إسرائيل تعالج هزيمتها بالوعي خلال سيف القدس
الانطباع في الحرب.. معيار أساسي في الانتصار
الدعاية الموجهة.. أداة لسدّ الثغرات في عدم تكافؤ القوة
خاص الحدث
يجمع خبراء أمنيون وعسكريون إسرائيليون على أن أهم إنجازات حققته حركة حماس ومعها فصائل المقاومة الأخرى خلال معركة سيف القدس التي بدأت وانتهت في مايو 2021، كانت تلك المرتبطة بالوعي، فالحركة التي بدأت المعركة بما عاد يُعرف "الإنذار الأخير"، ظلت خلال أيامها تحاول أن تخلق نموذجا من الالتزام الحديدي بكلمتها عبر تحديد موعد الضربات والأماكن التي ستضربها وحتى الأعداد التقريبية لعدد الصواريخ التي ستضرب. ساهمت تكتيكات الوعي، في سد الفجوة بين قوتين عسكريتين غير متكافئتين، وفي تعزيز مفاهيم الانتصار الإدراكي والردع بالوعي.
وخلال سيف القدس، فاجأت الجماهير الفلسطينية في الداخل المحتل كلا من فصائل المقاومة والمؤسسة الأمنية الإسرائيلية، عندما انتفضت على نطاق واسع، وأدخلت أدوات مواجهة واحتجاج جديدة، تمثلت بالسلاح الناري، وهذا ما لم تكن تتنبأ به إسرائيل، التي وقفت عاجزة تماما أمام هذا التحول الشديد، واليوم ترى أن الاستنتاج الأهم مما جرى في ما يعرف بالمدن المختلطة، هو أن الأحداث لم تكن نتيجة لشرارة عابرة استطاعت أن تشعل الساحة بل نتيجة لتراكم الوعي الذي يتجاوز حدود الأنظمة المختلفة على الجغرافيا الفلسطينية المقسمة وبمعنى أبسط الارتباط بالقضايا الفلسطينية في كل الساحات دون تمييز.
هذه المقدمة السريعة تؤكد أن الأداة التي حاربت من خلال المقاومة كانت الإدراك، والساحة التي انتصر فيها الوعي، هذه قراءة يجمع عليها الإسرائيليون والفلسطينيون والمراقبون. ومن هنا يمكن البدء بتفسير السلوك الإسرائيلي خلال عام كامل بعد انتهاء المعركة.
معركة الانطباع
من الأسئلة الصعبة التي طُرحت على طاولة المؤسسة الأمنية والنخبة الإسرائيلية منذ اليوم الأول لمعركة سيف القدس، كيف يمكن أن نخلق انطباعا بالنصر؟ كيف يمكن أن نخلق انطباعا بالردع؟!. كان الكل يعلم أن مسألة إسقاط حكم حماس أو الدخول في حرب برية واسعة في قطاع غزة أمر غير مطروح لأن تكاليفه عالية جدا وتبعاته الاستراتيجية ضبابية جدا، لذلك كانت النماذج السابقة من جولات القتال حاضرة في جوهر التحليل. الجولات السريعة والمكثفة لا تحقق الغرض المرجو، وهو الهدوء، إنها تؤجل المعركة لأشهر أو سنين أخرى، ثم تكون معركة أشد قسوة وقوة. لذلك، كان من المهم دراسة تفاعلات الوعي خلال المعركة، لتكثيف الخطاب المساند للآلة العسكرية من أجل خلق شعور لدى الفلسطيني ومقاومته بالهزيمة وبالتالي تحقيق الردع.
النقاش حول أهمية خلق الانطباع عن الهزيمة والانتصار، والذي نشأ في الأيام الأولى لمعركة سيف القدس لم يكن جديدا على المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية. في يونيو 2019 كشف روني بن يشاي أحد المحللين العسكريين الإسرائيليين في مقال نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت أن رئيس هيئة أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي أفيف كوخافي، عقد بعد أيام قليلة من توليه منصبه، جلسة عصف ذهني استمرت عدة أيام بمشاركة كبار ضباط جيش الاحتلال الإسرائيلي، بهدف توضيح وتعريف المعنى العملي لمصطلح "النصر". بعبارة أخرى، تعريف ومعرفة ما يحتاجه جيش الاحتلال الإسرائيلي في الحرب القادمة، لإنقاذ صورته كمنتصر.
