في اجتماع الإذاعة اليومي الذي كنت حريصًا على أن أشارك فيه، مع أنني ما أزال متدربا، وكان يضم قادة العمل الإذاعي من محررين وكتاب ومذيعين ومؤلفي الأناشيد.
سأل فؤاد ياسين، رسمي أبو علي "كبير المذيعين"، متى ستسمح لنبيل بتسجيل مواد إذاعية "عالخفيف"
- من اليوم. أجاب رسمي على الفور.
غير أنه صدمني حين أختار لي "الشيفرة" كأول مادة ألقيها في عملي الإذاعي المستجد.
الشيفرة هي كلمات مبهمة وأرقام لا يعرف مغزاها إلا المرسل والمستقبل، وهي موجهة للخلايا السرية العاملة في الأرض المحتلة، مثل من ( "ا.ق" إلى "س.ع" أذهب إلى الشجرة وانتظر).
ورغم صدمتي بما سيسند إليّ من عمل أبتدئ به حياتي المهنية، إلا أنني شعرت ببعض الرضا، فهأنذا أضع أقدامي على الطريق، وواسيت نفسي بالقول، اليوم شيفرة، وغداً برنامج، وبعد غد تعليق، وأخيراً نشرة الأخبار.
راقبت أدائي في قراءة الشيفرة، بحيث لا مجال للخطأ ولا حتى لتقويم جودة الأداء في استقطاب المستمع، وإيصال المعنى المطلوب عبر نبرة الصوت، وتواصل المفردات أو تقطيعها، والتوقف في الوقت المناسب، والتأكيد على كلمة معينة ولو احتجت إلى إعادتها.
كان تقويم رسمي وفؤاد على نحو أولي إيجابياً، وقررا معا السماح لي بقراءة فقرات قصيرة.
أمضيت أسابيع وأنا أشارك في تسجيلات محدودة، كنت أسأل وبإلحاح:
- متى سيسمح لي بالقراءة على الهواء مباشرة بعد أن طالت فترة التسجيلات؟
- لا تتسرع. قال فؤاد.
مضت أسابيع أخرى، وكل يوم تزداد رغبتي في أن أتساوى مع زملائي في أداء المهام الإذاعية، ومركزها آنذاك السماح لي ولو بالتنويه عن الموجات العاملة، وهي أبسط أنواع العمل الإذاعي، أو بأن أؤدي عمل مذيع الربط، الذي لا يتجاوز دوره قراءة جمل قصيرة مثل "استمعتم إلى أو بعدها ستستمعون إلى“.
أخيراً وبعد إلحاح وتأييد من زملائي المذيعين، قرر فؤاد المجازفة بالسماح لي بالإذاعة على الهواء مباشرة، استدعاني إلى مكتبه، كان معه أحد أهم المذيعين وهو عارف سليم، صاحب الصوت القوي والمتمكن من اللغة، "لا خطأ لا لعثمة". كنا نسميه بلدوزر الإذاعة.
بادرني فؤاد قائلاً:
- ستبدأ العمل على الهواء مباشرة، ستقدم عارف الذي سيقرأ موجز الأنباء، أي ستقول ما يلي - صوت العاصفة- صوت فتح – صوت الثورة الفلسطينية، نحييكم في بداية إذاعتنا لهذا اليوم، وإليكم.. الأخبار في سطور. كان عنوان الموجز هكذا.
قرأت النص المحدد. دون لعثمة أو خطأ.
- على بركة الله. قال فؤاد.
لأول مرة سوف يعانق صوتي الأثير مباشرة، كنت بَيّتُ أمراً لم أبح به حتى لعارف الذي سأقدمه، بعد أن فرغت من التقديم، انتزعت من يد عارف الأوراق التي كان يستعد لقراءتها، معنونة بمصطلح الأخبار في سطور، ومضيت في القراءة متجاهلا ذهول عارف.
كان فؤاد يراقب الإذاعة عادة إما من مكتبه أو من راديو السيارة أو من البيت، حين سمعني أقرأ موجز الأنباء كاملاً مخالفاً بذلك تعليماته التي شددت على أن لا أقرأ غير التقديم المكون من عدد محدود من الكلمات، اتصل طالباً عارف.
- من الذي سمح لنبيل بقراءة الموجز؟
- لقد اختطفه من يدي، لم أستطع عمل شيء ولكن الله سلم. أجاب عارف.
في الاجتماع اليومي الذي كان يبدأ بانتظام وفي موعده المحدد العاشرة من كل صباح، تكونت حملة إشادة بقراءتي لموجز الأنباء.
أسقط في يد فؤاد الذي لامني ولكن برخاوة، على مخالفتي التعليمات، كنت سعيداً بأن سجل الأمر على حساب المخالفة الانضباطية، ولكن بالمقابل ولد في صوت العاصفة مذيع جديد.
يتبع... كيف بنيت شخصية صوت العاصفة.
لقراءة المزيد:
رحلتي بين القلم والميكروفون والكاميرا (الحلقة الأولى)
رحلتي بين القلم والميكروفون والكاميرا (الحلقة الثانية)
رحلتي بين القلم والميكروفون والكاميرا (الحلقة الثالثة)