الحزن له وجوهٌ كثيرة، لكنَّ الاحتلالَ لا وجْه له، فهو بلا وجه، وبلا وجاهة، وبلا أخلاق، فهو عدوُّ الإنسانية، وصديق الظلم والظلام، فما أن تُذكَر سيرتُه العفنة حتى يتحرك الأدرينالين، ويرتفع الضغط والسكري المرتفعان أصلًا في دماء شعبٍ، كلُّ شيءٍ فيه مرتفع تحتَ سقفِ الكرامةِ العالي. ولذلك فإنَّه شعبٌ يفرحُ بخصوصية، ويحزن على العام، فلا أحزانَ مستورة في حناجرنا، ولا دموع يمكن أن تثبت في المآقي، وكثيرًا ما نؤجلُ أفراحَنا لنحظى بشيءٍ من الحزن الذي لا يزول، أما أن نؤجِّلَ أحزانَنا لنحزن بامتياز، فهذه خصيصةٌ اختصَّ الله بها أبناء شعب فلسطين، ووهبهم هذه المنحة الربانية التي لم تُعطَ لأحدٍ من العالمين.
إنَّ فاجعة استشهاد الأخت والصديقة وأيقونة الإعلام الفلسطيني شيرين أبو عاقلة رحمها الله، شكَّلتْ حدثًا مفصليًّا تبلَّرَ عبر طبيعة الحدث والخبر معًا، وأثر الصدمة التي اخترقت كلَّ بيتٍ فلسطينيٍّ، وما رافق ذلك من حالة اشمئزاز فلسطينيٍّ بالتحديد، وعربيٍّ ودوليٍّ بكل تأكيد، من ذلك المحتل الهجين، الذي حاول وما زال قتل الصوت الفلسطيني، حيث إنَّ له اليد الطولى في اغتيال القامات الأدبية والوطنية، والقائمة التي تحمل أسماءَ الشهداء طويلة، من غسان كنفاني إلى كمال ناصر، وماجد أبو شرار، وصولًا إلى شيرين، فهذه الإشارات تدلُّ على أنَّ الصوتَ الحُرَّ يُتْعِبُ أولئك الناقصين والطارئين والعابرين المغَبَّرين بأحلامٍ بائسة، فيلتقطون أنفاسهم بإطلاقِ موتهم المسعور على الحياة.
شيرين أبو عاقلة التي عَقَلَتْ ألسنةَ المحتل، وفضحت حركاته وسكناته، وجاسَ صوتُها الرنَّانُ أقبيةَ العزلِ في سجونٍ سوداء، وفي زنازين التحقيق، وداخل غرف الأسرى المرضى وهم يستعيذون بالجوع من شرِّ الاحتلال، فكانت شيرين الأمَّ التي تُهدهِدُ أوجاعَهم، وكانت كفُّها تُمسِّدُ أرواحَ الأمهات اللواتي أنهكهُنَّ الوقت، وأهلكهُنَّ الصمت، إذ لم يكن وقتذاك سوى صوتِ الحريةِ الرنان، صوت شيرين التي قدَّمت الخبرَ العاجلَ، قبلَ أن تصبحَ الخبرَ ذاته.
وما أشبه اليوم بالبارحة!، فقد حاول المحتلُّ شدَّ لسان شيرين التي كانت تردُّ عليهم في كلِّ مرَّة، بلسان الشاعر:
"فلم يفلل توعدٌّه لساني ولم يوهن ولم يقطع قبال"
لكن الاحتلال يستمرُّ في غلوائه وغوغائيته، إذ تشير الإحصائيات الصادرة عن مراكز حقوقية محلية وعربية ودولية إلى أنَّ عدد الانتهاكات الإسرائيلية بحق الإعلاميين في تزايدٍ خطير، فمنذ العام 2000 وصل عدد الشهداء الإعلاميين (56 شهيدًا)، وفي شهر إبريل الماضي من العام 2022 بلغت الانتهاكات ما يقارب (58 انتهاكًا) وصلت في بعضها للتهديد الشخصي المباشر بالقتل، لتُفتَتَح تلك التهديدات بالتنفيذ الفعلي، لتكون حادثة استشهاد شيرين فاتحةً لهذه التهديدات، وكما أظهرت الصور والمقاطع المأخوذة من موقع الجريمة، فإنَّ القتل جاءَ عن سبق إصرار، حيث استمر إطلاق النار حتى بعد ارتقاء شيرين، فأصيب الإعلامي علي سمودي، وتعرَّض المسعفون لإطلاق نار كذلك، وكأنَّ القناص كان مُبتعثًا لهذه الغاية، فأرادَ اقتناص الفرصة لقنصِ الصوت الحر، وبهذا العمل الجبان فإنَّ الحقيقةَ التي أرادوا إخفاءَها بتحييد شيرين عن المشهد صارت أكثر وضوحًا، وأعمقَ أثرًا في نفوسِ الصغار قبل الكبار، وصار البيت الفلسطيني مشحونًا بالحزن المصنوع من مادة القهر، ليظلَّ نَغَمُ الغضبِ على أولئكَ المغتصبين حاضرًا في وعي الأجيال.
أيَّتها الشيرينُ التي جئتِ من الأرض المقدسة، من عاصمةِ فلسطين إلى عاصمة الشهداء، لقد أّجَّلتِ أفراحَنا وأتراحَنا معًا؛ أما تأجيل الفرح فهذا أمرٌ مفهوم، فأمامَ مشهدِ رحيلكِ تُلغى الأفراح المؤقتة، فقد كان كثيرٌ من الآباء يستعدون لاحتفالاتِ تخريجِ أبنائهم، وكم من مُعلِّمٍ كان يستعدُّ لإعطاء حصةٍ عن الميزان الصرفي، فانقلبَ الميزانُ، وانصرفَ الجامدُ أمامَ هذا المشهد الذي حرَّكَ جمودنا، وكم من أُمٍّ كانت تنتظرُ انتصاف النهار لتستقبلَ ابنتها العائدة من مدرستها لتحتفي بعيد ميلادها، وكم من بائعٍ كان يؤلِّفُ أغنيةً ليطرقَ بها آذان المُشترين العائدين من أعمالهم باسمين، فتحوَّلَ كل ذلك إلى انتظارٍ واحد ووحيد، وإلى نشيدٍ ونشيج. وفي المقابل فإنَّ أحزاننا كانت كثيرة، فهناك من كان ينتظرُ وصول جثمان حبيبٍ أو قريب، وهناك من كان يستعدُّ لحفل تأبينٍ، وهناك من كانت تبكي ابنها الذي عاد بلا حقيبة، ولكنه عاد بشهادةٍ لا يحظى بها إلا العظماء، فكلُّ هذا الحزن تأجَّل، تأجَّل يا شيرين، فقد فهمنا أن نؤجل أفراحَنا، أما أن نؤجِّلَ أحزانَنا الدائمة، لنحزنَ عليكِ أكثر، فهذا لم يكن لغيرك أيتها العملاقة، فأيةُ كرامةٍ تلكَ التي حباكِ إياها الله؟! وأيةُ مفخرةٍ نلتِها بهذه الشهادة على أرضِ الشهداء؟!