في أكتوبر 1999، دخل اليهودي، "غوزينسكي"، أحد كبار رجالات "الأليجارك" وأوقحهم، الذي كان يمتلك كبرى محطات التلفزة والراديو في روسيا، إلى مكتب رئيس الوزراء الجديد "فلاديمير بوتين"، دون استئذان، مقتربا، وبنبرة من التعالي والاستهزاء قائلا:-
"إن لم أحصل على 47 مليون دولار من حكومتك خلال أيام، فلن تكون رئيسا للبلاد في يوم من الأيام"!
ورد "بوتين" بهدوء: سنرى!
وبعد النجاح الهزيل (53% من الأصوات)، في أول انتخابات رئاسية له، قرر "بوتين"، الانقضاض أولا، على "الأليجارك" والعصابات التي حكمت واستعبدت البلاد، وذلك بعد أن أضحى 70% من اقتصاد روسيا في أيديهم، (سيطر 7 رجال فقط! على 50% من اقتصاد البلاد، منهم روسي واحد فقط والباقي يهود)!
ولم يُعر أي من الأليجارك، أي اهتمام لسيد الكرملين الجديد، وظنوا أنهم بعيدون عن مرماه، بعد أن جندوا وسخروا له طاقاتهم في حملته الانتخابية.
ومع ذلك، كان اليهودي، "بيري زوفسكي"، أو "كاردينال الكرملين"، هو الهدف الأول "لبوتين". الذي كان أول من أحسَّ، بأن حساباته وحسابات رجالات الأليجارك، في دعم الرئيس الجديد كانت خاطئة، وذلك بعد أن قام "بوتين" في اليوم الأول من تسلمه السلطة، بطرد ابنة الرئيس "يلتسين" وزوجها من الكرملين. يذكر أن "الثلاثي":- "بيري زوفسكي" وابنة الرئيس "تانيا" وزوجها، كانوا هم (حكام روسيا الفعليين) طيلة فترة إجراء عملية القلب المفتوح "ليلتسين" وتغيبه عن الكرملين لأشهر طوال. وسميت تلك الفترة "بالفترة السوداء"، بعد أن استباحوا "اليابس قبل الأخضر" من خيرات روسيا وقوتها.
ولم يكن "بوتين"، لينسى ذاك الدور الذي لعبه "بيري زوفسكي" في تأجيج الحربين مع الشيشان، حتى وصل به الأمر أنه كان يرسل للقوات الشيشانية، إحداثيات مواقع الجيش الروسي لضربها، في الوقت الذي كان يشغل فيه (بيري زوفسكي)، منصب نائب سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي!
وما إن شعر"بيرزوفسكي" بأن الخطر قادم إليه لا محالة، حتى استطاع الهرب إلى بريطانيا. وتم منح الرجل "فورا"، حق اللجوء السياسي. ومن هناك، صار الرجل ينتقد، ويهدد، ويخطط ويدبر علانية لانقلاب للإطاحة بحكم الطاغية "بوتين"! علما بأن مذكرات قانونية عديدة كانت قد صدرت من القضاء الروسي، ومن منظمة الإنتربول الدولية بجلبه إلى روسيا لمحاكمتة بتهم الفساد، والاحتيال، وغسيل الأموال.
ثم حمل الرجل جنسيته الإسرائيلية، وعاش في إسرائيل ليعود، بعدها إلى بريطانيا ويقوم بتوجيه "رسالة مفتوحة" إلى بوتين يطلب منه المسامحة والغفران، معلنا التوبة والأمل والرجاء في العودة إلى روسيا لخدمة أمته وبلده و.. رئيسه "بوتين"! الذي لم يعر أي اهتمامات لتوسلات المواطن السابق. وانتهى الرجل منتحرا في لندن عام 2013 في ظروف وصفت بالغامضة.
وسرعان ما صدرت الأوامر بالاستيلاء على وسائل الإعلام الروسية بالقوة، بعد أن وصلت الوقاحة ب"غوزينسكي"، أن صار موكب سياراته يشبه تماما موكب سيارات الرئيس الروسي نفسه!
وفي حزيران 2000 قام رجالات "بوتين" بالسيطرة، على غالببية محطات الإذاعة والتلفزيونات التابعة "لرجالات الأليجارك". وتم إلقاء القبض على "غوزينسكي"، الذي أُفرج عنه بعد أن تنازل للدولة عن جميع ممتلكاته. وهو الآن يشغل منصب، نائب رئيس المؤتمر اليهودي العالمي لشرق أوروبا، ويقيم في إسرائيل.
