكن أن تكون مملة، لأنَّها تكرر كلامًا يتردد في كلِّ مناسبة، وقد فُطِمْنا على النفاق الدوليّ، وخَتْيَرْنا ونحنُ نسمعُ قراراتٍ وجعجعة فارغة، دون أن نرى على أرضِ الواقعِ ما يُثبتُ سوى الكيل بعشرات المكاييل. هذا على الصعيد الدولي، أمًا على الصعيد المحلي الوطني البلديّ المقدَّس، فإنَّ الوضعَ مختلفٌ تمامًا، فالمقاوِمُ الفلسطينيُّ صارَ مُدانًا، وإن استُشْهِدَ وهو يحملُ حجرَهُ النوويَّ الفتّاك، فإنَّهُ إرهابيٌّ في فقْهِ القريبِ قبلَ البعيد، بينما الجلادُ يصبحُ ضحيَّةً تستحقُّ النَّدْبَ واللطمَ والرَّدْح، ويستوجبُ الأمرُ إدانةً من الطرازِ الثقيل، ونحنُ نفعلُ أو يفعلون ذلك بمنتهى الغباءِ والبُكاءِ والفطنةِ الدبلوماسية، ولا أحدَ يسألُني كيف يجتمعُ كلُّ ذلك في عبارةٍ واحدة. فالجسدُ الهزيلُ لا يدري أيةَ حبَّة مُسكِّنٍ تقيهِ وخزاتِ الألم، وبالتالي فإنَّه يلتهمُ ما استطاعَ من الخوازيق التي لا تأتي فرادى، حيثُ صاحبه لم يعد قادرًا على تحسُّسِ إلْيَتِهِ لكثرةِ ما التهمَ من المُسكِّنات، وبالتالي فإنَّه يقتلُ نفسَه ذاتيًّا، ويقتلُ معَهُ ما شاء الله أن يقتل. ليظلَّ الجلّادُ حُرًّا طليقًا، في حين أنَّ صاحبَ الحقِّ الضحية يصبحُ مُطارَدًا منبوذًا ملعونًا، والحكمةُ في ذلك أنَّه من خالَفَ وليَّ الأمرِ فإنَّهُ خارِجٌ من الخوارِج، وعليه من الحاكم ما يستحقُّ.
أسرى الحرب، أو الأسرى الذين وقعوا في قبضةِ الجلادِ في أرضٍ مُحتلَّةٍ يتجاهلُهم القانون الدوليُّ، ونتجاهلُهم نحنُ كذلك، أو نخافُ من تذكُّرِهم عَلَنًا حتى لا نُصَنَّفَ إرهابيين، أو محرضين على الإرهاب، طالما وقَّعْنا وقرَّرْنا أنَّ الدفاعَ عن النفس والشرف والدين والأرض إرهاب. أما الذي كان غائبًا عنّا، أو غابَ عن عدالةِ القانون وسيادته هو قانون أسرى الصلاة. فكيف سيتمُّ التعاملُ مع الأسرى الذين خالفوا الشرائع السماوية والأنظمة الأرضية والقوانين العصرية وذهبوا للصلاة والرباطِ في المسجد الأقصى؟ هل سينجِبُ القانونُ الدوليُّ فرعًا جديدًا لاستصدارِ قانونٍ بقراءةٍ جديدة يُجرِّمُ الإرهابَ الصَّلواتيَّ؟ أم أنَّنا سنشهدُ تراتيل موسيقية جديدة لإداناتٍ واستنكاراتٍ من نوعٍ جديد؟
في الماضي كان سقفُ التوقُّعاتِ يتجاوزُ القولَ بكثير، مع أنَّهُ لم يكنْ مُرْضيًا، ثمَّ بدأ السقفُ يهبطُ ويتهاوى إلى أن أطبقَ على ساكني المنزِلِ الهَرِم، فصارَ الاستنكارُ ناعمًا عليهم، غليظًا علينا، والله المستعانُ على ما تصفون.
أسرى الصلاةِ في المسجدِ الأقصى، الذين باغتَتْهم بنادقُ الموت الحاقدة، وقيَّدت ركوعهم وسجودهم أيدي الشرِّ الآثمة، بعد أن دنَّست أقدامهم النجسة أطهرَ بقاعِ الأرضِ وأقدسها، يُقتادون بليلٍ إلى المجهول، ويُحوَّلونَ إلى أقبيةِ الظلمِ والظلام، لا يُتركونَ وحدهم، بل لا يجوز بأيِّ حالٍ من الأحوال أن يُتركوا لمواجهةِ مصيرهم المجهول، والذنبُ أنهم كانوا يُصلّون.
يا أسرى الصلاةِ في رحابِ الديارِ المقدسة، كونوا النورَ والنار، وكونوا الشموخَ في زمنِ الذل والانكسار، وسجِّلوا في صفحات العدالةِ الدولية الظالمة، أنكم أطهرُ قضيةٍ في العصرِ الحديث، وأنَّ الاحتلالَ المارقَ على التاريخِ سيزول إلى حيث ألقت رحلها.