كنت طالباً في دائرتي الفلسفة واللغة الإنجليزية في الجامعة الأردنية. كنت قد سجلت الفصل الدراسي الأخير لأكتشف بعد أسبوع أنني أحتاج إلى مادة اختيارية من دائرة اللغة الأنجليزية. ذهبت إلى أحد الأساتذة لكي يسمح لي بالانضمام إلى شعبته، فطلب مني أن أعود في اليوم التالي لأنه في حاجة إلى صلاة استخارة لكي يلهمه الله بالقرار الصائب فيما يخص هذه المعضلة المعقدة.
لكن ما علاقة صلاة الاستخارة بالسماح للطالب بالالتحاق بالمساق بعد أسبوع من بدء الدوام الرسمي؟
في اليوم التالي الموعود ذهبت إلى مكتب الأستاذ فأخبرني بنتيجة الاستخارة المتوقعة بالنسبة لي: إن الله جلت قدرته قد ألهمه القرار بعدم السماح لي بالتسجيل في الشعبة.
سألته باسماً: هل تضمن الوحي الإلهي المقدس أية رسالة تفسر السبب في عدم استحقاقي للمساعدة؟ فقال: كلا، ولكن لا بد أن الحكمة الإلهية لها أهدافها الخفية.
لم يكن القرار مزعجاً كثيراً بالنسبة لي. أصلاً أنا أنهيت المتطلبات في ثلاث سنوات فقط، ولن يضيرني في شيء أن أنتظر حتى الفصل الصيفي لكي أتخرج. لكنني على الرغم من ذلك قررت أن أزور رئيس الدائرة واستشارته فيما يحصل. استمع لي الرئيس بانتباه زائف ثم رد علي بجواب كان الطامة الكبرى: إذا كانت إرادة الله ذاتها لا تريدك في المساق فليس بإمكاني أن أضغط على الأستاذ لكي يقوم بتسجيلك.
ضحكت من أعماق قلبي، وقلت له إن إرادة الله المشار إليها تتصل أولاً وقبل كل شيء بغسان كنفاني، ولكنها تتصل ثانياً بمواقفي الفكرية ونشاطاتي السياسية التي لم يكن الأستاذ راضياً عنها.
كان الأستاذ صاحب الاستخارة قد درسني في العام السابق مساقاً في القصص القصيرة المترجمة إلى الإنجليزية. وقد صدف أن قصة غسان كنفاني "موت سرير رقم 12" كانت إحدى قصص المجموعة. وقد فوجئ الأستاذ بمشاركتي المفاجئة في مناقشة القصة. كنت طالباً منزوياً في الشعبة قلما أشارك، وهو ما دعا الأستاذ إلى سؤالي بعد المحاضرة عن سر هذا "التوهج" الاستثنائي. قلت له بالطبع إن السبب هو غسان كنفاني الذي كنت قد قرأت أعماله كلها. فسألني بطريقة ساخرة عن سر اهتمامي بهذا الكاتب، وعندها دار بيننا حديث اتضح منه أنه لم يكن يعرف غسان أبداً. بعد ذلك سيقوم الأستاذ بحذف قصة غسان من المساق.
وبعد ذلك أيضاً يحسم الأستاذ موقفه مني نهائياً باعتبار أنني طالب سيء لسبب ما ولا يستحق أن يكون في دائرة اللغة الإنجليزية العظيمة. وعندما جاءت الفرصة لكي يفعل شيئاً ضدي لم يتردد في استخارة الله وصولاً إلى تأخير تخرجي حتى الفصل الصيفي.
في ذلك الوقت لم أر في الحزيرة كلها إلا الجوانب الشخصية أساساً. لكنني اليوم بعد زمن طويل أتذكر ما حصل بمرارة لا علاقة لها بمشاعري الشخصية: إن أستاذاً ورئيس دائرته يمكن أن يوظفا الدين من أجل تفسير سلوك إداري عادي لا علاقة له بالدين والمعتقدات من قريب أو بعيد.
إذن لم تكن الجامعة الأردنية مجتمعاً من العلماء الصغار والكبار وقلعة لحماية العقل والعلم والمعرفة. وفي هذا السياق أتذكر بمرارة كبيرة أيضاً أن معظم الأساتذة كانوا يتبعون الطرق التقليدية في التدريس، وكانوا يكتفون بحفظ المحتوى وإلقائه على مسامعنا مثلما كانوا يتوقعون منا ويطلبون منا في الامتحانات أن نعيد إنتاج ما ألقوه علينا حرفياً.
كانت طريقة الجامعة تقوم على القمع والتخويف المطلق حيث سلطة الجامعة والتسجيل وعمادة شؤون الطلبة والأساتذة غير قابلة للمناقشة أو التفاوض. كأنما كانت الجامعة امتداداً مطابقاً للمدرسة وأجهزة القمع الشرطية والمخابراتية. لم يكن هناك أي حيز للمناقشة أو التفكير أو الاختلاف، ولم يكن هناك بداهة أية فرصة لتدريب الناشئة على مهارات البحث والكتابة والإنتاج المعرفي. ولهذا السبب كانت التخصصات الإنسانية تحديداً متدنية إلى حد مؤلم. أما التخصصات الطبيعية فكانت تلقن الطلبة مبادئ العلوم بصرامة تامة وصولاً إلى استظهار الطلبة لها على نحو راسخ بحيث يتقنون ما هو مطلوب منهم دون أن يكون أي منهم في وضع يسمح بتطور أية قدرات لديه باتجاه إنتاج البحث والعلم والمعرفة.
سمعت أن الجامعة الأردنية ما تزال تحافظ على تقاليدها مع ميل كبير إلى التخلي عن الصرامة في نطاق حفظ المعطيات والمحتوى بما يسمح أن تكون نقطة جذب للطلبة الأجانب من أجل تعزيز فرص الربح التي أصبحت قانوناً عاماً في الزمن الرأسمالي الجديد الذي تمدد ليتخلل مناحي الحياة كلها.
أخيراً ولكي لا يغضب خريجو الأردنية أهمس في آذانهم أن وضع الجامعات المحلية في فلسطين لا يقل سوء، أما مصر فتبيع الشهادات في ميدان التحرير لكل من يملك الدرهم والريال والشيكل والدينار لكي يدفع ثمنها. وليس في حدود علمي من جامعة عربية واحدة تحترم دورها المتصل بالدفاع عن الإنسان والعقل والعلم والمعرفة، وهذا قد يكون سبباً لقراءة بؤس الجامعات في نطاق يتجاوز أسوارها ليصل إلى استكناه الشروط الاجتماعية/الاقتصادية/السياسية التي تشكل حاضنتها المحددة على نحو رهيب.