إذا كانت النكبة قد أحيت في العرب، ومن ضمنهم الفلسطينيين، رغبة الثأر لسلبهم أرضهم وطردهم منها والرد على ما حلَّ بهم، فإن النكسة استخدمت من قبل الأنظمة العربية لإطفاء هذه الرغبة وإلغائها. وهذه الرغبة الملغاةُ أو المطفأة تحملُ معها خطاب ضمانِ ديمومة هذا الانطفاء أو الإلغاء، إذ تم توظيفُ النكسة لخلق ذاكرة هزيمةٍ يصعبُ على العرب تخطيها، بل جعلها معاملاً أساسياً في تشكيل حاضرهم بذريعةِ أن الهزيمة هي قدرٌ والانتصارَ لغوٌ، لتصبح تلك هي الطريقةُ الوحيدةُ التي تستدعيها الذاكرةُ العربية عن النكسة.
وقد جاء فرضُ ذاكرةِ الهزيمة الذي اتّبعتهُ الأنظمة العربيةُ، وابتدأ مسارهُ مع تسلم السادات للحكم في مصر، ملازماً بالضرورة لاتّباع سياسات تطبيع الهزيمة عبر إنتاج مجموعةٍ جديدةٍ من المتخيلات الاجتماعية والسياسية، سواء على الصعيد العربي عموماً أو على الصعيد الفلسطيني على وجه الخصوص، لتعمل هذه المتخيلات هي الأخرى، على ضمان ديمومةِ الهزيمة، بل ولتصبح محاولات تخطيها أو محو آثارها صراعاً من أجل فرض ديمومتها. وقد نتج عن ذلك أن تحولت "الهزيمة" إلى بنية مركبة قائمة بذاتها، ومنها تم اشتقاق "هزائم مصغرة"، لكنها في المحصلة اشتركت في تحويل "العربي" عموماً و"الفلسطيني" خصوصاً، إلى "كائن مهزوم"، لأن "الانهزامية" صارت المتخيل الأساس الذي يتم منه اشتقاق المتخيلات الاجتماعية والسياسية الأخرى التي تشكل واقعه.
وإذا كنا نؤرخ فلسطينياً لـ "النكبة" باعتبارها بداية المظلمة التاريخية بحق الفلسطينيين، فإن "النكسة" هي بداية المظلمة السياسية بحقهم. ورغم أن هزيمة حزيران قد ساهمت في تخليص الفلسطينيين من قيود الوصاية الرسمية العربية على تمثيلهم السياسي، وفتحت أمامهم أفق الكفاح المسلح، إلا أنه وفي أعقاب التوجهات السياسية التي بدأت بعض قيادات منظمة التحرير الفلسطينية تبنيها، وجب التخلُّصُ من خطاب يبني فعله السياسي ومتخيلاته حول المقاومة والكفاح المسلح، واستبداله بخطابٍ قادر على التغلغلِ في وجدان الفلسطينيين وبناء متخيلات اجتماعية-سياسية تدور حول "إقامة الدولة الفلسطينية"، ولكن دون إنهاء المظلمة التاريخية للفلسطينيين التي يبدأ تحقيبها بالنكبة. بل وأصبحت النكسةُ/ الهزيمةُ نقطةَ الانطلاق، فأصبحت فلسطين على الخارطةِ أصغر، وخضع الفلسطيني لإعادة تعريف على المستوى الهويات، فيما صارت النكبة سرديةً تجلسُ في المقعد الخلفي، في حين تقودُ النكسةُ عربة العرب والفلسطينيين، وتتوقف عند محطات السلام وخرائطه وتطبيعه.
لقد حوَّلت "سياسة تطبيع الهزيمة" في الوجدان العربي الهزيمة إلى بنية ذهنية وإلى ممارسةٍ معتادة في السلوكيات اليومية للعرب وللفلسطينيين هدفها جعلُ الخلاص من الاستعمار وتحرير كامل فلسطين شرطاً غير قابلٍ للتحقق، فهل تقبلُ الشعوب العربية سياسات أنظمتها الرسمية أم أنها ما زالت قادرة على استنهاض دورها الذي يبدأ من فلسطين رداً على ذاكرة الهزيمة المفروضة من أعلى؟