''تنقصنا الأجنحة، لكن لدينا دائما قوة كافية كي نسقط''
(بول كلوديل، حالات واقتراحات، ص 237)
عندما نطرح موازنة ثنائية تتعلق بمجازات السقوط وكذا الصعود، نشعر حتما بالذهول نتيجة العدد الكبير المميِّز للنوع الأول. قبل أيِّ إحالة على الحياة الأخلاقية، يبدو كأن مجازات السقوط تكفلها، واقعية نفسية أكيدة تطور مجموعة انطباعات نفسية، تترك داخل لاوعينا آثارا غير قابلة للمحو: يمثل الخوف من السقوط، خوفا أوليا، نصادفه ثانية باعتباره مكوِّنا ضمن مخاوف متنوعة جدا. إنه العنصر الديناميكي بخصوص الخوف من الظلام؛ يشعر الهارب بارتعاش قدميه. تهيئ الظلمة ثم السقوط في هاوية الظلمة، حكايات درامية بالنسبة للخيال اللاواعي.
لقد أوضح هنري فالون Wallon بأن رُهاب الخلاء، يعكس أساسا جانبا من خوف السقوط. ليس خوفا من لقاء أشخاص، بل عدم الاصطدام بجدار ساند. نحس جراء أدنى ارتداد، بالارتجاف من هذا الخوف الطفولي. أخيرا، تعرف أحلامنا نفسها، سقطات في جوف هاويات عميقة، تحدِث دوخة.
لذلك، أبرز جاك لندن مأساة السقوط الحُلُمي غاية أن جعل منه "ذكرى للسلالة''. بالنسبة إليه، يعود هذا الحلم: "إلى أسلافنا القدامى الذين عاشوا على الأشجار. لأنهم كانوا مرتبطين بالأخيرة، فقد شكلت مجازفة السقوط بالنسبة إليهم تهديدا حاضرا باستمرار(جاك لندن قبل آدم ص: 27- 28 ): "سنلاحظ بأنه مع حلم السقوط وقد أضحى مألوفا جدا، لديكم ولدي وعند الجميع،عدم ارتطامنا قط بالسطح، أنتم وأنا، ننحدر من الذين لم يلمسوا الأرض (فقد تمسكوا بأغصان خلال سقوطهم)؛ لذلك لن ألمس قط ولا أنتم السطح خلال أحلامنا". لقد طور جاك لندن بهذا الخصوص، نظرية عن ثنائية الشخصية الإنسانية: شخصية حالمة وأخرى عقلانية، معطى يميز بعمق حياة أيامنا وكذا ليالينا: ''لابد أنها شخصية أخرى مختلفة تسقط حينما ننام وقد خبرت سلفا تجربة هذا السقوط، وتمتلك عموما، ذكرى مغامرات حدثت لسلالة من الماضي، مثلما تحتفظ شخصيتنا الليلية بذاكرة وقائع حياتنا إبان اليقظة'' (ص 29): "يمثل لدينا حلم السقوط في الفضاء الذكرى العِرْقِيّةَ الأكثر شيوعا''. تجعلنا أهمية هذه الفرضيات، ندرك إلى أي حد تمتلك مجازات السقوط مبررات كي تفرض ذاتها على النفسيات الأكثر تنوعا.
يظهر إذن بأنه يلزم المقاربة النفسية للمنحى العمودي، تكريس دراسات مستفيضة لانطباعات وكذا مجازات السقوط. مع ذلك، لن يتجه اهتمامنا بهذا الخصوص سوى في إطار فصل مقتضب، مع غاية بسيطة تتوخى تحديدا أفضل لما نعتقده يمثل فعلا تجربة وضعية المنحى العمودي والتي بحسبنا عَمودية ديناميكية صوب الأعلى. لذلك، ورغم عدد انطباعات السقوط وكذا واقعيتها، نعتقد بأن المحور الفعلي للخيال العمودي يتوجه صوب الأعلى. بالتالي، نتخيل الوثوب نحو الأعلى ثم نختبر السقوط إلى الأسفل. بيد أنه، لا نتخيل جيدا ما نحيط به علما.
كتب ويليام بليك تحديدا: ''لم تتوقف قط الأشياء الطبيعية كي تضعف داخلي بل تنهك وتمحو الخيال''(1). إذن، يتصدر الأعلى الأدنى ثم يحكم اللا- واقعي واقعية الخيال. بما أنها أطروحة تحتاج إلى البرهنة عليها خلال كل مناسبة، لنطرح المبررات التي توجهنا بخصوص اختيار منهجيتنا.
