تجري عملية شيطنة ممنهجة تقودها دوائر وأجهزة وقيادات دولة الاحتلال، بكل مستوياتها الأمنية والعسكرية والسياسية، ويشارك فيها صحفيون ومحللون سياسيون وقادة رأي ومراكز دراسات وأبحاث، وقيادات أمنية وعسكرية متقاعدة لقائد حركة حماس في قطاع غزة يحيى السنوار بعد خطابه في 30/ نيسان الماضي، والذي دعا فيه إلى مقاومة الاحتلال بكل الطرق الممكنة.
خطاب السنوار هذا، الذي تطلق عليه الأجهزة العسكرية والأمنية والسياسية الإسرائيلية مصطلح خطاب "الفؤوس"، تقول بأنه أوجد البيئة والحاضنة وأجج المشاعر تجاه تنفيذ عملية مستوطنة "العاد" بواسطة الفؤوس من قبل شابين تمكنا من الانسحاب بسلام، وهذه "الشيطنة" للسنوار والتحريض على قتله، كما جرى في عمليات سابقة اغتالت فيها المخابرات الإسرائيلية العديد من قادة المقاومة الفلسطينية، لم يحقق لها أي استقرار أو أمان أو نصر أو تفكيك لبنى تلك الفصائل والقوى، بل شهدت أوضاعها المزيد من تطوير قدراتها وإمكانياتها العسكرية، وخلف القادة الذين اغتالتهم أجهزة أمن دولة الاحتلال ومخابراتها، قادة أكثر شدة في تنظيماتهم، ولم يكونوا أقل منهم انتماءً وإخلاصاً لا في الجانب العقائدي ولا المبدئي ولا الكفاحي ولا التعبوي التحريضي.
وتلك العمليات شكلت حلولا موضعية لدولة الاحتلال وجزء منها جاء في إطار محاولة إسرائيل استعادة قوة الردع، وطمأنة المجتمع الإسرائيلي الذي تزداد جبهته تفككاً وعدم ثقة بقياداته الأمنية والعسكرية، وتجربة اغتيال زعيم حزب الله اللبناني الموسوي في عام 1992، والرد عليها بعملية موجعة ومؤلمة من قبل الحزب في الأرجنتين، قتل وجرح فيها المئات من الإسرائيليين، انتقاماً لاغتيال موسوي، وخلف الحزب في القيادة سماحة السيد حسن نصر الله، وهو الذي يؤرق ويصدع رأس دولة الاحتلال بكل أجهزتها ومستوياتها ليل نهار، بل يراقبون كل تصرفاته وحركات جسده في خطبه ومقابلاته، هم وأمريكا والعديد من دول النظام الرسمي العربي المنهار والمتعفن، نادي التطبيع العربي الرسمي، والذين ينظرون للسيد كنموذج يعري جبنهم وخوفهم وهزائمهم الداخلية، ويشكل تهديداً مباشراً لأنظمة حكمهم، من خلال تحريض شعوبهم للثورة عليهم، وهو من استطاع أن يرسخ حزب الله كقوة إقليمية، يحسب له ألف حساب، وخلق معادلات ردع مع دولة الاحتلال في البر والبحر وحتى في الجو، وهو من أسقط مشروع أمريكا لخلق شرق أوسط جديد في الحرب العدوانية التي شنتها إسرائيل بالوكالة عن أمريكا لأول مرة في تموز/2006.
وكذلك اغتالت إسرائيل قادة من طراز الشيخ أحمد ياسين والرنتيسي والجعبري والشقاقي وأبو علي مصطفى وبهاء أبو العطايا وأبو جهاد وأبو إياد ورائد الكرمي وغيرهم من قادة فصائل المقاومة، تلك الاغتيالات لم تستطع أن توفر الأمن والحماية والهدوء والاستقرار لعدو، يحتل أرض غيره، ولا يريد أن يعترف بوجود الشعب الذي يحتله أو حتى التخلي عن جزء من الأرض التاريخية التي سرقها واحتلها وشرد نصف سكانها الأصليين، هم يدركون بكل أجهزتهم وقادتهم بأن عملية "العاد" وغيرها من العمليات الفردية "الذئب المنفرد" من الصعب كشفها لا في الإعداد ولا في التخطيط ولا التهيئة أو التنفيذ، ولا يحلها لا عمليات "جز عشب" ولا عمليات "كاسر الأمواج"، وكذلك حل معضلة قائد حركة حماس وغيره من قادة فصائل المقاومة لن تحل باغتيال هذا القائد أو ذاك، وإعادة احتلال قطاع غزة عبر شن عملية برية واسعة.. مكلفة بشرياً ومادياً لدولة الاحتلال، والرد لن يكون فقط بضرب عمق دولة الاحتلال ومنشأته الاقتصادية والأمنية والعسكرية الحيوية وفرض الحظر الشامل على أكثر من نصف سكان دولة الاحتلال، فمثل هذه المعركة أو الاجتياح، قد يقود إلى حرب إقليمية شاملة، لا يمكن لدولة الاحتلال أن تحدد نقطة بدايتها أو نهايتها، والحروب الخاطفة ونقل المعركة إلى أرض العدو قد ولى، والساحات الفلسطينية أعادت معركة "سيف القدس" في أيار من العام الماضي ربطها.