هذا النقاش الذي كشف عنه بن يشاي كان قبل معركة سيف القدس بعامين، لكن هذا المحلل المخضرم بحكم تجربته العسكرية ومعلوماته، توقع في حينها بأن إسرائيل لن تنتصر في الحرب القادمة، معتمدا في تحليله على مفهوم "النصر" على المتغيرات الجديدة في ساحة المعركة، خاصة تلك المتعلقة بـ"معركة الوعي"، وقد قال في حينها "أستطيع أن أقدر، أن الجيش الإسرائيلي اليوم قوي وعلى مستوى عال من الاستعداد للحرب غير المتكافئة أو التقليدية على جبهتين أو ثلاث في وقت واحد، ولكن ما يمنع إنتاج "النصر" هو الظواهر الاجتماعية والعقلية والسياسية التي نشأت في المجتمع المدني وفي علاقات المجتمع العسكري في إسرائيل".
توضح هذه النقاشات ملامح النتائج المرجوة من كل معركة، وفي ضوء ما تقدم يمكن القول إن النتائج الميدانية، كتدمير الأبراج وقصف المنازل والبنية التحتية وقتل العشرات أو المئات، لم تعد معيارا نهائيا للحكم على هزيمة الخصم، ففي الحرب الكلاسيكية، يتم تحقيق الردع من خلال صورة واضحة للنصر، أحد أبرز مظاهرها رفع العلم على أرض الخصم أو العدم، لكن الردع في عصر التكنولوجيا والتدفق السريع وغير المحدود للمعلومات يتحقق من خلال إدارة معركة مع الانطباعات، أي داخل حدود الوعي، ومن يخلق تصورا لدى جمهوره وجمهور العدو بأنه انتصر، فهو المنتصر النهائي.
ومن أوضح الأمثلة على قوة وتأثير معركة الانطباع في خضم الحرب أو المعركة العسكرية، ما كانت تعلن عنه كتائب القسام الذراع العسكرية لحركة المقاومة الإسلامية حماس، بأنه بأمر من قائد هيئة أركانها محمد الضيف يُمنع التجول في تل أبيب الساعة 9:00، ثم يتلوه إعلان باستخدام نفس الرموز ليعلن عن رفع التجول عن تل أبيب. لا تستطيع كتائب القسام أن تغرق تل أبيب بالصواريخ على مدار الساعة، لكنها استطاعت أن تخلق انطباعا لدى الفلسطينيين والإسرائيليين بأنها هي من تتحكم بالموقف وتدير المعركة وروتين الحياة في تل أبيب وفق ساعتها، وقد خلقت هذه الإعلانات من طرفها تصورا وانطباعا أنها تدير الأمور من مصدر القوة والقدرة، لكن في الحقيقة لو كان لديها ما يكفي لضرب تل أبيب ليل نهار، لضربتها ليل نهار. إذن بهذه الطريقة خلقت من نقطة الضعف نقاط قوة، كل ذلك كان يدور في ساحة الوعي.
ومن المهم في هذا السياق تعريف معركة الوعي أو الحرب النفسية، وهو الاستخدام المنظم للمعلومة والدعاية بغرض التأثير على نفسية ومشاعر مواقف وسلوك العدو، بطريقة تحقق أهدافا ذاتية. ولتوجيه رسائلك بدقة إلى الطرف الآخر، عليك أن تفهم من هو جمهورك وما الذي يحتاجه. هذه بالضبط هي الفكرة من وراء مفهوم "صورة النصر". ما يهم في صورة النصر ليست نتائج المعركة الفعلية، بل المشاعر والتصورات التي تتشكل طوال العملية. كان شعار "تل أبيب تحترق" الذي أطلقته حماس كافيا لحسم المعركة لأن الخصم أو العدو قد تبناه، ظهر ذات الشعار على صحف ومواقع إسرائيلية، وقضي الأمر.