رغم غزارة صور السقوط، فإنها بعيدة على أن تكون ثرية جدا بانطباعات ديناميكية لا يدركها تفكيرنا بمجرد تمحيص أولي. السقوط ''الخالص" نادر. عموما، تتسم صور السقوط بثراء الانضمام؛ بحيث يضم إليها الشاعر وقائع خارجية كليا. بالتالي، عدم تفعيله حقا لخيالنا الديناميكي. مثلا، لا يفيد شيئا، بهدف إثارة خيالنا الديناميكي، أن يُقال لنا، كما فعل جون ميلتون في فردوسه المفقود، بأن الشيطان، أسرع من السماء، فسقط خلال تسعة أيام.
يحُول هذا السقوط طيلة تسعة أيام، بيننا وكذا الإحساس بريح السقوط، ثم تتوقف مخاوفنا عن النمو بحكم طول مدة المسافة.يبدو وكأن الشيطان سقط خلال قرن بحيث لم ننتبه إلى الهاوية بكيفية أكثر عمقا. فكم ستكون فعالة جدا انطباعات يعرف الشاعر كيفية إخبارنا من خلالها عن المختلِف في السقوط الحي، بمعنى تحول العنصر نفسه الذي سقط، ثم يغدو حين سقوطه، إبان اللحظة نفسها، أكثر وزنا، وثقلا، ومُذْنبا جدا.
تنطوي ذواتنا، على مصدر هذا السقوط الحي، وكذا مسؤوليته، في إطار نفسية مركَّبَة لكائن مهزوم. سنضاعف إيقاع ذلك حين التآلف بين العِلَّة والمسؤولية. هكذا، حين التشديد على النبر معنويا، فالسقوط لا يكتسي طابعا طارئا، لكن بموجب الجوهر نفسه. يلزم كل صورة الاغتناء بمجازات كي تضفي الحياة على الخيال.
الخيال، مبدأ أولي لفلسفة مثالية، تقتضي وضع الموضوع كلِّية، في إطار مجمل صوره. تخيُّل عالم، يعني استمرارك مسؤولا، معنويا عن هذا العالم. كل نظرية حول السببية المتخيَّلة، بمثابة نظرية للمسؤولية (2). دائما، يرتجف قليلا كل كائن مولع بالتأمل حينما يتأمل قواه الأولية. تستدعي إذن كل رمزية، قوى ارتباط يتجاوز زخمها تلك الصلات بين الصور المرئية.
يمثل بالتأكيد الشيطان لدى ميلتون، رمز سقوط معنوي، غير أن ضوء الرمز انطفأ، عندما أظهر لنا الملاك المهزوم موضوعا يندفع بسرعة من السماء. تمثل غالبا الدوخة الكمية نقيضا للدوخة النوعية. ينبغي كي نتخيل الدوران، إرجاعه إلى فلسفة للحظة، وكذا مباغتته في خضم تناقضه الكلي حينما يغدو كائننا تماما خائر القوى. إنها صيرورة صاعقة. إذا أمكنها أن تمدنا بصور، فيلزمها أن تثير لدينا تحليلا نفسيا لملائكة تكابد التدمير. يلزم انطواء السقوط في نفس الوقت على مختلف المعاني: يكون خلال اللحظة ذاتها مجازا وحقيقة.
لكن ليس فقط الفقر الديناميكي لصور السقوط من يتجه بنا صوب اختيار الارتفاع باعتباره مسارا إيجابيا للخيال الديناميكي. بل، العلة أكثر عمقا: بالتالي، نعتقد أننا نحافظ على وفائنا لماهية الخيال الديناميكي.
هكذا، حينما يمتثل الخيال الديناميكي لدوره المتمثل في بعث صور الحركة، ثم لا ينحصر عند وصف حركي للظواهر الخارجية، تخيَّلْ نحو الأعلى. لا يقترح فعلا الخيال الديناميكي سوى صور الاندفاع، الوثوب، الانطلاق، باختصار صور تأخذ معها الحركة المتجلية دلالة القوة المتخيَّلة بفعالية. أبانت باستمرار القوى المتخيَّلة عن عمل إيجابي. لا يتناسب الخيال الديناميكي وصور القدرة على المقاومة. يحتاج دائما تخيُّله حقا، التأثير، والهجوم دون توقف.
حتما، تتلوث الصورة الديناميكية بتلك الحركات الفعلية التي أدركتها الرؤية؛ لكن وفق مبدئها تتوخى الصورة الحركة، أو أكثر تحديدا يمثل الخيال الديناميكي بكيفية دقيقة جدا حلم الإرادة؛ إنها الإرادة التي تحلم. لا يمكن إنكار هذه الإرادة الحالمة بنجاحها، خاصة أحلامها الأولى. هكذا، تجسِّد حياة الخيال الديناميكي أسطورة فتوحات تكتسح الثقل. يستحيل تشكُّل مجاز ديناميكي صوب الأسفل، بحيث لا تزهر وردة متخيَّلة ناحية ذاك الأسفل. لا يكمن هنا تفاؤل يسير. كما لا نستخلص من ذلك، انعدام جمالية الورود المتخيَّلة التي تحيا على حلم أرضي. لكن الورود إبان أزمة روحية، ثم بين طيات فؤاد أرضي بحماسة لرجل تحت أرضي، تظل على أية حال ورودا تعلو. فالصعود دلالة فعلية لإنتاج الصور، وفعلا إيحابيا للخيال الديناميكي. إذن، يبدو لنا مستحيلا الإحساس بالخيال الفعلي، دون إذكاء الوعي بالمحور العمودي وفق دلالة الصعود.
