الكتاب والمذيعون في صوت العاصفة وكانت من بينهم مذيعة واحدة هي علياء الحسيني، جعلتهم الغربة يتعاملون مع المكان الذي يعملون فيه، كما لو أنه بيت عائلي، جميعهم باستثناء عدد قليل من الإداريين أي غير المذيعين والمعلقين. لا يتسنى لهم العيش بين أهلهم الذين يقيمون في الضفة وغزة والجليل، وحتى الذين يعيش أهلهم في الأردن فإن التقلبات السياسية حرمتهم من ذويهم، فهم مطلوبون للسلطات الأردنية أو هكذا كانوا يعتقدون، وكذلك الأمر بالنسبة لسوريا. كانت غربتهم تفرض عليهم تفاعلاً إنسانياً حميما فيما بينهم، فليس له في واقع الأمر من تعويض عن الحرمان القسري من الأب والأم والشقيق، إلا الأب فؤاد ياسين الذي كان يكبر الجميع سناً، وحباه الله موهبة أن يكون أباً لمن يعملون معه.
لم يكن في تلك الحقبة من حياته وحياتنا، قد أنجب أولاداً، إلا أن الله أكرمه فيما بعد بخلف صالح ولكن في بلاد الاغتراب "تركيا".
بعضنا أسس عائلة إذ تزوج في مصر. وبعضنا وأنا منهم أحضر زوجته إلى مكان عمله، وبعضنا صار له عرسان واحد في بيت أهل العروس في الخليل مثلاً، والآخر في القاهرة.
أنجبت ابني البكر طارق وأنا في فترة عملي الأولى في صوت العاصفة.
وقد حصلت على سلفة تسدد بالتقسيط المريح لتغطية فاتورة الولادة بمستشفى هليوبوليس بمصر الجديدة، وحين أبلغت زملائي في الإذاعة بأن الله رزقني بمولود دب فرح صاخب، جعلني أشعر بأن لي عائلة توازي تلك التي في دورا، تذكرت دعوات جدتي المفضلة حين كنت أقدم لها خدمة ما، "الله يوقفلك ولاد الحلال".
لقد تحققت دعوتها بهذا الفرح الصادق والصادر من القلب احتفالاً بقدوم ابني طارق إلى الدنيا، وفي ظل هذا كان الله قد وضع في حياتنا سيدة مصرية تساعد زوجتي الحامل في عمل البيت، اسمها أم محمد، كانت تسافر ساعات من إمبابة إلى روكسي ذهاباً وإياباً ولمرة واحدة في الأسبوع إذ لم يكن بمقدوري توظيف "عاملة“ بصورة دائمة.
حين عدنا من المستشفى حاملين قطعة اللحم التي صارت الآن رجلاً مكتملاً ومدير صحيفة، اسمه طارق، وجدنا أم محمد في انتظارنا، أبلغتنا بأن ابنتها في آخر شهرها التاسع ومن المحتمل أن تضع مولودها بين ساعة وأخرى، ظننا أنها مضطرة للمغادرة قبل إتمام ساعات عملها وضعت يدي في جيبي كي أدفع لها أجرة اليوم، قالت بلهجة احتجاج "بتعمل إيه يا بيه، أنا حفضل عند الست بشرى ثلاثة أيام على بال ما تشد حيلها وتقوم بالسلامة".
سألتها "وماذا بخصوص ابنتك التي... قاطعتني وقالت: عندنا في إمبابه ميت ست بتخلي بالها منها، أما انتو يعيني مين عندكم".
اغرورقت عيناي بالدموع، وجدتني أحب مصر أكثر مما أحببتها أيام الولع بخطب جمال عبد الناصر، وقضاء سهرات مع حفلات أضواء المدينة ومطولات أم كلثوم المدهشة.
كانت كلمات أثرت بي حد البكاء "إنتوا يا عيني مين عندكم".
إن كلمة صادقة قالتها أم محمد المصرية الحنونة، زودتني بطاقة حب لمصر وأهلها لم تغادرني ولو للحظة واحدة، كلمة حب من إمراة طيبة ظلت في حياتي أقوى وأعمق وأبقى من كل التقلبات السياسية، بما في ذلك زيارة السادات للقدس، التي أسفرت فيما أسفرت على صعيدي الشخصي، عن إغلاق الإذاعة، التي تعلقت بها، مما أدى فيما بعد إلى رحيلي عن المدينة التي أعشقها القاهرة إلى المدينة التي أخافها بيروت.
صرت إذاعياً بقوة الإلحاح والرغبة العميقة والاستعداد الدائم للتعلم، كان هاجسي كيف ألحق بزملائي الذين دربوني وظلوا في وعيي وسلوكي متفوقين علي، كان بعضهم ما يزال مرتبطاً بالجامعة كطالب مواظب. إذاً فقد أتيحت لي فرصة إضافية كي أعمل إلى جانب ما كنت أكلف به، ككاتب، ومذيع مبتدئ، إما بفعل الالتزامات الدراسية للزملاء والامتحانات، أو بفعل سفرهم ومرضهم واضطرارهم للغياب.
على الطريق الطويل الممتد من روكسي في مصر الجديدة إلى المبنى رقم 4 شارع الشريفين المتفرع من شارع قصر النيل وكلاهما يقع في وسط البلد، يوجد المستشفى القبطي الذي رقد فيه صديقي الأقرب وأحد الذين دربوني على القراءة خالد مسمار، لقد أُجريتْ له جراحة يفترض ألا تكون خطرة، لاستئصال حصى من الكلية إذاً كلها ثلاثة أيام، ويعود إلى غرفته في سكن الطلبة بجامعة الأزهر. غير أن خطأً طبياً أرغمه على البقاء لأسابيع. كانت حرارته قد ارتفعت بصورة مقلقة، لم ينجح الأطباء في خفضها فاستبد بنا الخوف عليه، كنت أواظب على زيارته يومياً، وكانت أم طارق تواظب على إعداد عصير البرتقال الطازج للشاب الذي كان بمثابة شقيق لها في الغربة، فلم تنسى اهتمامه بي حين أجريت جراحة لاستئصال اللوزتين مما أعاق عملي الإذاعي قرابة الشهر بعد أن انتكست الجراحة والتهبت.
كانت علاقات الغربة أقوى وأعمق من أي علاقات أسرية طبيعية، فما أكثر الوقائع الأسرية المشابهة التي عشناها واعتمدنا عليها، فكانت الهواء النقي والمنعش الذي نتنفسه.. لم تلغي أوجاع الغربة التي نكابدها، إلا أنها جعلتها في حياتنا أمرا نستطيع تحمله.
أثناء فترة رقود الحاج خالد في المستشفى قمت بقراءة كل المواد المسجلة باسمه في برنامج العمل اليومي، كان زملائي يأتون إلى الإذاعة، إما لكتابة المادة المطلوبة منهم، أو لتسجيل الفقرة الإذاعية الخاصة بهم، أي أن البقاء في الإذاعة لا يتجاوز الساعتين إلى ثلاث ساعات في اليوم، وحين تكرستُ كمذيع جديد أضيف إلى عملي الأصلي ما يملأ فراغ المتغيبين، لقد بلغ بي الانهماك بالعمل والسعي للتعويض حد أن أكون أول الواصلين للإذاعة، وآخر المغادرين.
يتبع.. فصل الأناشيد