إسرائيل تدير معركة وعي على مدار عام
ما سبق يشير بشكل واضح إلى أن إسرائيل بدأت تستنتج شيئا فشيئا أن عليها أن تتبع أسلوب الجماعات محدودة القوة في معاركها، وأن تتخلى عن عدد من أصول واعتبارات النظامية العسكرية والدعائية. لذلك كثفت في العام الذي تلا سيف القدس من معركتها على الوعي، وكانت مستعدة لدفع ثمن بعض المخاطرات. فمثلا تكشف إحصائيات نشرتها شرطة الاحتلال الإسرائيلي أن عدد المقتحمين للمسجد الأقصى من المستوطنين، خلال العام الجاري، كان تاريخيا وغير مسبوق. كان هذا مهما بالنسبة للإسرائيليين أن يؤكدوا لجمهورهم بالدرجة الأساس، وفي إطار معالجتهم لمعركة الوعي خلال سيف القدس، أن شيئا لم يتغير والمعركة من طرف الفلسطينيين لم تحقق أهدافها، بل إن الواقع يسير بعكس الانطباع الموجود.
بالإضافة إلى موضوع الاقتحامات، كثفت إسرائيل من قمعها للمقدسيين، حتى الجنازات لم تسلم، وخاضت حربا مكثفة على كل انطباع لدى المقدسيين بأن هناك من يحميهم ويدافع عنهم. هذا يعني أنها كانت مدركة لحقيقة أن الهتافات التي أطلقها المقدسيون لقائد أركان حماس محمد الضيف ولرئيسها في قطاع غزة يحيى السنوار هي نتيجة مباشرة لنتائج معركة الوعي التي تحققت في سيف القدس. وبالنسبة لها كان من المهم إفراغ النداء أو الهتاف من مضمونه ومعناه والانطباع الذي بني عليه. هدف إسرائيل، أن يشعر المقدسي بأثر رجعي أن أحدا لن يحميه وأن سيف القدس لم تنتصر، ومن خلال الإجراءات التي اتخذتها وتمثلت بالقمع حاولت أن يراجع كل مقدسي انطباعه وتصوره.
يضاف إلى ما سبق، اجتياز إسرائيل لكل الخطوط الحمراء في المسجد الأقصى وبشكل غير مسبوق، فبينما كانت تتحدث حماس عن العودة إلى ما قبل عام 2000 من حيث اقتحامات المستوطنين وغيرها من الممارسات في المسجد الأقصى، ذهبت إسرائيل من خلال المستوطنين إلى تسجيل مواقف تاريخية وغير مسبوقة، من بينها أداء المستوطنين للسجود الملحمي ورفع العلم الإسرائيلي في المسجد الأقصى وأداء الصلوات العلنية واقتحام الشخصيات السياسية من بينها إيتمار بن غبير للأقصى بشكل سلس لا يشبه ما كان سابقا.
وحتى مسيرة الأعلام، فقد كانت الأكبر منذ عقود، وظلت في مسارها المخطط له، وتخللتها اعتداءات على الفلسطينيين، وكان من اللافت أن مكتب رئيس حكومة الاحتلال نفتالي بينيت قد أصدر أكثر من بيان يؤكد على أن مسار المسيرة لن يتغير، وتناقلت وسائل الإعلام الإسرائيلية موقف المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية الرافض لأي تغيير في مسار المسيرة وذلك على نحو غير مسبوق ومختلف عما كان في 2021. كان هذا الشق من الدعاية الموجهة يستهدف بالأساس الجمهور الإسرائيلي لمعالجة الضرر الذي أصاب وعيه بعد سيف القدس، بالإضافة إلى استهداف الانطباعات والتصورات التي تشكلت لدى الفلسطينيين حول الانتصار والهزيمة.
لكن أكثر ما سبب الضرر لانطباعات الفلسطيني، كان عدم تناسب الخطاب الذي أطلقته حركة حماس في الأيام التي سبقت مسيرة الأعلام واقتحام الأقصى، إلى درجة أن رئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية قال في تصريح صحفي إن مسيرة الأعلام لن تمر، ولا شيء يمنع المقاومة من دخول حرب جديدة. السنوار هو الآخر رفع من سقف الخطاب وعاش الفلسطينيون في متخيل كبير لم يحدث. ولذلك يمكن القول إن الوعي الذي حقق انتصارات واعية للمقاومة، هو نفسه الذي استخدم هذه المرة ضدها، من خلال الدعاية الإسرائيلية المباشرة والخطاب الذي لم يترجم واقعا. هذا ما أشعر الفلسطينيين بالهزيمة يوم 29 مايو، وجعلهم يراجعون انطباعاتهم وبالتالي انتصاراتهم، وهذا واحد من أهداف إسرائيل.