وفي تموز 2000، ألقى بوتين خطابا أمام البرلمان الروسي استمر 50 دقيقة، كرر فيه كلمة "ديكتاتورية الدولة" و"ديكتاتورية قانون الدولة" 95 مرة! مرسلا، إشاراته القوية والنهائية إلى جميع "من يهمهم الأمر" لتسوية أوضاعهم قبل فوات الأوان.
وفي اجتماع بعدها مع الأليجارك طالبهم "بوتين" بعدم تدخلهم، وبشكل نهائي، في سياسات الدولة الداخلية والخارجية، ووقف بيع المؤسسات والمصانع والشركات إلى الدول الغربية. وحثهم على الاستثمار داخل الوطن. يذكر أن، الملياردير "أبراموفيتش" الذي اشترى بعدها نادي تشيلسي البريطاني، (الذي تم مصادرته قبل شهر/ نيسان 2022!!) كان من بين الحضور!
ووصلت درجة السخرية وعدم اهتمام الأليجارك بما سمعوه من "بوتين"، أن طلبوا من إحدى الفرق الغنائية الشابة، في موسكو، تأليف أغنية هزلية، تقول، "لقد انتهينا… لقد قضي علينا.. ترا رتا تا".
وظل البعض يرقص على ألحان تلك الأغنية، غير آبه بإنذارات الرجل!
أما غالبية الناس، فكانت تسمع، وترى، وتراقب بأعينها، وتنتظر من سيرقص وسيغني في آخر الأمر؟، ومن سيكون الحاكم الفعلي للكرملين، "بوتين" أم "الأليجارك"؟.
أما رجالات الرئيس الجديد فكانوا يقولون:-
لقد أعذر "بوتين" من أنذر!
وكان لا بد "لبوتين"، من أن يستكمل عمله بضرب رأس الأفعى منهم.
ففي مساء يوم خريفي، اقتحمت مجموعة من رجال المخابرات مكاتب الشركة التي يرأسها اليهودي الروسي، و"ملك صناعة النفط" الملياردير "خدرا كوفسكي"، الذي اعتقل من طائرته الخاصة، بعد أن وضعت الأصفاد، في يديه، وهو يكاد لا يصدق عينيه، (وعيون الروس أيضا)، ليقضي بعدها الملياردير، قرابة عشر سنوات في سجون سيبيريا.
ومع اعتقال "خدرا كوفسكي"، وغيره من مدراء الشركات سيئة السمعة والصيت، تم إعادة صياغة جميع عقود تلك الشركات بما يتناسب مع المصلحة القومية الروسية، ليتأكد الناس بعدها أن "فلاديمير بوتين" هو الحاكم الفعلي للكرملين.
وانطوت تلك الصفحة السوداء من تاريخ البلاد، بعد أن شاهد الروس بأم أعينهم، نهاية إمبراطوريات "الأليجارك".
وبدأ الناس يتنفسون الصعداء، وازدادت أعداد الروس الذين أصبحوا يثقون بقيصرهم الجديد. وبدأ بوتين بإعادة الروح الوطنية إلى الشعب الروسي، بعد أن ظهر في مساء أحد الأيام، في لقاء مفتوح على شاشات المحطات التلفزيونية، وهو يعلنُ بنبرة من الجدية الحازمة ويقول:-
إن أي شخص، أو أي جهة كانت في روسيا، أو في غير روسيا، يفكر بالاعتداء على أي رجل شرطي، أو أي من رجالات الحكومة الاتحادية، سيلقى الصاع بعشرة أمثالها! وأن أي استهداف، وقتل لأي موظف حكومي، سواء أكان متعمدا أم غير متعمد، سيقابله مقتل عشرة رجال من الطرف المعتدي.. أيا كان!
وفهم الروس أن الغد سيكون أفضل، وأكثر أمنا لهم منذ اليوم، إن هم تمسكوا بزعيمهم الجديد.
وبدأ عهد الأمن والأمان!
وبدأ "بوتين" بإعادة الروح الوطنية إلى الشعب الروسي
وأعاد الرجل كتابة كلمات النشيد الوطني (الجميل جدا) للاتحاد السوفياتي، ليصبح النشيد الوطني لروسيا "الجديدة"، بكلمات جديدة تعيد روح الدولة العظمى للروس، حتى عاد المواطن العادي بعد سنوات قليلة! يقول:-
صحيح أنني شخص عادي وصغير.. ولكن دولتي هي دولة عظمى.
أما أغنية الأليجارك السابقة، (ترا رتا تا… لقد انتهينا.. .لقد قُضيَ علينا)، فقد صارت بعدها نكتة، يتداولها الروس حتى اليوم حين يتردد اسم "الأليجارك" على أي لسان .