والمقاومة نجحت في استعادة وعي أكثر من مليوني فلسطيني في الداخل الفلسطيني- 48 - كخزان بشري شريك مباشر في مقاومة الاستيطان والاحتلال، وأوقفت معركة "سيف القدس" تعريف شعبنا هناك وبشكل نهائي، أنهم عرب "إسرائيل"، وأكدت أن هويتهم الفلسطينية وانتمائهم لشعبهم، لم تنجح كل محاولات الاحتلال ومشاريعه وقوانينه وقراراته في استلاب و"كي" و "تطويع" وعيهم وصهره، بدمجهم وتذويبهم في الجمهور والاقتصاد الإسرائيلي، بل ثبت أنهم جبهة أساسية في المشروع الوطني الفلسطيني، وأحد أهم ساحات الاشتباك مع المحتل في أي انتفاضة أو حرب قادمة.
وكذلك هناك نقطة جوهرية وعلى قدر عال من الأهمية، بأن ما يدفع نحو المزيد من التفكك والصدام في البنية الداخلية للمجتمع الإسرائيلي، هو تنامي قوة "الداعشية" اليهودية في المجتمع ودفة القيادة السياسية والأمنية الإسرائيلية، بحيث باتت تلك القوة "الداعشية" المفرخة من قوى اليمين الصهيوني من أحزاب "الليكود" و"يمينا" و"هتكفا" والصهيونية الجديدة وحركتي "شاس" و"ديغل هتوراة" وغيرها من قوى التطرف والعنصرية، هي من تتحكم في القرار السياسي لدولة الاحتلال، وبقاء وسقوط الحكومات الإسرائيلية الحالية والسابقة أو من ستأتي بعد سقوط هذه الحكومة، بعد موت السياسة في دولة الاحتلال، كنتاج لتشظي وتفكك الأحزاب السياسية الكبرى، ولذلك أي حكومة إسرائيلية إسرائيلية يقودها بينت أو نتنياهو أو حتى لو جاء بن غوريون أو بيغن وشارون من قبورهم سيجدون بأن هامش المناورة لحكوماتهم يضيق، – شيئاً فشيئاً، وسيجدون رؤوسهم مضغوطة بين فكي كماشة يقتربان من بعضهما تدريجياً، بحيث يصير على الحكومة، أن تختار بين الذهاب نحو توفير الغطاء لتحركات المستوطنين والمتطرفين، المدفوعة بقوة عدم الثقة بالحكومات والسياسة، وبقوة القناعات العقائدية المتطرفة، التي تقوم على قتل العرب من مسلمين ومسيحيين، وفي هذه الحالة تكون الحكومة مدركة بكامل وعيها أنها ستدفع ثمن تماسك المتطرفين والمستوطنين وراءها، بالمخاطرة بالذهاب إلى حرب جديدة مع المقاومة في غزة، ولاحقاً في المنطقة، وأن لا أمل يرتجى من الفوز بهذه الحرب عسكرياً، ولا قدرة على تحمل دفع الثمن اللازم سياسياً لوقفها، وهذا سيعني لاحقاً الأخذ على أيديهم ومنعهم من التفلت من الضوابط التي تمنع نشوب الحرب، وهذا سيعني المخاطرة بالتصادم معهم، والانتقال تدريجيا إلى مناخ انقسام داخل الجمهور الإسرائيلي، بين مفهوم سلطة تبحث عن الاستقرار الإقليمي في لحظة ضعف قاسية، ومفهوم مجتمع متطرف ومسلح ولا حدود لاستعداده لمواجهة مؤسسات السلطة عندما تعترض طريقه المرسوم بقوة العقيدة التي قامت على أساسها السلطة ذاتها.
ونحن شهدنا ونشهد بوادر انقسام داخل الجمهور الإسرائيلي، من خلال قيام حكومة بينت بتقييد مسيرة الأعلام التي قادها المتطرف بين غفير في شهر رمضان المبارك والتي حاول من خلالها الوصول إلى منطقة باب العامود، حيث منعه جيش وشرطة الاحتلال من السير بها وجرى صدام محدود بين المتظاهرين وجيش وشرطة الاحتلال، وكذلك شهدنا مثل هذه المظاهر في الجدال الذي دار في مستوطنة "العاد" بعد عملية "العاد" التي نفذها شابان فلسطينيان، بين أحد الحاخامات وأفراد تلك الجماعات المتطرفة والمتشددة، بتحميل الحاخام للمتطرفين بالمسؤولية عن هذه العملية، بسبب قيامهم بالتعدي على أماكن العبادة والأماكن الدينية للمسلمين والمسيحيين وفي المقدمة منها المسجد الأٌقصى، وهذه إرهاصات غاية من الأهمية لصدام يهودي داخلي أوسع وأشمل قد يقود إلى المزيد من التفكك والدخول في حروب داخلية، واعتراف مباشر بأن السبب المباشر في عملية "العاد" وغيرها من العمليات السابقة، ليس لا السنوار ولا غيره من قادة المقاومة بل هي وحشية الاحتلال وكل سياساته وممارساته القمعية والوحشية بحق الشعب الفلسطيني واستمرار احتلال وسلبه وسرقته لأرض الفلسطينيين وطردهم وتهجيرهم وإنكار حقوقهم، والسير خلف تلك الجماعات المتطرفة، والتي ربما باستمرار تحكمها في القرار السياسي الإسرائيلي وبقاء وسقوط الحكومات الإسرائيلية، ستقود دولة الاحتلال إلى هدم المعبد على رأس من فيه.