ليس الجحيم النابض بالحياة، جحيما نحفره. إنه جحيم يحرق، ثم يتقوَّم، له مدارات شعل، وصرخات. جحيم متنامية آلامه. ألم يتوجع يفقد تفاضليته الجهنمية. بيد أنه عندما ندرس الخيال الديناميكي للنمو وفق مبدئه – إذا لم نتناول النمو وفق منحاه الهندسي والمجرد- سيتضح لنا بأن نَمَا تعني باستمرار ارتفع.
بوجع، يرتفع البعض عبر حياتهم المتخيلة، يرتفعون بوجع، يُنعت هؤلاء بالأرضيين. بينما يرتفع آخرون في إطار انبهار بقوتهم اللينة، بالتالي يجسدون الهوائيين. بوسعنا انطلاقا من عناصر الأرض والهواء المتخيَّلة، أن نصف تقريبا جل أحلام إرادة متنامية. ينمو كل شيء تبعا لسيادة الصورة .
سندرس خيال السقوط كنوع من مرض خيال الصعود، وحنين نحو الأعلى يتعذر إخماده. سنقدم فورا مثالا عن دلالة الحنين تلك المرتبطة بالخيال الديناميكي للهوة. صادفنا بهذا الخصوص تعبيرا مثيرا لصاحبه توماس دي كوينسي، أشار إليه أرفيد بارين (3) : "يبدو لي، كل ليلة – ليس مجازيا، بل حرفيا- كأني منحدر صوب هاويات وأغوار مظلمة، بعيدا عن كل عمق ممكن، دون أمل قط بخصوص إمكانية الصعود ثانية، وحينما استيقظت، لم أشعر فعلا بأني صعدت ثانية". السقوط في هذا السياق، وبكيفية مغايرة لطريقة جون ميلتون، غير متعلق بتوقيت محدَّد: بل يتسم على نحو عميق أكثر، بيأسه وكذا خاصيته الجوهرية والدائمة. يمكث شيء معين داخلنا، ينتزع هذا الأمل بخصوص ''الصعود ثانية"، ويكرس لدينا باستمرار وعيا بالسقوط. يستغرق ''الكائن'' شعور بالذنب.
لنلاحظ أساسا بكيفية جيدة، الخاصية الديناميكية لمفهوم الهاوية عند توماس دي كوينسي. فالهوَّة غير مرئية، وظلمتها ليست مصدرا للرعب. لا مكان للنظرة عند الصور. تُستنبط الهوَّة من السقوط، بينما ترتبط الصور بالحركة. تحرض نص توماس دي كوينسي صورة ديناميكية مباشرة. أسقُطُ، تفتح إذن هوَّة تحت قدمي. أستمرُّ في السقوط، من ثمة هوَّة يتعذر سبرها. يخلق سقوطي هوَّة، بعيدا على أن الأخيرة تمثل علة لسقوطي. سأتطلع بلا جدوى، نحو إمكانية استعادة النور أو أعيش ثانية بجوار الأحياء. لقد ترك سقوطي الليلي أثره بالنسبة لحياتي، غير قابل للمحو. يصعب أن يحضر لدي ثانية الشعور بالصعود وقد أضحى السقوط منذئذ محورا نفسيا ينطوي عليه وجودي نفسه: السقوط، مصير رؤاي.
الرؤيا، التي تجعل طبعا الأفراد سعداء وقد انتموا إلى وطنهم الهوائي، ستقذف بي قياسا لهذا السياق بعيدا عن النور.
تعيس، قياسا للجميع، الكائن الذي اتسمت رؤياه بالثِّقل! تعيس الكائن الذي انجذبت رؤياه إلى مرض الهوَّة.
*هوامش:
*مصدر المقالة:
Gaston Bachelard :Lair et Les songes .Essai sur l imagination du mouvement(1943).pp :107 -112.
(1) أشار إليه هيربيرت ريد : الشاعر الغرافيكي (1930)
(2) أظهر أوتو رانك بإسهاب (إرادة السعادة) العلاقات بين مفهومي السببية والشعور بالذنب.
(3) أرفيد بارين :المصابون بالعُصَاب،هاشيت ص 55 .